الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَفْيُ الوَلَدِ باللِّعَانِ:
المرحلة الخامسةُ: نفيُ الولدِ؛ فلا خلافَ أنَّ الزوجَينِ إنْ لم يتلاعَنَا بعدَ قذفِ الزوجِ لزوجتِه، فإنَّ الولدَ لا يُنفى؛ بل يَبقى نسَبُهُ لأبيه، ولو قذَفَ أُمَّهُ به، فالولدُ للفِرَاشِ حتى يُلاعِنَ صاحبُه، وقد ثبَت في "الصحيحَيْنِ"، عن أبي هريرةَ؛ أَنَّ أعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَت غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ )، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:(فَمَا أَلْوَانُهَا؟ )، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ:(هَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ )، قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقَا، قَالَ:(فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ )، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ:(وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ)، وَلَم يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ (1).
وفي روايةٍ لمسلمٍ؛ قال أبو هُرَيرةَ في الرجُلِ: "وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفَيَهُ"(2).
وإذا لاعَنَ الزوجُ زوجتَهُ، فإنَّه لا يَلزَمُ مِن اتِّهامِ زوجتِهِ بالزِّنى أنْ يَجعَلَ ما في بطنها مِن الزِّنى؛ فإنَّ قذفَه لها وملاعنتَهُ قد يكونُ لأجلِ الوقوعِ في الفاحشةِ، لا لأجلِ الولدِ، وربَّما يكون لأجلِ الولدِ ولو لم يَرَها تَفعَل شيئًا بعينِه، فإنْ كاد الزوجُ لا يُريدُ نفيَ الولدِ، فإنَّه لا يَنتفي، ويَبقى ولدَهُ ولو بعدَ اللِّعانِ.
وأمَّا إنْ كان يُريدُ نفيَهُ، فالثابتُ أنَّه يَنفيهِ بعدَ اللِّعَانِ، وهذا طاهرُ السُّنَّةِ؛ ففي "الصحيحَيْنِ"، عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الوَلَدَ بِالمَرْأَةِ (3).
(1) أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500).
(2)
أخرجه مسلم (1500)(19).
(3)
أخرجه البخاري (6748)، ومسلم (1494).
وصحَّ إلحاقُ الولدِ بأمِّه عن ابنِ عبِّاسٍ؛ رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ (1).
ولا وجهَ للقولِ بأنَّ الولدَ لا ينتفي مِن أبيهِ إنْ أرادَ نفيهُ باللِّعانِ، بحُجَّةِ أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الزوجَيْنِ شَهِدَ على نفسِهِ بالصِّدْقِ ولعَنَ نفسَهُ إنْ كان كاذبًا؛ وذلك لأمورٍ:
أولًا: أنَّ الشهادةَ لِدَرْءِ الحدِّ عن الزوجَينِ؛ فالزوجُ يَشهدُ ليَدفعَ عن نفسِه حدَّ القذفِ، والزوجةُ تَشهدُ لتَدرأ عنها حدَّ الزِّنى؛ كما هو في ظاهرِ الآيةِ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} ، والولدُ لا يتعلَّق حُكْمُهُ بمجرَّدِ وقوعِ التلاعُنِ بينَهما؛ لأنَّ القذفَ قد يكونُ لأجلِ الفاحشةِ، وقد يكونُ لأجلِ نفيِ الولدِ، فربَّما يتَّهِمُ الزوجُ زوجتَهُ بالفاحشةِ ولا يتَّهِمُها بولدِها.
ثانيًا: أنَّ أعظَمَ أسابِ المُلاعَنةِ نفيُ الولدِ، وقد قال ابنُ القيِّم:"إنَّه أجَلُّ فوائدِ اللِّعانِ"(2).
