المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عموم أصل الخطاب بالحجاب وخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وسلم - التفسير والبيان لأحكام القرآن - جـ ٤

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الحجر

- ‌صلاةُ الكَرْبِ، وإذا حَزَبَ الأمرُ:

- ‌سورة النحل

- ‌الانتفاعُ مِن جُلُودِ المَيْتَةِ:

- ‌أنواعُ الانتفاعِ مِن الأنعامِ والدوابِّ:

- ‌لُحُومُ الخَيْلِ والحَمِرِ والبِغَالِ:

- ‌حُكْمُ الاستعاذةِ عندَ القِرَاءةِ:

- ‌صِيَغُ الاستعاذةِ:

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌حُكْمُ اقتِناءِ الكَلْبِ للحِرَاسةِ وغيرِها:

- ‌مشروعيَّةُ الوَكَالةِ والنِّيَابةِ:

- ‌الصلاةُ على الجنازةِ في المَقْبَرةِ:

- ‌الاستثناءُ في اليمينِ:

- ‌سورة مريم

- ‌تسميةُ المولودِ ووقتُها:

- ‌أمرُ الأهلِ بالصلاةِ

- ‌سورة طه

- ‌العِلَّةُ مِن أمرِ موسى بخلعِ نعلَيْهِ:

- ‌الصلاةُ في النِّعَالِ، ودُخُولُ المساجدِ بها:

- ‌قضاءُ الفرائضِ الفائتةِ وترتيبُها:

- ‌هل للصَّلَاةِ الفائِتةِ أذانٌ وإقامةٌ

- ‌حُكْمُ قضاءِ النوافلِ:

- ‌استحبابُ اتِّخاذِ البِطَانةِ الصالحةِ والوزيرِ المُعِينِ:

- ‌سورة الأنبياء

- ‌الأحوالُ التي جاء الترخيصُ فيها بالكَذِبِ للمَصْلَحةِ:

- ‌سورة الحج

- ‌حُكْمُ بيعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ودُورِها:

- ‌تفاضُلُ المَشْيِ والرُّكُوبِ في الحَجِّ:

- ‌الهَدْيُ والأُضْحِيَّةُ والأَكْلُ منها:

- ‌نقسيمُ الهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ:

- ‌مَرَاتِبُ التمكينِ وشروطُهُ:

- ‌سورة المؤمنون

- ‌معنى الخشوعِ:

- ‌حُكْمُ الخشوعِ في الصلاةِ:

- ‌حُكْمُ الاستمناءِ:

- ‌دعاءُ نزولِ المَنْزلِ:

- ‌سورة النور

- ‌حَدُّ الزاني والزَّانِيَةِ:

- ‌فأمَّا البِكْرُ:

- ‌وأمَّا المُحْصَنُ:

- ‌حُكْمُ الجَلْدِ مع الرجمِ للمُحْصَنِ:

- ‌حُكْمُ التغريبِ:

- ‌شهودُ الجَلْدِ والرَّجْمِ:

- ‌حُكْمُ نكاحِ الزانيةِ وإنكاحِ الزاني:

- ‌القذفُ الصَّرِيحُ والكنايةُ:

- ‌قذفُ الحُرَّةِ والأَمَةِ والكافِرةِ:

- ‌شهادةُ القاذفِ بعد توبتِهِ:

- ‌سببُ نزولِ لِعانِ الزَّوْجَيْنِ:

- ‌مَرَاحِلُ قَذْف الزَّوْجِ لزوجتِهِ:

- ‌نَفْيُ الوَلَدِ باللِّعَانِ:

- ‌قَذْفُ الزوجةِ لزوجِها:

- ‌إشاعةُ الفاحشةِ وسَبَبُ عَدَمِ جعلِ الشريعةِ لها حَدًّا:

- ‌حُكْمُ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌السلامُ عندَ دخولِ البيوتِ وصفَتُهُ وعددُهُ:

- ‌الحِكمةُ مِن تقديمِ أمرِ الرِّجالِ على أمرِ النِّساءِ بغضِّ البصرِ:

- ‌لا تلازُمَ بينَ غضِّ البصرِ وسُفُورِ النساءِ:

- ‌حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ الى المرأةِ:

- ‌أنواعُ زِينَةِ المَرْأةِ:

- ‌التدرُّجُ في فَرْضِ الحِجابِ:

- ‌حُكْمُ تزويجِ الأَيَامَى:

- ‌تركُ الأسواقِ والبَيْعِ وقتَ الصلاةِ:

- ‌أمْرُ الناسِ وأهلِ الأسواقِ بالصلاةِ:

- ‌حِجابُ القواعدِ مِن النِّساءِ:

- ‌فضلُ الاجتماعِ على الطعامِ:

- ‌سورة الفرقان

- ‌هَجَرُ القرآنِ وأنواعُه:

- ‌وهجرُ القرآنِ على مَراتِبَ وأنواعٍ ثلاثةٍ:

- ‌أَدْنَى الزمنِ الذي يُشرَعُ فيه خَتْمُ القرآنِ وأَعْلاه:

- ‌نِسْيانُ القرآنِ:

- ‌النوعُ الثاني من الهجرِ: هجرُ تدبُّرِ مَعانيهِ وأحكامِه:

- ‌النوعُ الثالثُ: هجرُ العملِ بما فيه مِن أوامرَ وأحكامِ:

- ‌سورة الشعراء

- ‌انتصارُ المظلومِ مِن ظالمِه وأحوالُه:

- ‌سورة النمل

- ‌حُكْمُ الضحكِ في الصلاةِ والتبسُّمِ:

- ‌حُكْمُ تأديبِ الحيوانِ وتعذيبِه:

- ‌وِلَايةُ المرأةِ:

- ‌البَداءةُ بالبَسْمَلَةِ والفَرْق بينَها وبينَ الحَمْدَلَةِ:

- ‌حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ:

- ‌سورة القصص

- ‌حِفْظُ الأسرارِ وإفشاؤُها:

