المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنبياء وهي سورةٌ مكيَّةٌ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ السابقةِ التي نزَلَتْ - التفسير والبيان لأحكام القرآن - جـ ٤

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الحجر

- ‌صلاةُ الكَرْبِ، وإذا حَزَبَ الأمرُ:

- ‌سورة النحل

- ‌الانتفاعُ مِن جُلُودِ المَيْتَةِ:

- ‌أنواعُ الانتفاعِ مِن الأنعامِ والدوابِّ:

- ‌لُحُومُ الخَيْلِ والحَمِرِ والبِغَالِ:

- ‌حُكْمُ الاستعاذةِ عندَ القِرَاءةِ:

- ‌صِيَغُ الاستعاذةِ:

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌حُكْمُ اقتِناءِ الكَلْبِ للحِرَاسةِ وغيرِها:

- ‌مشروعيَّةُ الوَكَالةِ والنِّيَابةِ:

- ‌الصلاةُ على الجنازةِ في المَقْبَرةِ:

- ‌الاستثناءُ في اليمينِ:

- ‌سورة مريم

- ‌تسميةُ المولودِ ووقتُها:

- ‌أمرُ الأهلِ بالصلاةِ

- ‌سورة طه

- ‌العِلَّةُ مِن أمرِ موسى بخلعِ نعلَيْهِ:

- ‌الصلاةُ في النِّعَالِ، ودُخُولُ المساجدِ بها:

- ‌قضاءُ الفرائضِ الفائتةِ وترتيبُها:

- ‌هل للصَّلَاةِ الفائِتةِ أذانٌ وإقامةٌ

- ‌حُكْمُ قضاءِ النوافلِ:

- ‌استحبابُ اتِّخاذِ البِطَانةِ الصالحةِ والوزيرِ المُعِينِ:

- ‌سورة الأنبياء

- ‌الأحوالُ التي جاء الترخيصُ فيها بالكَذِبِ للمَصْلَحةِ:

- ‌سورة الحج

- ‌حُكْمُ بيعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ودُورِها:

- ‌تفاضُلُ المَشْيِ والرُّكُوبِ في الحَجِّ:

- ‌الهَدْيُ والأُضْحِيَّةُ والأَكْلُ منها:

- ‌نقسيمُ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ:

- ‌مَرَاتِبُ التمكينِ وشروطُهُ:

- ‌سورة المؤمنون

- ‌معنى الخشوعِ:

- ‌حُكْمُ الخشوعِ في الصلاةِ:

- ‌حُكْمُ الاستمناءِ:

- ‌دعاءُ نزولِ المَنْزلِ:

- ‌سورة النور

- ‌حَدُّ الزاني والزَّانِيَةِ:

- ‌فأمَّا البِكْرُ:

- ‌وأمَّا المُحْصَنُ:

- ‌حُكْمُ الجَلْدِ مع الرجمِ للمُحْصَنِ:

- ‌حُكْمُ التغريبِ:

- ‌شهودُ الجَلْدِ والرَّجْمِ:

- ‌حُكْمُ نكاحِ الزانيةِ وإنكاحِ الزاني:

- ‌القذفُ الصَّرِيحُ والكنايةُ:

- ‌قذفُ الحُرَّةِ والأَمَةِ والكافِرةِ:

- ‌شهادةُ القاذفِ بعد توبتِهِ:

- ‌سببُ نزولِ لِعانِ الزَّوْجَيْنِ:

- ‌مَرَاحِلُ قَذْف الزَّوْجِ لزوجتِهِ:

- ‌نَفْيُ الوَلَدِ باللِّعَانِ:

- ‌قَذْفُ الزوجةِ لزوجِها:

- ‌إشاعةُ الفاحشةِ وسَبَبُ عَدَمِ جعلِ الشريعةِ لها حَدًّا:

- ‌حُكْمُ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌السلامُ عندَ دخولِ البيوتِ وصفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌الحِكمةُ مِن تقديمِ أمرِ الرِّجالِ على أمرِ النِّساءِ بغضِّ البصرِ:

- ‌لا تلازُمَ بينَ غضِّ البصرِ وسُفُورِ النساءِ:

- ‌حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ الى المرأةِ:

