الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: "واللَّهِ الذي لا إِلهَ إلَّا هو، إنَّ لَهوَ الحديثِ لَهُوَ الغِناءُ"، ثمَّ ذكَرَها ثلاثًا (1).
وابنُ مسعودٍ هو مِن أعلَمِ الصحابةِ بالتفسيرِ، إنْ لم يكن أعلَمَهُمْ على الإطلاقِ.
الغِناءُ والمَعَازِفُ والفَرْقُ بينَهما:
وقد جاء في الشريعةِ النهيُ في هذا البابِ عن شيئَينِ يَخلِطُ بينَهما كثيرٌ مِن الناسِ: الأول: الغِناءُ، والثاني: المعازفُ، ولا يَلزَمُ اجتماعهما؛ فقد يكونُ الغِناءُ بلا مَعازِفَ، وقد تكون المعازِفُ بلا غِناءٍ، وقد يجتمعانِ.
أمَّا الأولُ: فالغِناءُ، والمرادُ به هو إنشادُ الشِّعْرِ بالصوتِ الحسَنِ المجرَّدِ عن أيِّ مضافٍ إليه من الآلاتِ، وهذا النوعُ نُهِيَ عنه لا لِذَاتِه؛ وإنَّما إنْ كان يتضمَّنُ صدًّا عن ذِكرِ اللَّهِ، كما كانت تتَّخِذُهُ قريشٌ في مَكَّةَ؛ حتى لا تَسْمَعَ كلامَ اللَّهِ وكلامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ولا يَلزم مِن الغناء أن يكون معه مَعازِفُ، ولكنَّه غلَبَ في استعمالِ الناسِ أنَّ الغِناءَ هو الذي يكونُ معه آلاتُ الطرَبِ، وليس مقصودًا بهذا المعنى عندَ العرَبِ.
ومَن نظَرَ إلى النصوصِ مِن أفعالِ الصحابةِ وكذلك أشعارِ العربِ، وجَدَ أنَّهم يُطلِقونَ الغِناءَ ويُريدونَ به الشِّعْرَ والحُدَاءَ، حتى أشكَلَ ذلك على كثيرٍ مِن المتأخِّرِين، وظَنُّوا أنَّ قولَ السلفِ في الغِنَاءِ إنَّما هو المَعازفُ كما هو اصطلاحُ المتأخِّرِين؛ وهذا جَهْلٌ وسوءُ فَهْمٍ؛ فإنَّ هذا لم يكنْ موجودًا عندَ السلفِ مطلَقًا.
(1) أخرجه الطبري في "تفسيره"(18/ 534)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 223).
فالغِناءُ عندَ العربِ هو صوتُ الفَمِ؛ كما يقولُ حُمَيدُ بنُ ثَوْرٍ:
عَجِبْتُ لَهَا أَنَّى يَكُونُ غِنَاؤُهَا
…
فَصِيحًا وَلَمْ تَفْغَرْ بِمَنْطِقِهَا فَمَا (1)
ويَرِدُ عن بعضِ السابِقينَ: أنَّه سَمِعَ الغِنَاءَ، والمرادُ بذلك: هو إنشادُ الشِّعرِ بالصوتِ الحسَنِ، وليس المرادُ الموسيقا والمعازفَ.
والغِناء عندَ السلفِ جاء النهيُ عنه لا لِذَاتِه؛ وإنَّما إنْ صَدَّ عن ذِكْرِ اللَّهِ، ومِثلُه إنشادُ الأشعارِ باللُّحُونِ، وإنْ لم يَصُدَّ جازَ.
وقد قال ابنُ الجوزيِّ: "كان الغِنَاءُ في زمانِهم إنشادَ قصائدِ الزُّهْدِ، إلَّا أنَّهم كانوا يُلحِّنونَها"(2).
ومِن هذا قولُ بعضِ الفقهاءِ بحَضْرةِ الرشيدِ لابنِ جامعٍ: الغِنَاءُ يُفطِرُ الصائمَ، فقال: ما تقولُ في بيتِ عمرَ بنِ أبي ربيعةَ إذْ أنشَدَ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ
…
غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُا
أيُفطِرُ الصائمَ؟
قال: لا؛ قال: إنَّما هو أنْ أَمُدَّ به صوتي، وأُحرِّكَ به رأسي (3).
ومِن هذا: قولُ عطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ: "لا بأسَ بالغِنَاءِ والحُدَاءِ للمُحْرِمِ"(4).