- ‌عَرْضُ البناتِ لتزويجِهِنَّ:

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌فَرَحُ المؤمنينَ بهزيمةِ أحَدِ العَدُوَّيْنِ على الآخَرِ:

- ‌رِهانُ أبي بَكْرٍ بِمَكَّةَ، والرِّهَانُ في إظهارِ الحقِّ:

- ‌أحكامُ العِوَضِ (السَّبَقِ) واشتراطُ المحلِّلِ في الرِّهانِ:

- ‌القَيْلُولَةُ في نصفِ النهارِ:

- ‌وقد ذكَر اللَّهُ القيلولةَ في مواضعَ:

- ‌إهداءُ الهديَّةِ رجاءَ الثوابِ عليها:

- ‌سورة لقمان

- ‌الغِناءُ والمَعَازِفُ والفَرْقُ بينَهما:

- ‌سورة السجدة

- ‌حُكْمُ التسبيحِ في السُّجُودِ والرُّكُوعِ:

- ‌سورة الأحزاب

- ‌أُمَّهَاتُ المؤمنينَ ومَقامُهُنَّ:

- ‌أنواعُ أفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عمومُ أصلِ الخِطَابِ بالحِجَابِ وخَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: معناها، وحُكْمُها:

- ‌سورة سبأ

- ‌الاستعانةُ بالجنِّ:

- ‌حُكْمُ التماثيلِ وصُوَرِ ذواتِ الأرواحِ:

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌سورة غافر

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌الشُّورَى وفضلُها وشيءٌ مِن أحكامِها:

- ‌سورة الزخرف

- ‌لُبْسُ الصبيِّ والرجُلِ للحُلِيِّ:

- ‌سورة الأحقاف

- ‌أكثَرُ الحملِ والرَّضَاعِ وأقَلُّهُ:

- ‌سورة محمد

- ‌حُكْمُ أَسْرَى المشرِكِينَ:

- ‌سورة الفتح

- ‌حُكْمُ تترُّسِ المشرِكِينَ بالمُسلِمِينَ:

- ‌سورة الحجرات

- ‌تعظيمُ أقوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه:

- ‌الفَرْقُ بينَ البُغَاةِ والخَوَارجِ:

- ‌الكِبْرُ واحتقارُ سببٌ للفِتَنِ بينَهم:

- ‌التعويضُ عن الضررِ المعنويِّ:

- ‌الأحوالُ التي تجوزُ فيها الغِيبَةُ:

- ‌غِيبةُ الكافرِ:

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌الطهارةُ عندَ القراءةِ ومَسِّ المُصْحَفِ:

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌ألفاظُ الظِّهارِ المُتَّفَقُ والمُختلَفُ فيها:

- ‌كفارةُ الظِّهارِ:

- ‌أنواعُ النَّجوَى المنهيِّ عنها:

- ‌ما يُستحَبُّ للداخِلِ إلى المَجالِسِ:

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌الإحسانُ إلى الكافرِ بالهديَّةِ وقَبولُ شفاعتِه:

- ‌إسلامُ الزوجَيْنِ أو أحدِهما:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مَن تجبُ عليه الجُمُعةُ:

- ‌حُكْمُ الجُمُعةِ للمسافرِ:

- ‌العَدَدُ الذي تَنعقِدُ به الجُمُعةُ:

- ‌قيامُ الخطيبِ في الخُطْبةِ:

- ‌سورة الطلاق

- ‌طلاقُ السُّنَّة وطلاقُ البِدْعةِ:

- ‌السُّكْنَى للمطلَّقةِ:

- ‌السُّكْنى للمُطلَّقةِ المَبْتُوتةِ:

- ‌الإشهادُ على إرجاعِ المطلَّقةِ:

- ‌عِدَّةُ الحاملِ مِن الطلاقِ والوفاةِ:

- ‌سورة التحريم

- ‌تحريمُ الحلالِ لا يجعلُهُ حرامًا:

- ‌تحريمُ الحلالِ يمينٌ وكَفَّارتُه:

- ‌سورة القلم

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌حُكْمُ الرُّقْيَةِ:

- ‌حُكْمُ التداوي مِن المرضِ:

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة عبس

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة الماعون

- ‌التلازُمُ بينَ الرِّياءِ وتأخيرِ وقتِ الصلاةِ:

- ‌تاركُ الصلاةِ وحُكْمُهُ:

- ‌حُكْمُ العاريَّةِ وحَبْسٍ ما يُعِينُ المحتاجَ:

- ‌سورة الكوثر

- ‌حُكْمُ الأُضْحِيةِ ووقتُها:

- ‌سورة النصر

- ‌سورتا المعوِّذَتَيْنِ

الفصل: ‌عموم أصل الخطاب بالحجاب وخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وسلم

فإنَّما هي شُعبةٌ مِن شُعَبِ الإيمانِ ليسَتْ وحدَها علامَةً على شيءٍ.

‌عمومُ أصلِ الخِطَابِ بالحِجَابِ وخَصُوصيَّةُ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

-:

والخِطابُ في هذه الآيةِ وما قبلَها وما بعدَها وإنْ كان موجَّهًا لأمَّهاتِ المؤمنينَ، إلَّا أنَّه عامٌّ يشترِكُ معَهُنَّ فيه في عمومِ الحُكْمِ بقيَّةُ النِّساءِ؛ ولكنَّ نساءَ النبيِّ أشَدُّ وأعظَمُ تأكيدًا؛ ولهذا قال:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]؛ يعني: أنَّ أصلَ العذابِ مشتَرَكٌ؛ ولكنَّ الفَرْقَ تضعيفُ الحُكْمِ وتشديدُه، ومِثلَ ذلك قالَهُ في الثوابِ:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]؛ يعني: أنَّ هناك ثوابًا مشتَرَكًا مع بقيةِ النِّساءِ؛ ولكنْ لَهُنَّ الثوابُ مضاعَفٌ.