- ‌أنواعُ زِينَةِ المَرْأةِ:

- ‌التدرُّجُ في فَرْضِ الحِجابِ:

- ‌حُكْمُ تزويجِ الأَيَامَى:

- ‌تركُ الأسواقِ والبَيْعِ وقتَ الصلاةِ:

- ‌أمْرُ الناسِ وأهلِ الأسواقِ بالصلاةِ:

- ‌حِجابُ القواعدِ مِن النِّساءِ:

- ‌فضلُ الاجتماعِ على الطعامِ:

- ‌سورة الفرقان

- ‌هَجَرُ القرآنِ وأنواعُه:

- ‌وهجرُ القرآنِ على مَراتِبَ وأنواعٍ ثلاثةٍ:

- ‌أَدْنَى الزمنِ الذي يُشرَعُ فيه خَتْمُ القرآنِ وأَعْلاه:

- ‌نِسْيانُ القرآنِ:

- ‌النوعُ الثاني من الهجرِ: هجرُ تدبُّرِ مَعانيهِ وأحكامِه:

- ‌النوعُ الثالثُ: هجرُ العملِ بما فيه مِن أوامرَ وأحكامِ:

- ‌سورة الشعراء

- ‌انتصارُ المظلومِ مِن ظالمِه وأحوالُه:

- ‌سورة النمل

- ‌حُكْمُ الضحكِ في الصلاةِ والتبسُّمِ:

- ‌حُكْمُ تأديبِ الحيوانِ وتعذيبِه:

- ‌وِلَايةُ المرأةِ:

- ‌البَداءةُ بالبَسْمَلَةِ والفَرْق بينَها وبينَ الحَمْدَلَةِ:

- ‌حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ:

- ‌سورة القصص

- ‌حِفْظُ الأسرارِ وإفشاؤُها:

- ‌عَرْضُ البناتِ لتزويجِهِنَّ:

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌فَرَحُ المؤمنينَ بهزيمةِ أحَدِ العَدُوَّيْنِ على الآخَرِ:

- ‌رِهانُ أبي بَكْرٍ بِمَكَّةَ، والرِّهَانُ في إظهارِ الحقِّ:

- ‌أحكامُ العِوَضِ (السَّبَقِ) واشتراطُ المحلِّلِ في الرِّهانِ:

- ‌القَيْلُولَةُ في نصفِ النهارِ:

- ‌وقد ذكَر اللَّهُ القيلولةَ في مواضعَ:

- ‌إهداءُ الهديَّةِ رجاءَ الثوابِ عليها:

- ‌سورة لقمان

- ‌الغِناءُ والمَعَازِفُ والفَرْقُ بينَهما:

- ‌سورة السجدة

- ‌حُكْمُ التسبيحِ في السُّجُودِ والرُّكُوعِ:

- ‌سورة الأحزاب

- ‌أُمَّهَاتُ المؤمنينَ ومَقامُهُنَّ:

- ‌أنواعُ أفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عمومُ أصلِ الخِطَابِ بالحِجَابِ وخَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: معناها، وحُكْمُها:

- ‌سورة سبأ

- ‌الاستعانةُ بالجنِّ:

- ‌حُكْمُ التماثيلِ وصُوَرِ ذواتِ الأرواحِ:

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌الشُّورَى وفضلُها وشيءٌ مِن أحكامِها:

- ‌سورة الزخرف

- ‌لُبْسُ الصبيِّ والرجُلِ للحُلِيِّ:

- ‌سورة الأحقاف

- ‌أكثَرُ الحملِ والرَّضَاعِ وأقَلُّهُ:

- ‌سورة محمد

- ‌حُكْمُ أَسْرَى المشرِكِينَ:

- ‌سورة الفتح

- ‌حُكْمُ تترُّسِ المشرِكِينَ بالمُسلِمِينَ:

- ‌سورة الحجرات

- ‌تعظيمُ أقوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه:

- ‌الفَرْقُ بينَ البُغَاةِ والخَوَارجِ:

- ‌الكِبْرُ واحتقارُ سببٌ للفِتَنِ بينَهم:

- ‌التعويضُ عن الضررِ المعنويِّ:

- ‌الأحوالُ التي تجوزُ فيها الغِيبَةُ:

