الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَضَحِكَ وَقَالَ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ! خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ)(1).
وجاء التَّفلُ مع القراءةِ في أحاديثَ، وجاء التفلُ بدونِ القراءةِ، وجاءتِ القراءةُ بدونِ تَفْلٍ ولا نَفْثٍ ولا نفخٍ، ولكنْ لا يُتبرَّكُ بِرِيقِ أحدٍ وحدَهُ بلا قراءةٍ إلَّا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
وثَمَّةَ فرقٌ بين النَّفْثِ والتَّفْلِ والنَّفْخِ؛ فالنَّفْثُ: ما كان الأصلُ فيه الهواءَ، والرِّيقُ فيه تبَعٌ، وأمَّا التَّفْلُ: فما كان فيه إخراجُ الرِّيقِ، والهواءُ فيه تبَعٌ، وأمَّا النَّفْخُ: فهو إخراجُ الهواءِ بلا رِيقٍ.
وقد كَرِهَ بعضُ السلفِ النفثَ والتفلَ في الرُّقْيةِ؛ كعِكْرِمةَ وجماعةٍ مِن العراقيِّين، وبعضُهم يَكْرَهُ النفثَ، ويُجيزُ النفخَ؛ كالأَسْوَدِ؛ ولكنَّ السُّنَّةَ صريحةٌ في مشروعيَّةِ ذلك.
حُكْمُ التداوي مِن المرضِ:
والآية دالَّةٌ على جوازِ التداوي بالمُبَاحِ مِن المرضِ بلا خلافٍ؛ وإنَّما الخلافُ عندَهم في التفاضُلِ بينَ تَرْكِه وفِعْلِه:
وجمهورُ العلماءِ: على أنَّ التداويَ مباحٌ.
وذهَبَ الشافعيَّةُ -وهو قولُ جماعةٍ مِن أصحابِنا أصحابِ أحمدَ؛ كابنِ عَقِيلٍ وأبي الفَرَجِ-: أنَّه مستحَبٌّ، وقد سأل الصحابةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن التداوي؟ فقال:(تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ؛ الْهَرَمُ)(2).
وجمهورُ الأصحاب: على أنَّ تَرْكَ التداوي أفضَلُ؛ وذلك لأنَّه أحفَظُ للتوكُّلِ على اللَّهِ.
(1) أخرجه البخاري (5736)، ومسلم (2201).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 278)، وأبو داود (3855)، والترمذي (2038)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7511)، وابن ماجه (3436).
وتفاضُلُ التداوي يُعرَفُ بالنظرِ إلى جهاتٍ متعدِّدةٍ؛ منها: النظرُ إلى المرضِ وطُولِهِ وقِصَرِه، وإمكانِ الشِّفَاءِ أو اليأسِ منه.
ومنها: النظرُ إلى أثرِه على دِينِ العبدِ؛ وذلك أنَّ التداويَ له أثرٌ على توكُّلِ العبدِ وتعلُّقِه باللَّه.
ومنها: النظرُ إلى الأثرِ المتعدِّي على غيرِه كالناسِ وأهلِه.
أمَّا مِن جهةِ النظرِ إلى عَيْنِ المرضِ: فمِن الأمراضِ ما يرتفِعُ بلا دواءٍ وإن طال وقتُهُ، فهذا الصبرُ عليه أفضَلُ، ومثلُه إن كان المرضُ غالبًا أنَّه لا يُشْفَى منه؛ فترك التداوي أفضَلُ مِن طلبِه، ما لم يُفوِّتْ تركُ التداوي مصلحةَ في دِينِ العبدِ أو دُنياهُ راجحةً على قعودِه.
وأمَّا مِن جهةِ النظرِ إلى أثرِه على العبدِ: فذلك أنَّه كلَّما كان أثرُ تَداويهِ على دِينِه ودينِ الناسِ أفضَلَ، كان التداوي في حقِّه أفضَلَ، وذلك كحالِ الرجلِ في الغزوِ الذي يَمرَضُ ولو ترَكَ التداويَ، لَلَحِقَ المُسلِمِينَ بتركِه ضُرٌّ، فتَداويهِ أولى وآكَدُ، ومِثلُه في العِلْمِ والإصلاحِ وحاجةِ الأهلِ والولدِ وتفرُّدِ المريضِ بقضائِها.
ومَن إذا ترَكَ التداويَ، تأثَّرَ في دِينِهِ وضعُف؛ كأنْ يطولَ قعودُهُ عن النوافلِ وقيامِ الليلِ والصَّدَقةِ؛ فإنَّ القلبَ يَستوحِشُ مِن قِلَّةِ الطاعاتِ إنْ طال وقتُ تركِ العبدِ لها ولو كان معذورًا؛ فهذا التداوي له أفضَلُ.
وذهَبَ بعضُ الحنابلةِ: إلى وجوبِ التداوي إن أمكَنَ الشفاءُ.
وإيجابُ التداوي ليس مِن قولِ السلفِ؛ وإنَّما هو لبعضِ الفقهاءِ المتأخِّرِين.
* * *
* قال اللَّه تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29].
ذكَر اللَّهُ حالَ الاحتضارِ والإشْرافِ على مغادَرةِ الدُّنيا، والإقبالِ على الآخِرةِ، وقال ابنُ عبَّاسٍ:"إنَّ معنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}: آخِرُ يومٍ مِى أيامِ الدُّنيا، وأولُ يومٍ مِن أيامِ الآخِرةِ؛ فتَلتقِي الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ إلَّا مَن رحِم اللَّهُ"(1)؛ وبنحوِه قال مجاهِدٌ وقتادةُ (2).
وقد قال الضحَّاكُ: "أهلُ الدُّنيا يُجهِّزونَ الجسدَ، وأهلُ الآخِرةِ يُجهِّزونَ الرُّوحَ"(3).
وبهذا قال أكثرُ السلفِ، وقد قال ابنُ زيدٍ:"لا نشُكُّ أنَّها ساقُ الآخرةِ، وقرَأَ: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30]؛ قال: لمَّا التفَّتِ الآخِرةُ بالدُّنيا، كان المَسَاقُ إلى اللَّهِ"(4).
وحمَلَهُ ابنُ المسيَّبِ والشَّعْبيُّ والحسنُ والسُّدِّيُّ: على التفافِ الساقَيْنِ على الحقيقةِ؛ وهذا قولٌ لقتادةَ (5).
وكلا المعنيَيْنِ تَحتمِلُهُ بلاغةُ القرآنِ، وفيها على المعنى الثاني مشروعيَّةُ تكفينِ الميِّتِ وتجهيزِه، وذلك مشروعٌ بلا خلافٍ، وهو مِن فروضِ الكفايةِ.
* * *
(1)"تفسير الطبري"(23/ 516)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3388).
(2)
"تفسير الطبري"(23/ 516).
(3)
"تفسير الطبري"(23/ 517).
(4)
"تفسير الطبري"(23/ 518).
(5)
"تفسير الطبري"(23/ 519 - 521)، و"تفسير القرطبي"(21/ 435).