وبيانُ عمومِ أصلِ الحُكْمِ في هذه الآياتِ، واشتراكِ عمومِ نساءِ المؤمنينَ به - مِن وُجُوهٍ:

أولًا: أنَّ القرآنَ عامٌ للناسِ بجميعِهِ؛ كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]؛ أي: مَن يَبْلُغُهُ ما فيه ممَّن يجيءُ بعدَكم، فهو حُجَّةٌ عليه، والعِبْرةُ بعمومِ حُكْمِه، وإنْ تمَّ تخصيصُ الخِطَابِ لأعلى البشرِ، وهم الأنبياءُ، فضلًا عن آحادِ الصحابةِ وأزواجِ الأنبياءِ؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم كما في "صحيحِ مسلمٍ":(إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ، بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ)(1)، فإذا كان خِطابُّ الأنبياءِ الواردُ في القرآنِ المخصوصونَ به عامًّا لأهلِ الإيمانِ، فكيف بخِطَابٍ توجَّهَ لِمَنْ هو دونَهم؟ ! فإذا دخَلَ المؤمنونَ في خِطابِ الأنبياءِ، فدخولُ النِّساءِ في خِطاب أمَّهاتِ المؤمنينَ أَوْلى.

ثانيًا: أنَّ تخصيصَ القرآنِ لأحدٍ بعينِهِ لمزيدِ اهتمامٍ فيه، وأنَّه أَولى بالاتِّباعِ مِن غيرِه، والخَصُوصِيَّةُ لا تثبُتُ إلَّا بدليلٍ زائدٍ عن مجرَّدِ

(1) أخرجه مسلم (1015)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 1978

الخِطابِ؛ كما هي عادةُ القرآنِ في خصائصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وقال تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52].

ثالثًا: أنَّ آيةَ الحِجَابِ جاء معها في الخِطَابِ نفسِه أوامرُ أُخرى: {وَاذْكُرْنَ} -يعني: يا أزواجَ النبيِّ- {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]؛ فالذِّكْرُ ليس خاصًّا بهنَّ، فلو قيل بالخَصُوصِيَّةِ، لم يُشرَعْ ذِكرُ ما يُتْلَى في بيوتِهِنَّ مِن القرآنِ والسُّنةِ إلَّا لأزواجِه! مع أنَّ هذه الآيةَ أظهَرُ في الخَصُوصيَّةِ؛ حيثُ قال:{فِي بُيُوتِكُنَّ} وأمَّا في آيةِ الحِجابِ الآتيةِ، فقال:{مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، فما قال:(حِجَابِكُنَّ) كما هنا {فِي بُيُوتِكُنَّ} ، وهل يُفهَمُ مِن هذا التخصيصِ الزائدِ: ألَّا يَدخُلَ فيه تلاوةً الآياتِ والحِكْمةِ في بيوتِ غيرِكُنَّ، ولا تلاوةً غيرِكنَّ في بيوتِهنَّ وبيوتِ غيرِهنَّ؟ ! وهذا لا يُقالُ به، ولا يَلتزِمُهُ مَن يقولُ بخَصُوصيَّةِ الحِجَابِ، مع أنَّه في نفسِ الآياتِ ونفسِ السِّياقِ.

رابعًا: ما أجمَعَ عليه العلماءُ: أنَّ الأحكامَ تدورُ مع العللِ والمقاصدِ مِن التشريعِ؛ فاللَّهُ تعالى قال هنا: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، وقال في آيةِ الحجابِ مخاطِبًا الصحابةَ:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، والعلةُ موجودةٌ في عمومِ الجنسَيْنِ على اختلافِ مَرَاتبِهم، ثمَّ ما الشيءُ الذي يُريدُ اللَّهُ إبعادَهُ مِن قلوبِ الصحابهِ وأمَّهاتِ المؤمنينَ، ولا يُوجَدُ عندَ بقيَّةِ النساءِ وبقيِةِ الرجالِ؛ إذا التقَوْا في المَجالسِ والبيوتِ والتعليمِ؟ ! وما الشيءُ الذي يَجِدُهُ الصحابةُ تُجَاهَ أمَّهاتِهِمْ أمَّهاتِ المؤمنينَ ولا يجدونَهُ في بقيةِ النساءِ؟ ! فإذا كان الحجابُ أطهَرَ لقلوبِهم، فمَنْ بعدَهم أحوَجُ إلى هذه الطهارةِ.

خامسًا: أنَّ اللَّهَ قال: {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} ، فجعَل طهارةَ قلوبِ الصحابةِ مَطْلَبًا بذاتِهِ؛ وهذا يحصُلُ في جميعِ النساءِ، بل هو في غيرِ

ص: 1979

أمَّهاتِ المؤمنينَ أكثَرُ؛ لأنَّ نظرَ الصحابةِ لأمَّهاتِ المؤمنينَ نظرُ إجلالٍ وتعظيمٍ وتوقيرٍ.

سادسًا: أنَّ قولَه تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} لا يُتصوَّرُ خَصُوصيَّةُ أمَّهاتِ المؤمِنِينَ به، فيُقالُ: إنَّه يجوزُ لغيرِهِنَّ أنْ يتبرَّجْنَ تبرُّج الجاهليَّةِ الأُولى، وأمَّا أمَّهاتُ المؤمنينَ، فيحرُمُ، والحقُّ أنَّه محرَّمٌ في حقِّ الجميع؛ ولكنَّ أمَّهاتِ المؤمنينَ أشَدُّ في التحريمِ.

سابعًا: أنَّ الصحابيَّاتِ اعتَدْنَ على تتبُّعِ أمَّهاتِ المؤمِنِينَ؛ فما فَعَلْنَهُ يَرَيْنَهُ تشريعًا لهنَّ مِن بابِ أَولى؛ كما جاء في "الصحيحَيْنِ"، عن عمرَ؛ أنَّ زوجتَهُ راجَعتْه، فقالتْ له محتجَّةً بأُمَّهاتِ المؤمنينَ:"مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ ! فَوَاللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ! "(1).

