الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجالٍ وامرأتَيْنِ" (1).
ورُوِيَ أنَّهم ثلاثةُ رجالٍ، وتِسْعُ نِسوةٍ (2).
وقولُه تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ؛ المَعَرَّةُ: الإثمُ، وهو مشتقٌّ مِن العارِ، وهو العَيْبُ.
وأخَذَ منه بعضُهم وجوبَ الدِّيَةِ عندَ قَتْلِهم؛ كما قالهُ ابنُ إسحاقَ (3)، والأظهَرُ: عدمُ وجوبِ الديةِ؛ لأنَّ اللَّهَ أسقَطَ الديةَ وأوجَبَ الكفارةَ في قتلِ المؤمِنِ الذي يكونُ في صَفِّ المشرِكينَ ولا يُعلَمُ له؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].
ولم يأمُر النبيُّ أسامةَ بدِيَةِ مَن قتَلَهُ لَمَّا تشهَّدَ وهو في صفِّ المشرِكِينَ، والحديثُ في "الصحيحينِ"(4)، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المسألةِ عندَ قولِهِ تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
حُكْمُ تترُّسِ المشرِكِينَ بالمُسلِمِينَ:
التترُّسُ مأخوذٌ مِن التُّرْسِ، وهو نوعٌ مِن السلاحِ يُتَوَقَّى به، وتَترَّسَ الرجُلُ بالتُّرْسِ؛ يعني: أنَّه تَوَقَّى به.
ومسألةُ تترُّسِ الكفارِ بالمُسلِمِينَ مِن المسائلِ المعروفةِ عندَ السلفِ والفقهاءِ، والكلامُ فيها ليس على بابِ واحدٍ أو نوعٍ مُتَّحِدٍ؛ وإنَّما هي
(1) أخرجه الطبرانى في "المعجم الكبير"(2204).
(2)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(3543).
(3)
"تفسير الطبري"(21/ 306).
(4)
أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (96).
على أحوالٍ؛ وذلك أنَّه لا يخلو الجهادُ غالبًا مِن ذلك، خاصَّةً في الزمنِ المتأخِّرِ في زمنِ تكاثُرِ الشعوبِ والأُمَمِ واختلاطِها، وتترُّسُ الكفارِ بالمُسلِمينَ على أقسامٍ:
القسمُ الأوَّل: أنْ يتترَّسَ الكفارُ بفئةٍ مِن المُسلِمينَ، ومرادُهم حمايةُ أنفُسِهِمْ فقطْ، ولا خوفَ ولا ضررَ على جماعةِ المُسلِمينَ مِن تركِ أولئك الكافِرِينَ وإمهالِهِمْ حتى ينجوَ المؤمنونَ ولو طال الأمدُ، فلا يجوزُ رميُ المُشْرِكينَ بما يُقتَلُ به المُسلِمونَ؛ وذلك كحالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع قريشٍ؛ إذْ منَعَهُ اللَّهُ مِن دخولِ مكةَ بقتالٍ يومَ الحُدَيْبيَةِ؛ لأنَّ في ذلك وَطْئًا للمُسلِمينَ المتخفِّينَ بإيمانِهم وَسَطَ المشركينَ، فيُقتَلُونَ مِن حيثُ لا يَعلَمُ المؤمنونَ، وإلى هذا ذهَب جمهورُ العلماءِ، خلافًا للحنفيَّةِ؛ فقد أجازُوا الضَّرْبَ بكلِّ حالٍ مع عدمِ قصدِ المُسلِمينَ عندَ الرَّمْي، ولو أصابوهم، فلا شيءَ عليهم.