وأمَّا الثاني: فالمَعازِفُ، وهي آلاتُ الطرَبِ مِن العُودِ والقَصَبِ، والمِزْمارِ والموسيقا، والآلاتِ الإلكترونيَّةِ الحديثةِ التي تُخرِجُ ما يَخرُجُ مِن المعازفِ، فإنَّها تأخُذُ حُكْمَها؛ لأنَّ الشريعةَ لا تفرِّقُ بينَ المتماثِلاتِ، فإنَّها لم تحرِّمِ الخمرَ لكونِهِ تمرًا أو زَبيبًا أو دُبَّاءً أو غيرَ
(1) ينظر: "لسان العرب"(15/ 139)(غنا)، و"تاج العروس"(39/ 193)(غني).
(2)
"تلبيس إبليس"(ص 203).
(3)
"محاضرات الأدباء" للراغب الأصفهاني (1/ 816).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(13951).
ذلك؛ وإنَّما لأنَّه يُخامِر العقلَ ويُسكِرُه ويغطِّيه؛ فكلُّ ما كان فيه هذه العلةُ يُسمَّى خمرًا محرَّمًا ولو كان مِن غيرِ تلك الأصنافِ؛ بل حتى لو كان إلكترونيًّا كما حدَثَ في هذا الزمنِ ممَّا يُسمَّى بالمخدِّراتِ الإلكترونيَّةِ؛ إذ تُوضَعُ سمَّاعاتٌ في الأُذُنِ وتُحدِثُ أصواتًا متناغمةً على نسقٍ معيَّنٍ يُؤثِّرُ في انتظامِ العقلِ فيَختلُّ، ويكونُ السامعُ بعدَ وقتٍ فاقدًا لعقلِهِ كنَشْوةِ السَّكْرانِ، ثمَّ لا يلبثُ إلَّا ويُفيقُ.
والمعازِفُ حُرِّمَتْ لذاتِها؛ فما كان آلةَ عَزْفٍ واتُّخِذَ لذلك، فهو محرَّمٌ ولو لم يكنْ معه شِعْرٌ وكلامٌ؛ وذلك لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ)؛ رواهُ البخاريُّ (1)، وقال بتعليقِه ابنُ حزمٍ (2)، وليس كذلك، وقد بيَّنَّا وَصْلَهُ وصِحَّتَهُ في رسالةِ "الغِنَاءِ".
وتحليلُ المعازفِ اليومَ مِن علاماتِ النبوَّةِ التي أخبَرَ عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، يَزِيدُ المؤمِنَ يقينًا بصِدْقِ رسالتِه لإخبارِه، ولا يُشكِّكُهُ في حُكْمِ المعازِفِ؛ إذْ لا يوجدُ مذهبٌ مِن المذاهبِ الأربعةِ، ولا قَرْنٌ مِن قرونِ الإسلامِ، ولا بلدٌ مِن بُلْدانِه خلا من عالِمٍ يَحكِي الإجماعَ على حُرمتِها.
* * *
* قال تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
أمَرَ لُقْمانُ ابنَه بالصلاةِ، وقرَنَ الأمرَ بها بأمرٍ آخَرَ، وهو الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المُنكَرِ، يعني: اؤمُرْ غيرَك؛ لأنَّ صلاةَ العبدِ إنْ كَمَلَتْ، نَهَتْهُ هو عن الفحشاءِ والمُنكَرِ؛ كما في قولِه تعالى: {إِنَّ
(1) أخرجه البخاري (5590).
(2)
"المحلَّى"(9/ 59).
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فأمَرَ لقمان ابنَهُ أن يأمُرَ غيرَهُ؛ لاكتفائِهِ بقيامِ صلاته بذلك في نفسه؛ فمَن تَمَّتْ صلاتُه، تمَّ باقي دِينِه، وبمقدارِ نَقْصِها والتفريط فيها وفي خشوعِها يَنقُصُ دِينُهُ ويضعُفُ أثرُها عليه.
وقولُه تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فيه: أنَّ دعوةَ جميعِ الأنبياءِ والأولياءِ الجمعُ بينَ (الأمرِ) و (النهي): أمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكَرٍ، ولا يُقتصَرُ على واحدٍ دون الآخَرِ.