- ‌غِيبةُ الكافرِ:

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌الطهارةُ عندَ القراءةِ ومَسِّ المُصْحَفِ:

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌ألفاظُ الظِّهارِ المُتَّفَقُ والمُختلَفُ فيها:

- ‌كفارةُ الظِّهارِ:

- ‌أنواعُ النَّجوَى المنهيِّ عنها:

- ‌ما يُستحَبُّ للداخِلِ إلى المَجالِسِ:

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌الإحسانُ إلى الكافرِ بالهديَّةِ وقَبولُ شفاعتِه:

- ‌إسلامُ الزوجَيْنِ أو أحدِهما:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مَن تجبُ عليه الجُمُعةُ:

- ‌حُكْمُ الجُمُعةِ للمسافرِ:

- ‌العَدَدُ الذي تَنعقِدُ به الجُمُعةُ:

- ‌قيامُ الخطيبِ في الخُطْبةِ:

- ‌سورة الطلاق

- ‌طلاقُ السُّنَّة وطلاقُ البِدْعةِ:

- ‌السُّكْنَى للمطلَّقةِ:

- ‌السُّكْنى للمُطلَّقةِ المَبْتُوتةِ:

- ‌الإشهادُ على إرجاعِ المطلَّقةِ:

- ‌عِدَّةُ الحاملِ مِن الطلاقِ والوفاةِ:

- ‌سورة التحريم

- ‌تحريمُ الحلالِ لا يجعلُهُ حرامًا:

- ‌تحريمُ الحلالِ يمينٌ وكَفَّارتُه:

- ‌سورة القلم

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌حُكْمُ الرُّقْيَةِ:

- ‌حُكْمُ التداوي مِن المرضِ:

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة الماعون

- ‌التلازُمُ بينَ الرِّياءِ وتأخيرِ وقتِ الصلاةِ:

- ‌تاركُ الصلاةِ وحُكْمُهُ:

- ‌حُكْمُ العاريَّةِ وحَبْسٍ ما يُعِينُ المحتاجَ:

- ‌سورة الكوثر

- ‌حُكْمُ الأُضْحِيةِ ووقتُها:

- ‌سورة النصر

- ‌سورتا المعوِّذَتَيْنِ

الفصل: ‌ ‌سورة الأنبياء وهي سورةٌ مكيَّةٌ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ السابقةِ التي نزَلَتْ

‌سورة الأنبياء

وهي سورةٌ مكيَّةٌ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ السابقةِ التي نزَلَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ، وفيها مِن قصصِ الأنبياءِ وما أُنزِلَ عليهم مِن كُتُبٍ وعِبَرٍ وحُجَجٍ، وذِكْرُ ثباتِهم وحُسْنِ عاقبتِهم، وسُنَّةِ اللَّهِ في الظالمينَ مِن أُمَمِهم، وذِكْرُ آياتِ اللَّهِ ومخلوقاتِهِ العظيمةِ الدالَّةِ على قُدْرَتِهِ وحقِّه في العبادةِ، وذِكْرُ خَلْقِ الإنسانِ وضَعْفِهِ وطُغْيانِهِ وعَجَلَتِهِ في أمرِهِ واتِّباعِهِ لنفسِهِ وهوَاه.

* * *

* قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

في هذه الآيةِ: دليلٌ على مشروعيَّةِ الذِّكْرِ المُطلَقِ في كلِّ زمانٍ، وقد ثَبتَ في الوحي مشروعيَّةُ الذِّكْرِ بإطلاقٍ؛ وذلك في عموماتٍ ثلاثةٍ:

الأولُ: يُشرَعُ الذِّكْرُ في كلِّ زمانٍ بلا استثناءٍ؛ لهذه الآيةِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} ، وقولِ عائشةَ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"؛ رواهُ مسلمٌ، وعلَّقَهُ البخاريُّ (1).

وليس للذِّكْرِ زمانٌ مخصوصٌ به كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ؛ فهو أعَمُّ منها.

الثاني: يُشرَعُ الذِّكْرُ على كلِّ حالٍ بلا استثناءٍ؛ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، وقال تعالى:

(1) أخرجه مسلم (373)، والبخاري معلَّقًا قبل حديث (305).

