الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمَّا المُحْصَنُ:
فهو الذي وَطِئَ بنكاحٍ صحيحٍ وهو حرٌّ عاقلٌ بالغٌ، وحدُّهُ الرجمُ بلا خلافٍ، وقد رَجَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورجَمَ خلفاؤُهُ مِن بعدِه، ولم يَختلِفِ الأمرُ في ذلك في القرونِ المفضَّلةِ، ولا عندَ فقهاءِ الإسلامِ في سائرِ المذاهب الفقهيَّةِ، وقد كان الرجمُ مِن أحكام القرآنِ، فنُسِخَ لفظًا وبَقِيَ حُكمًا، وهي كما قال عمرُ: "كان ممَّا أنزِلَ عليه: آيةُ الرَّجْمِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيًا، فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ)(1).
ورَوَى مسلمٌ، عن عُبَادةَ بنِ الصامتِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ وَالرَّجْمُ)(2).
ومِن ذلك ما ثبَت في "الصحيحين"؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ، وزيدِ بنِ خالدٍ؛ قالا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي، قَالَ:(قُلْ)، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيتُ مِنْهُ بِمئَةِ شاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، فَأخبَرُونِي: أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِئَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَينَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: المِئَةُ شَاةٍ وَالخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)، فغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفتْ فَرَجَمَهَا (3).
(1) أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691).
(2)
أخرجه مسلم (1690).
(3)
أخرجه البخاري (6827)، ومسلم (1697).
وبهذا يَعمَلُ وَيقضِي الخلفاءُ، وفي "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قال: قال عمرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ، أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ (1).
ولم يَختلِفِ الفقهاءُ في ذلك، وقد ظهَر في الزمنِ المتأخِّرِ مَنْ أدرَكَهُ وَهَنُ الغربِ، والْتمَسَ مِن الفهومِ ما يُذلِّلُ به ما يتوهَّمُهُ من قسوةِ الشريعةِ على الفجورِ والظُّلْمِ، فقالوا ببُطْلانِ الرَّجْمِ، وأنَّه ليس مِن الحدودِ، ومنهم مَن نفَى شرعيَّتَةً، ولا يُوجَدُ مَن تشرَّبَ اللَّيبراليَّةَ إلَّا أصابَهُ وَهَنُ الغربِ في إضعافِ المحرَّماتِ، فرَقَّتْ في قلبِهِ عظَمةُ الزِّنى، ورَقَّ في قلبِهِ منزِلةُ الحجابِ والاختلاطِ بالنِّساءِ، فمَن ضَعُفَ في قلبِهِ منزِلةُ الزِّنى وبشاعتُه، ضَعُفَتْ في قلبِهِ منزِلةُ حدودِه، فاستكثَرَ واستعظَمَ الحدَّ على ما رَقَّت منزلتُهُ في قلبِه، ولو نطَق بخلاتِ ذلك تهيُّبًا للشريعةِ.
ويدُلُّ على أنَّه لا يُنكِرُ حدَّ الرجمِ إلَّا مَن كانتْ منزِلةُ الزِّنى في قلبِهِ ليستْ منزلتَهُ في الشريعةِ والفِطْرةِ الصحيحةِ: أنِّي لم أرَ أحدًا ممَّن أنكَرَ الرجمَ اليومَ ولو كان ممَّن يُظهِرُ التديُّنَ والفقهَ إلَّا وذرائعُ الزِّنى هيِّنةٌ في قلبِهِ كالححابِ والاختلاطِ والخَلْوةِ، ومِن علاماتِ ضَعْفِ بشاعةِ الزِّنى: ضَعْفُ ذرائعِهِ في النَّفسِ؛ فإنَّ هوانَ الوسائلِ يدُلُّ على هوانِ الغاياتِ، وهوانُ الغايةِ يدفعُ الى استعظامٍ واستبشاعِ الرجمِ عليها، والزِّنى أهونُ الأفعالِ اليومَ في الغربِ؛ يُشرِّعونَهُ ولا يُحرِّمونَهُ، ولكثرتِهِ وانتشارِهِ فيهم وتشريعِهِ في محاكمِهم؛ لا يَتصوَّرونَ عقوبةً تقعُ على مِثْلِ ما شاعَ فيهم ورأَوْهُ في أنفْسِهم.
(1) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691).