ثامنًا: أنَّ اللَّهَ يخصَّصُ في بعضِ السياقاتِ الأنبباءَ والصحابةَ تنبيهًا إلى دخولِ غيرِهم مِن بابِ أَوْلى في الحُكْمِ، وهذا أسلوبٌ شرعيٌّ كثيرٌ في الأحكامِ؛ تنبيهًا إلى أنَّه لمَّا دخَلَ الأعظمُ والأجلُّ، فغيرُهُ أَولى؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم في بيانِ الحدودِ:(لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا)(2)، وقال في تحريمِ الرِّبا:(أَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ)(3)، وقال في تحريم دماءِ الجاهليَّةِ:(إِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ)(4)، وربيعةُ ابنْ عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

تاسعًا: لو قُلْنا بالخَصُوصيَّةِ، فخَصُوصيَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن بابِ أَولى

(1) أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479).

(2)

أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688)؛ من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه مسلم (1218)؛ من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (1218)؛ من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 1980

في المواضعِ التي يَتوجَّهُ الخِطَابُ إليه لمَزِيَّةٍ له ليستْ في أحدٍ مِن الأتباعِ، فالآياتُ التي يُخاطَبُ بها النبيُّ عامَّةٌ له ولغيرِه، مع كونِ الخِطاب خاصًّا به ليس بمشتَرَكِ بالمقابَلَةِ مع المؤمنينَ؛ كما هنا:{أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].

فلا يُقالُ بأنَّ دخولَ البيوتِ بلا استئذانٍ جائزٌ؛ لخَصُوصيَّةِ النصِّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم هنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، ولكنَّ المقصودَ مزيدُ تشديدٍ في بيتِه كما أنَّ التشديدَ رائدٌ في نسائِه.

ومِثْلُ ذلك السَّرَاحُ والطلاقُ والمُتْعةُ؛ فخطابُ النبيِّ به لا يجعلُهُ خاصًّا له ولأزواجِه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)} [الأحزاب: 28]

وهل مَن تُرِيدُ اللَّهَ ورسولَهُ مِن النساءِ لا تدخُلُ في استحقاقِ الأجرِ العظيمِ؛ كما جاء في سياقِ نفسِ آياتِ الحِجابِ الموجَّهةِ لأمَّهاتِ المؤمنينَ: {إِنْ كُنْتُنَّ} -أي: يا نساءَ النبيِّ- {تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29]؟ !

عاشرًا: دفَعَ فَهْمَ الخَصُوصيَّةِ في آياتِ الحجاب غيرُ واحدٍ مِن مفسِّري السلفِ؛ كما رواهُ عبدُ الرزاقِ في "تفسيرِه"، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ؛ قال:"لمَّا ذكَرَ اللَّهُ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، دخَلَ نساءُ المسلِمَاتِ عليهنَّ، فقُلْنَ: ذُكِرْتُنَّ ولم نُذكَرْ، ولو كان فينا خيرٌ، ذُكِرْنَا، فأنزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] "(1).

حاديَ عشَرَ: أنَّ المفسِّرينَ يُطبِقونَ على هذا الأمرِ على اختلافِ

(1)"تفسير القرآن" لعبد الرزاق (2/ 116).

ص: 1981

مَشَاربِهم ومَذَاهبِهم، قال الجَصَّاصُ:"وهذا الحُكْمُ وإنْ نزَلَ خاصًّا في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأزواجِه، فالمعنى عامٌّ فيه وفي غيرِه"(1).

وقال القُرْطُبيُّ: "في هذه الآيةِ: دليلٌ على أنَّ اللَّهَ تعالى أَذِنَ في مَسْأَلَتِهِنَّ مِن وراءِ حجابٍ في حاجةٍ تَعرِضُ، أو مسألةٍ يُستفتَيْنَ فيها، ويدخُلُ في ذلك جميعُ النساءِ بالمعنى"(2).

وعلى هذا نَصَّ ابنُ جريرٍ (3)، وابنُ كثيرٍ (4)، وأئمَّةُ التفسيرِ.

ثانيَ عشَرَ: سببُ تخصيصِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمزيدِ تشديدٍ عَلَيْهِنَّ؛ لأنَّ أمرَهُنَّ يَمَسُّ النبيًّ عليه الصلاة والسلام فمعلومٌ أنَّ حِفظَ العِرْضِ يُقدَّمُ في بعصِ الأحوالِ على حِفْظِ الدِّينِ كَوْنًا وقَدَرًا؛ اهتمامًا به؛ فقد تكونُ زوجةُ نبيٍّ مِن أنبياءِ اللَّهِ كافرةً كامرأةِ لُوطٍ وامرأةِ نُوحٍ، لكنْ لا يُمكِنُ أن تقَعَ في الزِّنى، واللَّهُ يَعْصِمُهُنَّ مِن ذلك؛ لأنَّ الزِّنى أَذِيَّتُهُ متعدِّيةٌ للزَّوْجِ وعِرْضِه، فمَن يَبقى مع زانيةٍ وهو عالِمٌ: دَيُّوثٌ في الشرعِ، بخلافِ مَن يَبقى مع كافرةٍ؛ لهذا أجاز اللَّهُ زواجَ اليهوديَّةِ والنصرانيَّةِ بقولِه:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، وكَرِهَ نكاحَ الزانيةِ ولو مُسْلِمةً:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، وقال:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26]، وأُمَّهاتُ المؤمنينَ قدوةٌ، والتشديدُ عليهنَّ أَوْلى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب: 30]، مع أنَّ تحريمَ الفاحشةِ على جميعِ النساءِ، ولكنْ لنساءِ النبيِّ مزيدُ تشديدٍ، وهو في الحجابِ وفي الاختلاطِ والفاحشةِ سواءٌ، ولتمامِ عدلِ اللَّهِ ورحمتِهِ بِهِنَّ جَعَلَهُنَّ في بابِ الثوابِ أعظَمَ مِن الصحابيَّاتِ -فضلًا عن نساءِ الأُمَّةِ- في الإثابةِ

(1)"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 242).