وأكثرُ الناسِ لو رأى زوجتَهُ على فاحشةٍ ولا يَخشى الولدَ منها ولا يُرِيدُها، فَارَقَها؛ لأنَّه بعدَ فذفِهِ ثمَّ مُلاعَنتِهِ لها لا يتحقَّقُ له إلَّا المُفارَقةُ منها، وهذا يستطيعُهُ بلا قذفٍ ولا لِعانٍ؛ بطلاقٍ أو خُلْعٍ، فلا حاجةَ له إلى تقحُّمِ القذفِ واللِّعانِ والتشهيرِ بنفسِهِ وزوجِهِ وولدِهِ السابقِ منها وهو قادرٌ على المُفارَقةِ لو لم يكنْ ولدٌ، والحقُّ وظاهرُ الدليلِ: أنَّ نفيَ الولدِ حقٌّ للزَّوْجِ؛ فله أن يَنفيَهُ وله أن يُبقيَهُ، وأمَّا حقُّ زوجتِهِ مِن اللِّعانِ، فتَدْرَأُ عن نفسِها العذابَ، ويَلحَقُ الولدُ بها، ولا يؤخَذُ منها لمجرَّدِ نفيِ أبيهِ له؛ كما ثبَتَ في "الصحيحِ"، في ولدِ زوجةِ عُوَيْمِرٍ، قال سهلٌ:"فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ"(3)، وفي "المسنَدِ"، وعندَ أبي داودَ؛ مِن حديثِ
(1)"تفسير الطبري"(17/ 185).
(2)
"زاد المعاد"(5/ 357).
(3)
أخرجه البخاري (4745).
ابنِ عبَّاسٍ؛ قال في قصةِ هلالِ بنِ أميَّةَ وزوجتِهِ وولدِها: "فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأبٍ، وَلَا تُرْمَى، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَن رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ"(1).
ثالثًا: لو كان الزوجُ لا يَقدِرُ على نفيِ الولدِ بعدَ اللِّعَانِ لمجرَّدِ شهادةِ الزوجةِ ومُلاعَنتِها، فهذا يُبقهِ منسوبًا إله وهو في عِلْمِهِ أنَّه ليس ولدَهُ، وهذا مَجْلَبةٌ لمَفاسِدَ عظيمةٍ لاحِقةٍ بينَهُ وبينَ زوجِهِ والولدِ، والشريعةُ ما جاءت باللِّعانِ إلَّا لتُغلِقَ البابَ على شرٍّ وفتنةٍ طويلةٍ.
وأمَّا ما جاء في قصةِ هلالِ بنِ أميَّةَ وزوجِهِ؛ حيثُ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَبْصِرُوهَا؛ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابغَ الآليَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَينِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ)(2)، وما جاء في قصةِ عُوَيْمِرٍ وزوجِهِ؛ حيثُ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(انْظُرُوا؛ فَإنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ السَّاقَينِ، فَلَا أَحْسِبُ عُوَيمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَت بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَحْسِبُ عُويمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا)(3)، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ بالأَشْبَاهِ أنَّ إلحاقَ الولدِ غيرُ مُعتبِرٍ باللِّعانِ فيه، فذلك لم يَفهَمْه أحدٌ مِن الصحابةِ؛ وإنَّما أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيانَ الصادقِ مِن الكاذبِ، وأنَّ الشهادةَ واللعنَ تَدرأُ عن صاحِبِها الحَدَّ ولو قامَتِ القرائنُ عليه، ولو كانتِ الأشباهُ تُلحِقُ النَّسَبَ، لَمَا رَدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجُلَ لاختلافِ لونِ ولدِهِ عنه، فذكَّرَهُ باختلافِ ألوانِ إبلِه.
والعلماءُ يتَّفقونَ على أنَّ الزوجَ يَنتفي ولدُهُ بعدَ اللعانِ إنْ كان لِعانُهُ لها لأجلِ نفي الولدِ؛ وإنَّما الخلافُ عندَهم في زمنِ نفي الولدِ.
(1) أخرجه أحمد (1/ 239)، وأبو داود (2256).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري (4745).