وبعضُ المُصلِحِينَ يَمِيلُ إلى إظهارِ المعروفِ، ويعطِّلُ النهيَ عن المنكَرِ؛ لأنَّ الناسَ لا يُحِبُّونَ مَن يَنْهاهُم عن شهواتِهم، وهؤلاءِ المُصلِحونَ قاموا ببعضِ الكتابِ وترَكُوا بعضًا، ومنَعَهُمْ خشيةُ تفويتِ محبةِ الناسِ واستعدائِهم، وهذا ليس طريقًا للأنبياءِ.
وقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} ، فيه: أنَّ البلاءَ لا بدَّ أن يَلحَقَ الآمِرَ بالخيرِ والناهيَ عن الشرِّ لا محالةَ؛ ولهذا لم يأمُرهُ بتجنُّبِ البلاءِ؛ وإنَّما أمَرَهُ بالصبرِ عليه؛ لكونِ البلاءِ متحقِّقًا قَدَرًا؛ سواءٌ قَلَّ أو كثُر، ولكنْ يجبُ معه الصبرُ.
وقد تقدَّم الكلامُ على شريعةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكَرِ عندَ قولِهِ تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
* * *
* قال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
في هذه الآيةِ: إرشادٌ إلى الاعتدالِ في المشي والكلامِ؛ فيكونُ
وسطًا؛ فلا يُسرِعُ في مَشْيِه، ولا يكونُ بطيئًا كسَيْرِ المتكبِّرِ، وقد فسَّر مجاهِدٌ قوله:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} بالتواضُعِ (1)، وقال قتادةُ:"نَهَاهُ عن الخُيلاءِ"(2).
وفسَّر يزيدُ بن أبي حبيب القصدَ في المشيِ بالسُّرْعةِ (3)، ولعلَّه حمَلَ ذلك على أنَّ السُّرْعةَ في المشي تُنافِي الخُيَلاءَ؛ فعادةُ أهلِ الكِبْرِ السَّيْرُ البطيءُ المتكلَّفُ.
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُث على السَّكِينةِ، ويأمُرُ بالتوسُّطِ، ويَنهى عن الإسراعِ المتعجِّلِ؛ ومِن ذلك قولُهُ صلى الله عليه وسلم:(أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ)(4)، والإِيضاعُ الإسراعُ، وأمَّا ما يُروى من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:(سُرْعَةُ المَشْي تُذْهِبُ بَهَاءَ المُؤْمِنِينَ)؛ فقد رواهُ أبو نُعَيْمٍ في "الحِليةِ"(5)؛ ولا يصحُّ.
وغَضُّ الصوتِ خَفْضُه؛ فليس بالمرتفع الصارخ كصوتِ الحمارِ، ولا بالخافضِ الذي لا يُسمَعُ، وقولُه:{أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} ؛ يعني: شَرَّها.
وكان عمرُ لا يَرَى التكلُّفَ برفعِ الصوتِ حتى في الأذانِ؛ كما روى البيهقيُّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عن أبي مَحْذُورَةَ؛ قال: لمَّا قَدِمَ عُمَرُ مَكَّةَ، أَذَّنْتُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: بَا أَبَا مَحْذُورَةَ، أَمَا خِفْتَ أَنْ يَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُكَ؟ ! (6).
وهذه الآياتُ مكيَّةٌ كما هو أصلُ السورةِ، وعادةُ السُّوَرِ المكيَّةِ لا تأمُرُ بمِثْلِ هذه الآدابِ والسلوكِ؛ وإنَّما تأمُرُ بما تدُلُّ عليه الفِطْرةُ
(1)"تفسير الطبري"(18/ 563)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3099).
(2)
"تفسير الطبري"(18/ 563)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3100).
(3)
"تفسير الطبري"(18/ 563)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3100).
(4)
أخرجه البخاري (1671).
(5)
"حلية الأولياء"(10/ 290).
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 397).
عامَّةً، وأمَّا الآدابُ كصِفَةِ المشي والقيامِ والقعودِ واللِّبَاسِ والكلامِ وأحكامِه، فإنَّه من علاماتِ السُّوَرِ المَدَنيَةِ، ولكنَّ هذه الآياتِ جاءتْ في سياقِ قصةِ لُقْمانَ، ولم تكن أمرًا للناسِ في مَكَّةَ وتشريعًا يَختصُّونَ به، وإنِ انتفَعُوا مِن ذلك بالاقتداءِ بمنْ سبَقَ كما يَرِدُ في القرآنِ كثيرٌ مِن الآداب في قَصَصِ الأنبياءِ كإبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم.
* * *