(2)

"تفسير القرطبي"(17/ 208).

(3)

"تفسير الطبري"(19/ 166).

(4)

"تفسير ابن كثير"(6/ 408).

ص: 1982

على العملِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].

وحينَما ذكَرَ المضاعَفةَ في العقابِ والثوابِ، دَلَّ على أنَّ بقيَّةَ النساءِ على إثمٍ وثوابٍ ولكنْ لا مُضاعَفةَ فيه.

* * *

* قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37].

* * *

زوَّج اللَّه نبيَّه مِن طليقةِ زيدِ بنِ حارثةَ؛ لأنَّ زيدَ بنَ حارثةَ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه، وكانتِ العربُ تجعلُ ابنَ التبنِّي كابنِ النَّسَبِ في الميراثِ والتحريمِ، فأراد اللَّهُ أن يُذهِبَ ذلك الأمرَ والحرَجَ الذي رسَخَ في نفوسِهم بأنْ يفْعَلَهُ قدوةُ العالمينَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فزوَّجه اللَّهُ ابنةَ عمَّتِه زينبَ بنتَ جَحْشٍ، وعمَّتُه أُمَيْمَةُ بنتُ عبدِ المُطَّلِبِ، وكانتْ طليقةَ زيدٍ، فكانوا يعتبرونَها زوجةَ وَلَدِه، ولمَّا زوَّجه اللَّهُ إيَّاها، قام فدخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلا استئذانٍ (1)، وكانتْ تَفخَرُ بذلك على سائرِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتقولُ:"زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ"(2).

وهذا يدُلُّ أنَّ انتسابَ التبنِّي وثبوتَ المَحْرَمِيَّةِ عندَ العربِ كان شديدًا في نفوسِهم لمَّا طال العهدُ به بينَهم، وفي هذا: أنَّه احتِيجَ -لرَفْعِهِ مِن نفوسِهم- أنْ يفعلَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنفسِه؛ ليَفْعَلُوهُ هم بطُمَأْنينةٍ.

* * *

(1) أخرجه مسلم (1428)؛ من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (7420)؛ من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 1983

* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].

ذكَرَ اللَّهُ في هذه الآيةِ المطلَّقةَ التي لم تُمَسَّ ولم يُدخَلْ بها، ولم يَجعَلْ عليها عِدَّةً، وأَوجَبَ اللَّهُ لها المُتْعةَ، ولم يُوجِبْ لها المهرَ.

ولا خلافَ عندَ العلماءِ على أنَّه يجوزُ تطليقُ المرأةِ بعدَ العَقْدِ وقبلَ الدخولِ، وبمجرَّدِ وقوعِ الطلاقِ عليها فهي بائنةٌ بلا عِدَّةِ؛ لها أنْ تتزوَّجَ، وللرِّجالِ أنْ يَخطُبوها.

وقد روى مالكٌ في "الموطَّأِ" -وعنه الببهقيُّ- مِن حديثِ معاويةَ بنِ أبي عيَّاشٍ: "أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ؛ قَالَ: فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ البُكَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَاذَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ؛ فَاذْهَبْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَسَلْهُمَا، ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا، فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؛ فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلَاثَةُ تُحَرَّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ"(1).

وفي روايةٍ أنَّ عائشةَ تابَعَتْهما على ذلك (2).

وبهذا قَصَى عليُّ بنُ أبي طالبٍ (3)، وابنُ مسعودٍ (4)، وزيدٌ (5)،

(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 571)، واالبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 335، و 355).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 355).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11084) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(17858).

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11084) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(17858).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11084) وابن المنذر في "لأوسط"(9/ 159).

ص: 1984

وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو (1)؛ ولا مخالفَ لهم.

وفي قولِه تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} دليلٌ على أنَّ الطلاقَ لا يقعُ إلَّا بعدَ النِّكَاحِ؛ لقولِه تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ؛ فلا بدَّ للطلاقِ مِن نكاحٍ يَسْبِقُهُ، فمَنْ قال:"إنْ تَزَوَّجْتُ فلانةَ، فهي طالقٌ"، فإنَّها لا تَطلُقُ منه إنْ تزوَّجَها.

وبهذا يقولُ جمهورُ العلماءِ؛ كالشافعيِّ وأحمدَ، وبه يعملُ أكثرُ الصحابةِ؛ فقد روى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ أنَّه قال في قولِ الرجُلِ: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها في طالقٌ، قال: ليس بشيءٍ؛ مِن أَجْلِ أنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ؛ أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ (2).

ورُوِيَ مِن مُرسَلِ طاوسٍ (3)، ومِن حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ (4)، ومِن حديثِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ (5) ومعاذٍ (6) مرفوعًا:(لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ).

وقال بهذا عليٌّ وعائشةُ وجابرٌ وابنُ المسيَّبِ وطاوسٌ والقاسمُ وعروةُ والحسنُ وعطاءٌ، وخَلْقٌ مِن السلفِ، وقد ذكَرَ البخاريُّ في "صحيحِه" في بابِ (لا طلاقَ قبلَ نكاحٍ) أكثَرَ مِن عشرينَ نَفْسًا مِن السلفِ على ذلك (7)، وبالتتبُّعِ هم نحوُ الثلاثينَ.

(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 570)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(17854).

(2)

"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3142).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11457)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(17815).

(4)

أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(2265)، وابن أبي شيبه في "مصنفه"(17814).

(5)

أخرجه ابن ماجه (2048).

(6)

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11455)، والدارقطني في "سننه"(4/ 17)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 419)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 320).

(7)

"صحيح البخاري"(7/ 45).