ص: 1751

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].

الثالثُ: يُشرَعُ الذِّكْرُ في كلِّ مكانٍ، وهذا العمومُ دخَلَهُ استثناءٌ يسيرٌ، كعندِ قضاءِ الحاجةِ وما يَلحَقُ بها؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّ السلامَ على مَن سَلَّمَ عليه وهو على حاجتِهِ (1).

والشريعةُ خَصَّتْ بعضَ الأحوالِ والأزمانِ والأمكنةِ بذِكْرٍ مخصوصٍ فيكونُ فيها الذِّكْرُ سُنَّةً، ويكونُ فاضلًا وغيرُهُ مفضولًا، بل إنْ تعمَّدَ تَرْكَ الفاضلِ في هذا الموضعِ والمداوَمةَ على غيرِهِ فيما جاءتِ السُّنَّةُ بخلافِه، فذلك بِدْعةٌ.

* * *

* قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63].

في هذه الآيةِ نسَبَ إبراهيمُ تحطيمَ الأصنامِ إلى كبيرِ الأصنامِ مع أنَّه هو الذي فعَلَهُ، وليس هذا من الكذبِ الصريحِ؛ لأنَّ قومَهُ يَعْلَمونَ أنَّ الأصنامَ لا تتحرَّكُ، وليس فيها قوةٌ ذاتَيَّةٌ تَقدِرُ على التصرُّفِ؛ وإنَّما أرادَ إرجاعَهُمْ إلى الحقِّ فيتفكَّرونَ فيما يَعبُدونَ مما لا يَملِكُ لنفسِهِ نفعًا ولا ضرًّا.

ويُسمَّى ذلك تجوُّزًا بالكذبِ؛ لأنَّه يُخالِفُ الحقيقةَ الملفوظةَ ولو كان معلومًا به معنًى عندَ القائلِ به وسامِعِه، وهذه هي المَعَارِيضُ، والمعاريضُ تُستَعملُ عندَ الحاجةِ وتجوزُ، ولستْ مِن الكذبِ المَحْضِ؛ كما في قولِ عِمرانَ:"إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ"(2)، وبينَ

(1) أخرجه مسلم (370).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26096) ، والبخاري في "الأدب المفرد"(857)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 199).

ص: 1752

المعاريضِ والكذبِ عمومٌ وخصوصٌ؛ فالكذبُ أعَمُّ مِن المعاريضِ، والمعاريضُ أخَصُّ؛ وذلك أنَّ المعاريضَ هي ما يُخالِفُ الحقيقةَ ظاهرًا، ويُوافِقُها باطنًا، وأمَّا الكذبُ فهو ما يُخالفُ الحقيقةَ ظاهرًا وباطنًا؛ فاتَّفَقَتِ المعاريضُ مع الكذبِ في مخالفةِ الظاهرِ.

وقد جاء مدحُ إبراهيمَ في السُّنَّةِ: أنَّه لم يَستعمِل إلَّا المعاريضَ وفي مواضعَ ثلاثةٍ؛ كما أخرَجَ البخاريُّ؛ عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:(لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل: قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا})، قال:(بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ؛ إِنَّمَا أَتَيْنُمُونِي بِشَيْطَانٍ! فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا؟ ! قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الكَافِرِ -أَوِ الفَاجِرِ- فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ)؛ رواهُ البخاريُّ (1).

وجاء في "صحيحِ مسلمٍ"، في حديثِ الشفاعةِ؛ أنَّ إحدى كَذَبَاتِه عليه السلام هي قولُه للشمسِ والقمرِ والكوكبِ:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76، 77، 78]، ولم يذكْرُ قصةَ الجبَّارِ (2).

وأخرَجَ التِّرمذيُّ، عن أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَمْ

(1) أخرجه البخاري (3358).

(2)

أخرجه مسلم (194).

ص: 1753

يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلِهِ لِسَارَةَ: أُخْتِي، وَقَوْلِهِ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} " (1).