القسمُ الثاني: أن يتترَّسَ الكفارُ بفئةٍ مِن المُسلِمينَ، وليس مرادُهُمْ حمايةَ أنفُسِهم فقطْ، بل للإضرارِ بالمُسلِمينَ، وبتركِ قتالِ المشرِكِينَ يَلحَقُ المُسلِمِينَ ضررٌ؛ وذلك كأنْ يتترَّسَ الكفارُ بالمُسلِمينَ ويَتَّخِذُوهُمْ دروعًا ليتقدَّمُوا ويَقتُلوا ويُصِيبوا المُسلِمينَ برَمْيِهِمُ الرصاصَ والقذائفَ والسِّهامَ، فيَظفَروا بالمُسلِمينَ وحُرُماتِهم، فإنِ امتنَعَ المُسلِمونَ عن رميهم، تضرَّرَ المُسلِمونَ، وإنْ صَدُّوهم، قتَلُوا المُسلِمينَ مع الكافرينَ، فلا يخلو الضررُ الذي يَلحَقُ المؤمنينَ مِن حالينِ:
الأُولى: أن يكونَ رميُ المشركينَ يُحقِّقُ ضررًا بالمُسلِمينَ المتترِّسينَ أشَدَّ مِن الضررِ اللاحقِ لجماعةِ المُسلِمينَ عندَ رمي العدوِّ لهم، كأنْ تكونَ الجماعةُ المُتترَّسُ بها كثيرةً كأَلْفِ رجلٍ وامرأةٍ مِن المُسلِمينَ، ولو رماهُم المُسلِمونَ، لَقَتَلُوهم جميعًا، ولو ترَكُوا العدوَّ يَرمِيهِم، فإنَّه
لا يُصِيبُ منهم إلَّا قدرًا يسيرًا لا يُذكَرُ، فلا يجوزُ قتلُ المُسلِمينَ الذين يتترَّسُ بهم العدوُّ على الأرجحِ؛ وهذا كما تترَّسَ الباطنيُّونَ هذه الأيامَ مِن النُّصَيْرِيَّةِ بألفَيْنِ مِن المُسلِمينَ في بعضِ نَواحي الشامِ يَحْتَمُونَ بهم، وما يَلحَقُ أهلَ السُّنَّةِ مِن رَمْيِهم أقلُّ مِن عُشْرِ مِعْشَارِ ما لو رمَوْهم وقتَلُوهم مع المُسلِمينَ، فيجبُ عليهم عَدَمُ رَمْيِهم؛ حتى لا يُصابَ المُسلِمونَ لكثرتِهم؛ وإنَّما يُحاصِرونَهم حتى يُنجِيَ اللَّهُ المؤمنينَ ويَدفَعَ شرَّ الباطنيِّين.
الثانيةُ: أن يكونَ رميُ المشرِكِينَ يَدفَعُ عن المُسلِمينَ ضررًا أشَدَّ مِن الضررِ الذي يَلحَقُ المُسلِمينَ الذين تترَّسَ بهم العدوُّ؛ كأنْ يتترَّسَ العدوُّ بعددٍ قليلٍ، ويقومَ برمي المُسلِمينَ بما يُمْكِنُهُ مِن القذائفِ، فيُصيبَ منهم ويقتُلَ أكثَرَ ممَّا يقتُلُهُ المُسلِمونَ مِن إخوانِهم الذين يتترَّسُ بهم العدوُّ، ولو تُرِكَ العدوُّ لأجلِ تترُّسِهِ لَتَقَدَّمَ وأَثْخَنَ بالمؤمِنِينَ واستباحَ الدماءَ والأعراضَ.
فيجوزُ رميُ المشرِكِينَ ولو قتَلُوا معهم مَن تترَّسُوا بهم مِن المؤمنينَ، وقد حكى الاتفاقَ على جوازِ ذلك جماعةٌ مِن العلماءِ كالقُرْطُبيِّ (1)، وابنِ تيميَّةَ (2)، وقد ذكَر النوويُّ وجهًا للشافعيَّةِ بالمنعِ (3).
وبعضُ الفقهاءِ يجعلُ مَناطَ المنعِ والجوازِ هو ضررَ المُسلِمِينَ مِن غيرِ تفصيلٍ، والصحيحُ التفصيلُ، والحاجةُ ماسَّةٌ إليه، خاصَّةً في زمنِنا؛ لكثرةِ المُسلِمِينَ وتسلُّطِ الكفارِ والمشرِكِينَ، فقد يُحيطُ المشرِكُونَ ويتترَّسُونَ بأهلِ قريةٍ كاملةٍ مِن المُسلِمِينَ، وفيها آلافُ المُسلِمِينَ، والمشرِكونَ قليلٌ؛ ولكنَّهم تمكَّنُوا منهم بقوةِ سلاحٍ معهم، كما تترَّسَ الباطنيُّونَ وهم قليلٌ في الشام بسِجْنٍ فيه عشَرةُ آلافِ مسلِمٍ مِن أهلِ السُّنَّة؛ فلا يجوزُ ولا يصحُّ أنْ يُقالَ: إنْ كان في هؤلاء المشرِكِينَ ضررٌ
(1)"تفسير القرطبي"(19/ 333).
(2)
"مجموع الفتاوى"(20/ 52).
(3)
"روضة الطالبين"(10/ 246).
