الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان
سورةُ الفُرْقانِ مكيَّةٌ بكاملِها، وعامَّةُ السلفِ على هذا، ويُحكى عن ابنِ عبَّاسٍ وقتادةَ؛ أنَّهما قالا: إلَّا ثلاثَ آياتٍ منها نزَلَتْ بالمدينةِ، وهي قولُه:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، إلى قولِه:{غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70](1)، والصحيحُ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ هذه الآياتِ الثلاثَ مكيَّةٌ أيضًا كما في الصحيحِ، عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ؛ أنَّه سألَ سعيدَ بنَ جُبَيْرٍ:"هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]، فقال سعيدٌ: قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ"(2)؛ يُريدُ: قولَهُ تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآيةَ [93].
ولم يُوافَقِ الضَّحَّاكُ على قولِهِ: إنَّها مدنيَّةٌ إلَّا الآياتِ الثلاثَ مِن أوَّلها إلى قولِه: {وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3](3)، وآياتُ السُّورةِ ومقاصدُها دالَّةٌ على كونِها مكيَّةً لا مدنيَّةً؛ فإنَّ اللَّهَ ذكَرَ في السورةِ فَضْلَه بإنزالِ القرآنِ، وشيئًا مِن صِفاتِه، وقرَّر توحيدَه، وحذَّر مِن ضلالِ المشرِكينَ باتِّخاذِ إلهٍ مع اللَّهِ، وذكر ما طلَبَهُ المشركونَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكَّةَ مِن معجزاتٍ مقتَرَحةٍ تعنُّتًا وعنادًا، وبيَّنَ عاقِبَتَهم في الآخِرةِ، وذكَرَ سببَ ذلك، وأنَّ أعظَمَ ما
(1)"تفسير القرطبي"(15/ 364).
(2)
أخرجه البخاري (4762).
(3)
"البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 439).
وقَعوا فيه الشِّرْكُ والقتلُ والزِّنى، وقد حرَّم اللَّهُ الزِّنى بمكَّةَ؛ لأنَّه أصلٌ فِطْريٌّ، ثمَّ تأخَّرَ تشريعُ تحريمِ وسائلِه وضبطُها في المدينةِ؛ لأنَّ مَن لا يُقِرُّ بالغايةِ لا يشدَّدُ عليه في الوسيلةِ حتى يُؤمِنَ بحُرْمةِ الغايةِ.
* * *
* قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].
في هذه الآيةِ: ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وسائرُ الأنبياءِ مِن مخالَطةِ الناسِ وفِعْلِ ما يَفعلونَ، وعدمِ الترفُّعِ عمَّا هم عليه مِن مَلْبَسٍ ومأكلٍ ومَشْرَبٍ ومكْسَب، وأنَّه لا يجوزُ لِمَنْ سلَك طريقَ الأنبياءِ أنْ يَتَّخِذَ مِن الدِّينِ سُلَّمًا إلى دنياه، فيَتخِذَ جاهًا ومالًا وسلطانًا لنفسِه، ولمَّا كان كفارُ قُريشٍ أصحابَ دُنيا وحُبِّ للسُّؤْدَدِ والعُلُوِّ والجاهِ، لم يسلِّموا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لكونِه يَدْعوهم إلى اتِّباعِه وهو مِثلُ الناسِ في مأكلِه ومَشْرَبِه ومَمْشَاه، وإنَّما لم بجعَلْه اللَّهُ عاليًا في مَالِه وسلطانِه عليهم؛ لأنَّهم سيُؤمِنونَ طمعًا لا صِدْقًا، وخوفًا ورهبةً لا رغبةً ويقينًا، ثمَّ إنَّ دلك سيُتَّخَذُ سُنَّةً مِن بعدِه لأتباعِه؛ أنْ يَطلُبوا الدُّنيا والعلوَّ والسُّلْطانَ بالدِّينِ، فيُصبحُ الدِّينُ سُلَّمًا لمُبتغِي الدُّنيا لا لمُبتغي الآخِرةِ، ويَدخُلُه كلُّ صاحبِ طمعٍ، ويحرَّفُ الدِّينُ لتُحَقَّقَ الغاياتُ، وكلُّ سلطانٍ وصاحبِ جاهٍ يَتَّخِذُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم له أُسوةً في قصدِ المالِ والشرَفِ.
والأصلُ: أنَّ النَّفسَ إنِ امتلأتْ مِن الدُّنيا، لم يبقَ للدِّينِ شيءٌ، وقد جعَل اللَّهُ فيها مِن كلِّ واحدٍ نصيبًا، ونصيبُ الدِّينِ هو الأكبرُ.
ويُستحَبُّ للعلماءِ ألَّا يَخرُجوا عن عاداتِ الناسِ ما لم تُخالِفْ أمرَ اللَّهِ، فيكونونَ مِثلَهم في مَلْبَسِهم ومَشْرَبِهم ومَأْكَلِهم ومَسْكَنِهم
ومَمْشاهم وقضاءِ حوائجِهم، وألَّا يَتكلَّفوا حالًا تميِّزُهم عنهم، فلا يُوجَدُ في الإسلامِ زِيٌّ يُسمَّى زِيَّ العلماءِ، ولا لِباسٌ يُسمَّى لِباسَ الصالحِين؛ وإنَّما الذي فيه زِيُّ المُسلِمينَ ولباسُهم، فهم فيه سواءٌ، ومَن خرَج عن هذا اللِّباسِ هو الذي امتاز عن المُسلِمينَ بالمخالَفةِ؛ كمَن يَلبَسُ الحريرَ والذهبَ من الرجالِ، ولِباسَ الشُّهْرةِ والمُسْبَلَ مِن الثيابِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَلبَسُ كما يَلبَسُ قومُه: عمامةً وإزارًا ورِداءً، وربَّما ثوبًا وقميصًا وجُبَّةً، ويَتخِذُ لونًا كألوانِهم، وحذاءً كأحذيتِهم، ومَرْكَبًا كمَراكِبِهم، ومَسْكَنًا مِثلَهم، ويَقضي حاجتَهُ وحاجةَ أهلِه كما يَقضي الناسُ حاجتَهم، وهذا هَدْيُ جميعِ الأنبياءِ مِن قبلِه؛ كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
وقد جعَلَ اللَّهُ هذا التفاضُلَ بينَ الخَلْقِ: رفيعٌ ووضيعٌ، وقويٌّ وضعيفٌ، وغنيٌّ وفقيرٌ، ومَلِكٌ ومملوكٌ، وسيِّدٌ وعبدٌ - فتنةً، ليستْ بذاتِها حقًّا ولا باطلًا، وإنَّما الذي يُميِّزُ الحقَّ مِن الباطلِ تمييزُهما بنفسَيْهما؛ فالحقُّ حقٌّ بنفسِه؛ فقد يكونُ مع عبدٍ وقد يكونُ مع سيِّدٍ، وقد يكونُ مع رفيعٍ وقد يكونُ مع وضيعٍ؛ قال عِكْرِمةُ في قولِه تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]: هو التفاضُلُ في الدُّنْيا والقُدْرةِ وقهرِ بعضِكم لبعضٍ؛ فهي الفتنةُ التي قال اللَّهُ: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20](1) فهي فتنةٌ وابتلاءٌ للتمايُزِ، وتحقيقِ سُنَّةِ التدافُعِ، وتركيبِ منظومةِ الكونِ ليستقيمَ أمرُه؛ فإنَّه لا يصحُّ كونٌ الخلقُ فيه مِن جنسٍ ونوعٍ واحدٍ.
* * *
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2675).