ومَن نظَرَ في أقوالِ إبراهيمَ عليه السلام، وجَدَ أنَّها مَعاريضُ، وإنَّما سُمِّيَتْ كذبًا؛ لكونِها تُفهَمُ مِن السامعِ على خلاف مُرادِ المتكلِّمِ، وأنَّ منها ما هو في جَنْبِ اللَّهِ:

أولُها: قولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ؛ فإنَّ إبراهيمَ يَعلَمُ -وقومُهُ مِثلُهُ- أنَّ الأصنامَ لا تَنطِقُ ولا تَنتصِرُ لنفسِها؛ وإنَّما قال هذا القولَ؛ لِيَرْجِعَهُمْ إلى أنفُسِهم، فيتفكَّروا فيما غفَلُوا عنه.

وإحقاقُ الحقِّ بالمعاريضِ جائزٌ، بل مشروعٌ؛ ومِن ذلك قولُ يوسُفَ عليه السلام:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70].

ومِن جنسِهِ قولُهُ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]؛ يُريدُ منهم التفكُّرَ والتأمُّلَ؛ فقاله ليُراجِعُوا أنفُسَهُمْ، وليس مُقِرًّا به ليأخُذُوا ذلك عنه، وهو شبيهٌ بالتنزُّلِ مع الخَصْمِ الذي يَعلَمُ أنَّك لا تُقِرُّ بما معه إلَّا تنزُّلًا؛ لتَصِلَ إلى غايةٍ يتَّضِحُ منها الحقُّ والباطلُ، ولا يُوقَف عندَ مبتدًى يَفْصِلُ المناظرةَ بلا حقٍّ ولا باطلٍ.

ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه عبَدَهُ حتى أفَلَ (2)؛ وهذا مُنكَرٌ؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَما عَدَّ هذه مِن معاريضِ إبراهيمَ، دَلَّ على أنَّها لم تكنْ على الحقيقةِ؛ وإنَّما باطنُها يُخالِفُ ظاهِرَها، ولو كانتْ على ظاهرِها وعبَدَ الكَوْكَبَ حتى أفَلَ، لم يكنْ لتسميةِ قولِه:(هَذَا رَبِّي) كذبًا - معنًى؛ لأنَّه شِرْكٌ؛ وهذا لا يصحُّ من إبراهيمَ.

(1) أخرجه الترمذي (3166).

(2)

"تفسير الطبري"(9/ 356)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1328).

ص: 1754

وثانيها: قولُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} في سورةِ الصافَّاتِ، وذلك في قولِه تعالى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 83 - 98].

وإنَّما قال: "إنِّي سَقِيمٌ"؛ لكي يتخلَّفَ عنهم في ذَهَابِهم، ويبقى عندَ أصنامِهم ليُحطِّمَها؛ وهذا يدخُلُ في المُخادَعةِ للعدوِّ، وهذا مِن جنسِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(الحَرْبُ خَدْعَةٌ)(1)، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً، وَرَّى بغيرِها (2).

وثالثُها: قولُهُ لِسَارَةَ: (أُخْتِي)؛ فإنَّه أراد الدفعَ عن زوجتِهِ، ودفعُ الرَّجُلِ عن عِرْضِهِ يجبُ ولو بدفعِ الصائلِ علمِه، فإنْ جازَ الدمُ، فغيرُهُ كالكذبِ مِن بابِ أَولى؛ لأنَّه دُونَهُ؛ ففد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)؛ رواهُ أحمدُ وأهلُ السُّنَنِ؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ (3).

ولو خُيِّرَ إنسانٌ بينَ وقوعِ صائلٍ على عِرْضِهِ وانتهاكِ فرجِ امرأتِهِ وبينَ دفعِهِ بالكذبِ، لكان ذلك جائزًا؛ بل واجِبًا، وهذا يَقضِي به العقلُ والنقلُ، وإنَّما تورَّعَ إبراهيمُ؛ لِعُلوِّ منزلتِهِ ومَقَامِه، ومقاماتُ الأنبياءِ والأولياءِ ليستْ كمقامِ غيرِهم؛ فإنَّهم يُنزِلونَ في أنفُسِهم لا لغيرِهم بعضَ

(1) أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739).

(2)

أخرجه البخاري (2947)، ومسلم (2769)(54).

(3)

أخرجه أحمد (1/ 190)، وأبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (4095).

ص: 1755