ص: 1985

وقد جاء عن ابنِ مسعودٍ أنَّه خالَفَ في ذلك، ووافَقَهُ على قولِه أبو حنيفةَ، وأنكَرَ ابنُ عبَّاسٍ على ابن مسعودٍ ذلك؛ كما روى الحاكمُ والبيهقيُّ؛ مِن حديثِ يزيدَ النَّحْويِّ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: ما قالها ابنُ مسعودٍ، وإن يكنْ قالَها، فزَلَّةٌ مِن عالمٍ، في الرجلِ يقولُ: إنْ تزوَّجْتُ فلانةَ، فهي طالقٌ؛ قال اللَّهُ تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ، ولم يقل: إذا طلَّقْتُم المؤمناتِ ثمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ (1).

* * *

* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)} [الأحزاب: 50].

بيَّن اللَّهُ ما أحَلَّهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم مِن النساءِ، وقد جعَلَ شَرْطَ جوازِ نكاحِهِ منهنَّ: أنْ يَكُنَّ مؤمناتٍ، ويُؤْتِيَهُنَّ أجورَهُنَّ، وهي مُهُورُهُنَّ.

وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على وجوبِ المَهْرِ وفَرْضِه، وأنَّه إن وقَعَ المهرُ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النساءِ مع رغبتِهِنَّ فيه وفضلِهِ على الرجالِ والنساءِ جميعًا، فهو على غيرِهِ مِن بابِ أَولى، وقد تقدَّم الكلامُ على المَهْرِ وحُكْمِه وتفصيلِه وتسميتِهِ وحَدِّهِ وحُكْمِ استردادِه؛ وذلك مفرَّقًا عندَ قولِهِ تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى

(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 205)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 320).

ص: 1986

الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]، وعندَ قولِه تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وقولِه تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، وقولِه تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} [النساء: 20].

ولكنَّ اللَّهَ خَصَّ نبيَّه بأنْ أحَلَّ له مَنْ تَهَبُ نفسَها له؛ كما قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فأحَلَّ اللَّهُ لنبيِّه مَن تَهَبُ نفسَها له، وهذا خاصٌّ به؛ لظاهرِ الآيةِ.

وفي قولِه تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} دليلٌ على أنَّ نكاحَ القراباتِ يَسْتَوِي في الحِلِّ مع نكاحِ البعيداتِ؛ فقد أحَلَّ اللَّهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك كلَّه على السَّوَاءِ، ولا يُحِلُّ اللَّهُ لنبيِّه إلَّا الطيِّباتِ.

وأمَّا ما يُنسَبُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لا تَنكِحُوا القَرَابَةَ القَرِيبَةَ؛ فَإِنَّ الوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا)، وكذلك مقولةُ:"اغْتَرِبُوا؛ لا تُضْوُوا"، فباطلٌ لا أصلَ له في السُّنَّةِ، وإنَّما يُنسَبُ مِن قولِ عمرَ؛ أنَّه قال لآلِ السائب:"قد أَضْوَيْتُم، فانكِحُوا النوابغَ"؛ رواهُ إبراهيمُ الحَرْبيُّ في "غريبِ الحديثِ"؛ ولا يصحُّ (1)، وقد تزوَّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنةَ عمَّتِهِ زينبَ بنتَ جحشٍ، وزوَّجَ فاطمةَ مِن ابنِ عمَّه عليِّ بنِ أبي طالبٍ.

(1) ينظر: "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي (2/ 379)، و"البدر المنير"(7/ 500)، و"التلخيص الحبير"(3/ 146).

ص: 1987

وفي قوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} قراءتانِ: قراءةٌ بكسرِ (إِنْ)، وقراءةٌ بفتحِها، وحمَل بعضُهم الكسرَ على عدمِ الوقوعِ عندَ نزولِ الآيةِ، والمعنى: إنْ وهَبَتْ؛ يعني: إنْ وقَع ذلك، فهو حلالٌ خاصٌّ بك، والحاملُ في ذلك قولُه:{أَحْلَلْنَا} ، فليس مجرَّدُ وَهْبِ النَّفْسِ مجيزًا للنِّكاحِ إلَّا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقد اختُلِفَ في هذا: هل وقَعَ أنْ تزوَّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم امرأةً وهَبَتْ نفسَها له أو لا؟ على قولَيْنِ للعلماءِ؛ كما اختلَفَ مَن قال بحدوثِ ذلك في تعيينِها، وليس هذا محلَّ الكلامِ عليه، ولكنَّ الثابتَ أنَّ منهنَّ مَن وهَبتْ نفسَها كما في "الصحيحينِ"؛ مِن حديثِ عائشةَ (1)، وسهلِ بنِ سعدٍ (2)؛ وإنَّما النِّزاعُ في قَبُولِهِ لها، واللَّهُ أعلَمُ.

* * *

* قال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].

في هذا: توسعةٌ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في تعامُلِهِ مع نسائِه، وقد قال بعضُ السلفِ: إنَّ اللَّهَ خَفَّفَ عليه في أمرِ التسويةِ في القَسْمِ، ورُوِيَ هذا عن قتادةَ ومجاهِدٍ والضحَّاكِ (3)، وقال جماعةٌ مِن الفقهاءِ:"إنَّ القَسْمَ بينَ الزوجاتِ ليس واجبًا عليه".

(1) أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464).

(2)

أخرجه البخاري (5030)، ومسلم (1425).

(3)

"تفسير الطبري"(19/ 139)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 446).

ص: 1988

وقال جماعةٌ ومِن السلفِ: إنَّ المرادَ بذلك: هو أنَّ لك أنْ تُبقِيَ مَن تشاءُ في عِصْمَتِكَ، وتطلِّقَ مَن تشاءُ؛ ورُوِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ والحسنِ (1)؛ وفي هذا أنَّ اللَّهَ أباحَ له مِن النِّساءِ الزواجَ بلا عدَدٍ، وقد نصَّ على هذا المعنى الشافعيُّ في "الأمِّ"(2).

