الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكْمُ بيعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ودُورِها:
لا يختلِفُ السلفُ على أنَّ أماكنَ المَناسِكِ الخاصَّةَ لا يجوزُ بيعُها؛ كالمَطَافِ والمَسْعَى ومَرْمَى الجِمَارِ، وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ؛ كابنِ عقيلٍ (1) وابنِ تيميَّةَ مِن أصحابِنا، وكذلك: فإنَّ مزارعَ مكَّةَ يجوزُ بيعُها، وبه قال الجماهيرُ، وقد حكى ابنُ تيميَّةَ الإجماعَ على ذلك (2)، ولكنَّ الفقهاءَ اختلَفوا في دُورِ مكَّةَ ومَساكنِها ورِبَاعِها؛ هل يجوزُ بيعُها؟ على أقوالٍ ثلاثةٍ، هي ثلاثةُ أقوالٍ عن مالكٍ:
الأولُ: ذهَبَ الشافعيُّ: إلى جوازِ تملُّكِها وبيعِها؛ وذلك لِما ثبَتَ في "الصحيحَيْنِ"، عن أسامةَ بنِ زيدٍ؛ أنَّه قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ:(وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ، أَوْ دُورٍ؟ )، "وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ"(3).
وقد جاء عن بعضِ الصحابةِ أنَّهم اشتَرَوْا مِن أرضِ مَكَّةَ، كما اشترى عمرُ بن الخطَّابِ مِن صَفْوانَ بنِ أميَّةَ دارَهُ بمَكَّةَ، فجعَلَها سِجْنًا بأربعةِ آلافِ درهمٍ (4).
ورُوِيَ عن عمرَ خلافُ ذلك؛ وفيه نظرٌ.
وقد قال بهذا القولِ طاوسٌ وعمرُو بنُ دينارٍ.
الثاني: مذهبُ جماعةٍ مِن السلفِ؛ كعطاءٍ ومجاهدٍ، وبه قال أبو حنيفةَ وإسحاقُ: أنَّها لا تُباعُ؛ وعلى هذا مشهورُ مذهبِ الحنابلةِ، واستُدِلَّ لذلك بما رواهُ ابنُ ماجَهُ؛ مِن حديثِ علقمةَ بنِ نَضْلَةَ؛ قال:
(1)"المغني" لابن قدامة (6/ 367).
(2)
"مجموع الفتاوى"(29/ 211).
(3)
أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351).
(4)
أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (2423)، والبيهقي فى "السنن الكبرى"(6/ 34).
"تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ؛ مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ"(1).
وهو مرسَلٌ ضعيفٌ.
وبما روى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَكَّةُ مُنَاخٌ؛ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا، وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا)؛ أخرَجَهُ الدارقطنيُّ (2)، وفيه جهالةٌ، وروَى نحوَهُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، ولا يصحُّ رفعُهُ (3).
وأمَّا ما رواهُ أحمدُ وأهلُ "السُّننِ"؛ مِن حديثِ عائشةَ؛ قالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ؟ فَقَالَ:(لَا، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ)(4)، فهو في أماكنِ المَناسِكِ؛ فمِنًى مِن مواضعِ النُّسُكِ كعَرَفةَ ومُزْدَلِفَةَ والمَسْعَى ومَرْمَى الجِمَارِ: لا تُملَكُ، وإنَّما كلامُ الفقهاءِ عامَّتُهُ في رِبَاعِ مكَّةَ، لا في مَناسِكِها.
الثالثُ: مذهبُ أحمدَ: أنَّها تُملَكُ وتُوَرَّثُ وتُباعُ، لكنَّها لا تُؤجَّرُ؛ فمَن استغنى عنها أسكَنَها؛ وبهذا قال ابنُ تيميَّةَ.
وقال قومٌ بالكراهةِ، فأجازوا البيعَ على كراهةٍ فيه؛ وهذا مرويٌّ عن مالكٍ وغيرِه.
والأظهَرُ: جوازُ بيعِ دُورِ مكَّةَ ورِبَاعِها وإجارَتِها، وقد كان الصحابةُ ومَن بعدَهم يَبْنُونَ دُورًا ويَبيعونَها ويُؤْجِرونَها، ولو كان النهيُ صريحًا لجميعِ رِباعِ مَكَّةَ، لكان واردًا بنصٍّ قطعيٍّ يجري عليه عملُ الصحابةِ ولا يَختِلِفونَ فيه، فقد كان بمكَّةَ جماعةٌ مِن الصحابةِ، ولم يثبُتْ عنهم القطعُ
(1) أخرجه ابن ماجه (3107).
(2)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(3/ 58).
(3)
أخرجه الدارقطني في "سننه"(3/ 57).
(4)
أخرجه أحمد (6/ 187)، وأبو داود (2019)، والترمذي (881)، وابن ماجه (3006) و (3007).
بذلك، ثمَّ إنَّ البيعَ كالمِيراثِ، وثبَتَ أنَّ أهلَ مكَّةَ يَتوارَثونَ، والإرثُ انتقالُ المِلْكِ مِن شخصٍ لشخصٍ، والبيعُ مِثلُهُ ولكنْ باختلافِ السببِ، وفي المنعِ مِن بيعِ دُورِ مكَّةَ ورِباعِها مِن الضِّيقِ والحرَجِ ما اللَّهُ به عليمٌ.
والناسُ يَتوارَثونَ ويَتبايَعونَ مَساكنَ مكَّةَ ودُورَها إلى اليومِ، وعملُهم الشائعُ في كلِّ القرونِ عليه.
وقد بيَّن اللَّهُ عَظَمَةَ الصَّدِّ عن المسجدِ الحرامِ في مواضعَ؛ منها قولُه تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
وتقدَّم الكلامُ على تعظيمِ المسجدِ الحرامِ، وحُرْمةِ الصدِّ عنه وقطعِ الطريقِ إليه، في مواضعَ؛ منها عندَ قولِهِ تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
وقولُه تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لِعَظَمةِ البيتِ جعَلَ اللَّهُ مَن هَمَّ بظُلْمٍ فيه مستحِقًّا للعقوبةِ ولو لم يَفعَلْ، وقد فسَّر بعضُ السلفِ -كابنِ عبَّاسٍ ومجاهدٍ- الظُّلمَ في الآيةِ: بالشِّرْكِ (1).
وقد تقدَّمَ الكلامُ على أمانِ مكَّةَ وحُرْمتِها، وما وقَعَ فيها مِن شدائدَ وقتلٍ، وما يقَعُ فيها بعدَ ذلك، عندَ قولِهِ تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
* * *
(1)"تفسير الطبري"(16/ 507).