ولو قليلًا على جماعةِ المُسلِمينَ المقاتِلةِ، فإنَّه يجوزُ لهم أنْ يُبِيدُوا المشرِكِينَ ومَن تترَّسُوا به مِن أهلِ القريةِ جميعًا، وأسلحةُ اليومَ ليستْ كأسلحةِ السابقينَ، والتترُّسُ اليومَ ليس كالتترُّسِ السابقِ؛ وإنَّما الواجبُ التفصيلُ في مقدارِ الضررِ في التترُّسِ اللاحقِ مِن جِهَتَي المُسلِمينَ المُتترَّسِ بهم والمُقاتِلةِ.
وقد جاء عن مالكٍ؛ أنَّه سُئِلَ عن قومٍ مِن المشرِكِينَ في البحرِ في مَرَاكِبِهم أخَذُوا أُسَارَى المُسلِمينَ، فأدرَكَهُمْ أهلُ الإسلامِ وأرادوا أنْ يُحْرِقُوهم ومَرَاكِبَهم بالنارِ ومعهم الأُسارَى في مراكبِهم؟ قال مالكٌ: لا أرى أن تُلقى عليهم النارُ، ونَهَى عن ذلك وقال: يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى في كتابِهِ لأهلِ مكةَ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1).
ويجبُ أن يُعلَمَ أنَّ العلماءَ حينَما ينُصُّونَ على جوازِ قتلِ المتترَّسِ به عندَ وجودِ الضررِ بالمُسلِمِينَ، فإنَّهم يتكلَّمونَ على ضررٍ متحقِّقٍ، لا ظنيٍّ متوهَّمٍ.
القِسْمُ الثالثُ: التترُّسُ الذي يكونُ حالَ القتالِ وبتركِهِ يتعطَّلُ الجهادُ؛ وذلك أنَّه لا يتعلَّقُ بجهةٍ أو بقعةٍ وجماعةٍ معيَّنةٍ؛ وإنَّما يتعطَّلُ به سَيْرُ الجهادِ، ولا يتقدَّمُ المُسلِمونَّ له إلَّا بالرمي؛ ففي المسألةِ قولانِ قويَّانِ:
ذهَبَ الشافعيُّ: إلى جوازِ الرمي ولو قُتِلَ المتترَّسُ بهم؛ لأنَّ حُرْمةَ تعطيلِ الجهادِ أعظَمُ وأشَدُّ.
وذهَب الأوزاعيُّ واللَّيْثُ: إلى المنعِ.
ومَن قال بالجوازِ احتَجَّ بأنَّ اللَّهَ حرَّم قَتْلَ النساءِ والصِّبْيانِ والشيوخِ مِن المشرِكينَ، ولكنْ إنْ كان لا يستمرُّ الجهادُ ولا يُتمكَّنُ من العدوِّ إلَّا بذلك، جاز فعلُهُ مِن غيرِ قصدِهم؛ كما جاء في حديثِ الصَّعْبِ بنِ
(1)"المدوَّنة"(1/ 512).
جِثَّامَةَ رضي الله عنه؛ قال: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟ قَالَ. (هُمْ مِنْهُمْ)، وفىِ روايةٍ:(هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ)(1).
ولكنَّ حديثَ الصَّعْبِ في حُرُماتِ ذَرَارِيَّ المشرِكِينَ ونسائِهم وشيوخِهم، لا في حُرْمةِ المُسلِمينَ؛ لتفاوُتِ الحُرْمَتَيْنِ، فاللَّهُ لمَّا منَعَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم مِن قتالِ قريشٍ خشيةَ إصابةِ المُسلِمِينَ فيهم، لم يذكُرْ نساءَ المشرِكِينَ وذَرَارِيَّهم.
* * *
* قال اللَّهُ تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} [الفتح: 27].
وعَدَ اللَّهُ نبيَّه ومَنْ معه بدخولِ مكةَ في عامٍ آتٍ بعدَ الحُدَيْبِيَةِ، ولم يُعيِّنْ لهم عامًا محدَّدًا، وذكَرَ الحَلْقَ والتقصيرَ؛ لبيانِ أنَّ دخولَهُمْ سيكونُ في نُسُكٍ؛ تطمينًا لنفوسِهم ونفوسِ المؤمنينَ كافَّةً.
وفي هذه الآيةِ: تفضيلُ الحَلْقِ على التقصيرِ؛ حيثُ قدَّمَهُ عليه، وقد تقدَّم الكلامُ على الحَلْقِ والتقصيرِ عندَ قولِهِ تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقولِهِ تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29].
* * *
(1) أخرجه البخاري (3012)، ومسلم (1745).