الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنبياء
وهي سورةٌ مكيَّةٌ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ السابقةِ التي نزَلَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ، وفيها مِن قصصِ الأنبياءِ وما أُنزِلَ عليهم مِن كُتُبٍ وعِبَرٍ وحُجَجٍ، وذِكْرُ ثباتِهم وحُسْنِ عاقبتِهم، وسُنَّةِ اللَّهِ في الظالمينَ مِن أُمَمِهم، وذِكْرُ آياتِ اللَّهِ ومخلوقاتِهِ العظيمةِ الدالَّةِ على قُدْرَتِهِ وحقِّه في العبادةِ، وذِكْرُ خَلْقِ الإنسانِ وضَعْفِهِ وطُغْيانِهِ وعَجَلَتِهِ في أمرِهِ واتِّباعِهِ لنفسِهِ وهوَاه.
* * *
* قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
في هذه الآيةِ: دليلٌ على مشروعيَّةِ الذِّكْرِ المُطلَقِ في كلِّ زمانٍ، وقد ثَبتَ في الوحي مشروعيَّةُ الذِّكْرِ بإطلاقٍ؛ وذلك في عموماتٍ ثلاثةٍ:
الأولُ: يُشرَعُ الذِّكْرُ في كلِّ زمانٍ بلا استثناءٍ؛ لهذه الآيةِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} ، وقولِ عائشةَ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"؛ رواهُ مسلمٌ، وعلَّقَهُ البخاريُّ (1).
وليس للذِّكْرِ زمانٌ مخصوصٌ به كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ؛ فهو أعَمُّ منها.
الثاني: يُشرَعُ الذِّكْرُ على كلِّ حالٍ بلا استثناءٍ؛ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، وقال تعالى:
(1) أخرجه مسلم (373)، والبخاري معلَّقًا قبل حديث (305).
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
الثالثُ: يُشرَعُ الذِّكْرُ في كلِّ مكانٍ، وهذا العمومُ دخَلَهُ استثناءٌ يسيرٌ، كعندِ قضاءِ الحاجةِ وما يَلحَقُ بها؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّ السلامَ على مَن سَلَّمَ عليه وهو على حاجتِهِ (1).
والشريعةُ خَصَّتْ بعضَ الأحوالِ والأزمانِ والأمكنةِ بذِكْرٍ مخصوصٍ فيكونُ فيها الذِّكْرُ سُنَّةً، ويكونُ فاضلًا وغيرُهُ مفضولًا، بل إنْ تعمَّدَ تَرْكَ الفاضلِ في هذا الموضعِ والمداوَمةَ على غيرِهِ فيما جاءتِ السُّنَّةُ بخلافِه، فذلك بِدْعةٌ.
* * *
* قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63].
في هذه الآيةِ نسَبَ إبراهيمُ تحطيمَ الأصنامِ إلى كبيرِ الأصنامِ مع أنَّه هو الذي فعَلَهُ، وليس هذا من الكذبِ الصريحِ؛ لأنَّ قومَهُ يَعْلَمونَ أنَّ الأصنامَ لا تتحرَّكُ، وليس فيها قوةٌ ذاتَيَّةٌ تَقدِرُ على التصرُّفِ؛ وإنَّما أرادَ إرجاعَهُمْ إلى الحقِّ فيتفكَّرونَ فيما يَعبُدونَ مما لا يَملِكُ لنفسِهِ نفعًا ولا ضرًّا.
ويُسمَّى ذلك تجوُّزًا بالكذبِ؛ لأنَّه يُخالِفُ الحقيقةَ الملفوظةَ ولو كان معلومًا به معنًى عندَ القائلِ به وسامِعِه، وهذه هي المَعَارِيضُ، والمعاريضُ تُستَعملُ عندَ الحاجةِ وتجوزُ، ولستْ مِن الكذبِ المَحْضِ؛ كما في قولِ عِمرانَ:"إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ"(2)، وبينَ
(1) أخرجه مسلم (370).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26096) ، والبخاري في "الأدب المفرد"(857)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 199).
المعاريضِ والكذبِ عمومٌ وخصوصٌ؛ فالكذبُ أعَمُّ مِن المعاريضِ، والمعاريضُ أخَصُّ؛ وذلك أنَّ المعاريضَ هي ما يُخالِفُ الحقيقةَ ظاهرًا، ويُوافِقُها باطنًا، وأمَّا الكذبُ فهو ما يُخالفُ الحقيقةَ ظاهرًا وباطنًا؛ فاتَّفَقَتِ المعاريضُ مع الكذبِ في مخالفةِ الظاهرِ.
وقد جاء مدحُ إبراهيمَ في السُّنَّةِ: أنَّه لم يَستعمِل إلَّا المعاريضَ وفي مواضعَ ثلاثةٍ؛ كما أخرَجَ البخاريُّ؛ عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:(لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل: قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا})، قال:(بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ؛ إِنَّمَا أَتَيْنُمُونِي بِشَيْطَانٍ! فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا؟ ! قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الكَافِرِ -أَوِ الفَاجِرِ- فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ)؛ رواهُ البخاريُّ (1).