وبعضُهم حمَل الإرجاءَ في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ؛ يعني: مِن الواهباتِ أنفُسَهُنَّ لك، وقال بهذا الشعبيُّ (3).

وحمَل بعضُ المفسِّرينَ الآيةَ على العمومِ في إرجاءِ الواهباتِ أو إمساكِهِنَّ، وفي أمرِ القَسْم بينَ الزوجاتِ أنَّه بالخيارِ، واستُدِلَّ عليه بقوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} (4)؛ أي: أنَّ أمَّهاتِ المؤمنينَ إنْ عَلِمْنَ أنَّ اللَّهَ أذِنَ لكَ وليس بحقٍّ لهنَّ ذلك، فالأمرُ أهوَنُ في نفوسِهنَّ فلا يَحْزَّن ولا يَجِدْنَ حرَجًا، ولا يجدُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حرَجًا مِن ذلك، فلا يُظَنُّ به مَيْلٌ لواحدةٍ دونَ أُخرى.

ومع ذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعدِلُ بينَ نسائِه ويَستأذِنُهُنَّ تطييبًا لنفوسِهِنَّ، وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن عائشةَ "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ المَرْأَةِ مِنَّا، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}، فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أَقُولُ لَهُ: إنْ كَانَ ذَاكَ إلَيَّ، فَإنِّي لَا أُرِيدُ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا"(5).

وكانتْ عائشةُ رضي الله عنها تقولُ: "كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَصِّلُ بَعْضَنَا

(1)"تفسير الطبري"(19/ 140).

(2)

"الأم"(5/ 151).

(3)

"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3145).

(4)

"تفسير الطبري"(19/ 143)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 446).

(5)

أخرجه البخاري (4789)، ومسلم (1476).

ص: 1989

عَلَى بَعْضٍ الْقَسْمِ" (1).

وقد كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يستأذِنُ أزواجَهُ في أنْ يمرَّضَ في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها (2).

وفي وجوبِ عدلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عليه مع أزواجِه خلافٌ عندَ الفقهاءِ، ولكنَّهم لا يختلِفونَ في وجوبِ العدلِ في غيرِه مع أزواجِهم، وقد قال ابنُ قُدَامةَ: "لا نَعْلَمُ بينَ أهلِ العِلمِ في وجوبِ التسويةِ بينَ الزوجاتِ في القَسْمِ خِلافًا، وقد قال اللَّهُ تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وليس مع الميل معروفٌ، وقال اللَّهُ تعالى:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129](3)، وقد تقدَّمَ الكلامُ على مسألةِ العدلِ في القَسْمِ بينَ الزَّوْجاتِ عندَ قولِهِ تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129].

* * *

* قال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} [الأحزاب: 52].

بعدَما بيَّن اللَّهُ لنبيِّه ما يَحِلُّ له، بيَّن سبحانَهُ ما يحرُمُ عليه مِن النساءِ، وقد اختُلِفَ في المرادِ بقوله تعالى:{مِنْ بَعْدُ} :

فمِنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بذلك: أنَّ اللَّهَ حرَّم على نبيِّه أن يتزوَّجَ النساءَ بعدَ هذه الآيةِ، وألَّا يطلِّقَ نساءَهُ، وحمَلَ ذلك على مجازاةِ أمَّهاتِ

(1) أخرجه أبو داود (2135).

(2)

أخرجه البخاري (198)، ومسلم (418).

(3)

"المغني"(10/ 235).

ص: 1990

المؤمنينَ حينَما خَيَّرَهُنَّ اللَّهُ بينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ الحياةِ الدُّنيا، فاختَرْنَ رسولَ اللَّهِ؛ وهذا القولُ ذهَبَ اليه جماعةٌ منِ السلفِ؛ كابنِ عبَّاسٍ ومجاهدٍ وقتادةَ وغيرِهم (1).

وقد جاء أنَّ اللَّهَ أباحَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم النِّكاحَ بعدَ ذلك، ولكنَّه لم يتزوَّجْ، وعلَّلَهُ بعضُهُمْ: أنْ تكونَ المِنَّةُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليهنَّ؛ إكرامًا له وإحسانًا إليه، وقد روى أحمدُ وهو في "السُّننِ" أيضًا، عن عائشةَ رضي الله عنها؛ قالتْ:"مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ"(2).

وقد قال بأنَّ تحريمَ النساءِ عليه نُسِخَ جماعةٌ؛ كالشافعيِّ وغيرِه، ومِن السلفِ مَن قال: إنَّ التحريمَ باقٍ عليه إلى وفاتِه صلى الله عليه وسلم، وإنَّ آيةَ التحريم لم تُنسَخْ، ورُوي هذا عن ابنِ عبَّاسٍ (3)، والحَسَنِ (4)، وابنِ سِيرِينَ (5).

ومنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بقولِه: {مِنْ بَعْدُ} ؛ يعني: ما عَدَّهُ اللَّهُ في الآيةِ السابقةِ ممَّا أحَلَّهُ اللَّهُ لنبيِّه، فما بَعْدَهُ يحرُمُ عليه؛ ورُوِيَ هذا عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ (6)، وقولًا لمجاهدٍ (7).

والقولُ الأولُ أشهَرُ، وعليه جمهورُهم.

* * *

(1)"تفسير الطبري"(19/ 147)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 447).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 41)، والترمذي (3216)، والنسائي (3204).

(3)

"تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3146)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 448).

(4)

"تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3147)، و"تفسير القرطبي" (17/ 197).

(5)

"تفسير القرطبي"(17/ 197).

(6)

السابق.

(7)

"تفسير القرطبي"(17/ 197)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 448).

ص: 1991

* قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} [الأحزاب: 53].