وجاء في "صحيحِ مسلمٍ"، في حديثِ الشفاعةِ؛ أنَّ إحدى كَذَبَاتِه عليه السلام هي قولُه للشمسِ والقمرِ والكوكبِ:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76، 77، 78]، ولم يذكْرُ قصةَ الجبَّارِ (2).
وأخرَجَ التِّرمذيُّ، عن أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَمْ
(1) أخرجه البخاري (3358).
(2)
أخرجه مسلم (194).
يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلِهِ لِسَارَةَ: أُخْتِي، وَقَوْلِهِ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} " (1).
ومَن نظَرَ في أقوالِ إبراهيمَ عليه السلام، وجَدَ أنَّها مَعاريضُ، وإنَّما سُمِّيَتْ كذبًا؛ لكونِها تُفهَمُ مِن السامعِ على خلاف مُرادِ المتكلِّمِ، وأنَّ منها ما هو في جَنْبِ اللَّهِ:
أولُها: قولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ؛ فإنَّ إبراهيمَ يَعلَمُ -وقومُهُ مِثلُهُ- أنَّ الأصنامَ لا تَنطِقُ ولا تَنتصِرُ لنفسِها؛ وإنَّما قال هذا القولَ؛ لِيَرْجِعَهُمْ إلى أنفُسِهم، فيتفكَّروا فيما غفَلُوا عنه.
وإحقاقُ الحقِّ بالمعاريضِ جائزٌ، بل مشروعٌ؛ ومِن ذلك قولُ يوسُفَ عليه السلام:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70].
ومِن جنسِهِ قولُهُ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]؛ يُريدُ منهم التفكُّرَ والتأمُّلَ؛ فقاله ليُراجِعُوا أنفُسَهُمْ، وليس مُقِرًّا به ليأخُذُوا ذلك عنه، وهو شبيهٌ بالتنزُّلِ مع الخَصْمِ الذي يَعلَمُ أنَّك لا تُقِرُّ بما معه إلَّا تنزُّلًا؛ لتَصِلَ إلى غايةٍ يتَّضِحُ منها الحقُّ والباطلُ، ولا يُوقَف عندَ مبتدًى يَفْصِلُ المناظرةَ بلا حقٍّ ولا باطلٍ.
ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه عبَدَهُ حتى أفَلَ (2)؛ وهذا مُنكَرٌ؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَما عَدَّ هذه مِن معاريضِ إبراهيمَ، دَلَّ على أنَّها لم تكنْ على الحقيقةِ؛ وإنَّما باطنُها يُخالِفُ ظاهِرَها، ولو كانتْ على ظاهرِها وعبَدَ الكَوْكَبَ حتى أفَلَ، لم يكنْ لتسميةِ قولِه:(هَذَا رَبِّي) كذبًا - معنًى؛ لأنَّه شِرْكٌ؛ وهذا لا يصحُّ من إبراهيمَ.
(1) أخرجه الترمذي (3166).
(2)
"تفسير الطبري"(9/ 356)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1328).
وثانيها: قولُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} في سورةِ الصافَّاتِ، وذلك في قولِه تعالى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 83 - 98].
وإنَّما قال: "إنِّي سَقِيمٌ"؛ لكي يتخلَّفَ عنهم في ذَهَابِهم، ويبقى عندَ أصنامِهم ليُحطِّمَها؛ وهذا يدخُلُ في المُخادَعةِ للعدوِّ، وهذا مِن جنسِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم:(الحَرْبُ خَدْعَةٌ)(1)، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً، وَرَّى بغيرِها (2).
وثالثُها: قولُهُ لِسَارَةَ: (أُخْتِي)؛ فإنَّه أراد الدفعَ عن زوجتِهِ، ودفعُ الرَّجُلِ عن عِرْضِهِ يجبُ ولو بدفعِ الصائلِ علمِه، فإنْ جازَ الدمُ، فغيرُهُ كالكذبِ مِن بابِ أَولى؛ لأنَّه دُونَهُ؛ ففد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)؛ رواهُ أحمدُ وأهلُ السُّنَنِ؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ (3).
ولو خُيِّرَ إنسانٌ بينَ وقوعِ صائلٍ على عِرْضِهِ وانتهاكِ فرجِ امرأتِهِ وبينَ دفعِهِ بالكذبِ، لكان ذلك جائزًا؛ بل واجِبًا، وهذا يَقضِي به العقلُ والنقلُ، وإنَّما تورَّعَ إبراهيمُ؛ لِعُلوِّ منزلتِهِ ومَقَامِه، ومقاماتُ الأنبياءِ والأولياءِ ليستْ كمقامِ غيرِهم؛ فإنَّهم يُنزِلونَ في أنفُسِهم لا لغيرِهم بعضَ
(1) أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739).
(2)
أخرجه البخاري (2947)، ومسلم (2769)(54).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 190)، وأبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (4095).