في هذه الآيةِ: تعظيمٌ لحُرْمةِ بيتِ النبوَّةِ، فحرَّم الدخولَ إلى بيوتِهِ إلَّا بإذنِهِ ولو كان ذلك لحاجاتٍ، وذلك بعدَما فرَضَ اللَّهُ الحِجابَ عليهنَّ؛ زيادةً في تطهيرِ بيتِ النبوَّةِ، ودفعًا للحرَجِ الذي يجدُهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن كثرةِ الناسِ الواردينَ إلى بيتِهِ بحاجاتِهم فيُؤذُونَهُ ويُؤذُونَ أهلَه؛ ولهذا قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} .

وفي هذا: عِظَمُ حياءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أصحابِه، مع علوِّ مَقَامِهِ وسيادتِهِ في الخَلْقِ؛ فإنَّ الرفيعَ عادةً يَجسُرُ على مَنْ دونَهُ ولا يجدُ في نفسِهِ حياءً كما يجدُهُ ممَّن هو مِثلُهُ أو فوقَه؛ وهذا مِن كمالِ الخُلُقِ وصِفاتِ الأنبياءِ؛ كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقد جاء في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ؛ قال:"كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءَ مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا"(1).

والحياءُ ممَّن دونَ الإنسانِ هو محلُّ اختبارِ كمالِ الأخلاقِ ونُبلِها، وأمَّا حياءُ الإنسانِ ممَّن هو مِثلُه وفوقَه، فيجدُهُ أكثَرُ الناسِ.

(1) أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320).

ص: 1992

وقد تقدَّم الكلامُ على مسألةِ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتِهِ، وبَذْلِ السلامِ عندَ دخولِها، في سورةِ النورِ.

وقولُه تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ؛ يعني: غيرَ منتظِرِينَ نُضْجَ الطعامِ واستواءَهُ؛ وذلك أنَّ منهم مَن كان يأتي إلى بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقتَ غدَائِهِ مِن غيرِ دعوةٍ، فنهاهُم اللَّهُ عن ذلك، وأَذِنَ لهم بدخولِ البيتِ عندَ الدعوةِ فحَسْبُ، مِن غيرِ مجيءٍ لانتظارِ الغداءِ، بلا دعوةٍ منه صلى الله عليه وسلم.

وقولُه تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، في هذا تعظيمٌ لحُرْمةِ أمَّهاتِ المؤمنينَ بعدَما بيَّن حُرْمةَ بيتِه.

والمتاعُ: كلُّ ما يُستمتَعُ له مِن البيوتِ عادةً؛ مِن طعامٍ وشرابٍ وإناءٍ ولِباسٍ.

والحِجَابُ يُستعمَلُ في الكتَابِ والسُّنَّةِ بمعانٍ، أشهَرُها وأَعَمُّها -وهو المرادُ هنا-: أنَّه بمعنى الحاجزِ الساترِ بينَ شيئَيْنِ، ويكونُ مِن جدارٍ أو قُمَاشٍ أو خَشَبٍ، وليس هو في القرآنِ والسُّنَّةِ يُطلَقُ على معنًى مِن مَعاني اللِّبَاسِ أو اللّبْسِ، وهو المرادُ في الآيةِ لأُمَّهَاتِ المؤمنينَ:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، ومِن هذا المعنى: قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وقولُهُ عن مريمَ:{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [17]، وقولُه عن نبيِّه سليمانَ:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} [ص: 32]، وقولُه عن قولِ الكفارِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} [فصلت: 5]، وكذلك هو في السُّنَّةِ بمِثْلِ هذا المعنى، فليس هو لِباسًا يختَصُّ به أحدٌ؛ وإنَّما هو ساتِرٌ بينَ جهتَيْنِ أو شيئَيْنِ:

ص: 1993

فقد يُطلَقُ في اللُّغةِ على الفصلِ بينَ رجالٍ ورجالٍ؛ كما في حديثِ أنسٍ في "الصحيحَيْنِ"، في قصةِ موتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:"أَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحِجَابَ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ"(1).

وقد يُطلَقُ على الفصلِ بينَ الرجالِ والنساءِ؛ كما في قولِ عمرَ في الصحيحِ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِالحِجَابِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الحِجَابِ"(2).

وإنَّما شدَّد اللَّهُ على نساءِ النبيِّ؛ تعظيمًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبقيَّةُ النساءِ يَدخُلْنَ في هذا الحُكْمِ؛ لكنَّ حُكْمَهُنَّ أخَفُّ؛ لأنَّ التَّبِعَةَ عليهنَّ وعلى أزواجِهنَّ أيسَرُ، ولأنَّ اللَّهَ ذكَرَ علةً مشترَكةً لكلِّ النساءِ:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ، ولا يسُوغُ أنَّ طهارةَ قلوبِ سائرِ المؤمناتِ وسائرِ المؤمنينَ ليس بمَطلَبٍ في الشرعِ، وقد ذكَرَ اللَّهُ ذلك في أمَّهاتِ المؤمنينَ؛ وهنَّ أطهَرُ نساءِ العالَمِين، وفي الصحابةِ؛ وهم أطهَرُ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها، فغيرُهم أحوَجُ إلى ذلك، وقال بعمومِ هذه الآيةِ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وابنُ عبدِ الَبرِّ، وغيرُهما (3).

وهذه الآيةُ جاءتْ في حُكْمِ الاحتجابِ عن الرجالِ في البيوتِ، ومِثلُهُ التعليمُ والعملُ؛ لأنَّه يطولُ الحديثُ والقعودُ فيها، فكانتْ آيةُ الحجابِ مبيِّنةً لحُكْمٍ، وآيةُ الجلابيبِ مبيِّنةً لحُكْمٍ آخَرَ، وهو اللِّباسُ عندَ إرادةِ الخروجِ إلى الطُّرُقاتِ والسوقِ والمساجدِ وغيرِها.

* * *

(1) أخرجه البخاري (681)، ومسلم (419).

(2)

أخرجه البخاري (4483).

(3)

"تفسير الطبري"(19/ 166)، و"التمهيد"(8/ 236).

ص: 1994