الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيةِ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ؛ يعني: لَسْنَ أُمَّهاتِ رَحِمٍ؛ ولكنَّهُنَّ أُمَّهاتُ إجلالٍ وإكرامٍ.
أُمَّهَاتُ المؤمنينَ ومَقامُهُنَّ:
قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ؛ فكلُّ زوجةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهي أمَّ للمؤمنينَ؛ لعمومِ الآيةِ، على خلافٍ عندَ الفقهاءِ في حدِّ ذلك، وقد ذهَبَ الشافعيُّ: إلى أنَّ كلَّ زوجةٍ له: أمٌّ للمؤمنينَ ولو طلَّقَها، وبعضُهم خَصَّ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالمدخولِ بِهِنَّ؛ وهو قولُ إمامِ الحَرَمَيْنِ.
وقد رُوِيَ أنَّ الأشعثَ بنَ قَيْسٍ نكَحَ المُستعيذةَ في زمنِ عمرَ رضي الله عنه، فهَمَّ برَجْمِه، فأخبَرَه أنَّها لم تكنْ مدخولًا بها، فكَفَّ عنه، وفي روايةٍ: أنَّه هَمَّ برَجْمِها، فقالتْ: ولِمَ هذا وما ضُرِبَ عَلَيَّ حجابٌ، ولا سُمِّيتُ للمُسْلِمينَ أُمَّا؟ ! فكَفَّ عنها (1).
ورُوي كذلك عن ابنِ عباسٍ مِثلُه مع أسماءَ بنتِ النُّعمان (2).
وإنَّما أخَذْنَ الأمُومةَ مِن أُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فهو أبو المؤمنينَ؛ كما جاء في قراءةِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ في هذه الآيةِ؛ قال: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبُوهُمْ)(3)، والأنبياءُ آباءٌ للمؤمنينَ أبوَّةً دينيَّةً؛ كما قال تعالى عن إبراهيمَ:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وحُرمةُ النبيِّ كحُرْمةِ الوالدِ وأعظَمُ.
وإنَّما سُمِّيَت أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بـ (أُمَّهَاتِ المؤمنينَ)، ولم يُسَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بـ (أبي المؤمنينَ)، مع أنَّ أُمُومَتَهُنَّ منه؛ لأنَّ الرجلَ يُسمَّى
(1)"التلخيص الحبير"(3/ 139)، و"تفسير الآلوسي"(21/ 151).
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 37).
(3)
"فضائل القرآن" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص 322)، و"الدر المنثور"(8/ 108).
بأعظَمِ أوصافِهِ وأشرفِها؛ فأشرفُ الأسماءِ والأوصافِ هو النبوَّةُ، وأشرفُ أوصافِ أزواجِهِ هو أمَّهاتُ المؤمِنِين، وعندَ نِدائِهِ يُسمَّى بأشْرفِها وأَسْمَاها، وإن جاز أَدْناها اعتراضًا لا الْتِزَامًا.
وأمَّا قولُهُ تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، فالمرادُ به تحريمُ الانتسابِ إليه أُبُوَّةَ نسَبٍ؛ فقد كان هناك مَن يَنْتسِبُ إليه بالتبنِّي، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد تبنَّى قبلَ النبوَّةِ زيدَ بنَ حارثةَ، فلم يكنْ أباه، وإن كان قد تبنَّاه.
وفي هذه الآيةِ: تحريمُ نكاحِ أمَّهاتِ المؤمنينَ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلا خلافٍ؛ فلا يجوزُ للرجُلِ أن يتزوَّجَ أمَّه.
وبعضُ الفقهاءِ يَرى أنَّ الخِطابَ للذكورِ مقصودٌ في قولِه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، وأنَّهُنَّ أمَّهُاتُ رجالِ المؤمنينَ لا نسائِهم، وفي هده المسألةِ خلافٌ.
وقد رَوَى مسروقٌ؛ قال: قالتِ امرأةٌ لعائشةَ: يا أُمَّهْ، فقالتْ لها عائشةُ:"أنا أمُّ رجَالِكم، ولستُ أُمَّ نِسَائِكم"؛ رواهُ ابنُ سَعْدٍ والبيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ (1).
ورَوى ابنُ سعدٍ، عن مصعبِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ أبي أميَّةَ، عن أمِّ سَلَمةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّها قالتْ:"أنا أَمُّ الرِّجالِ منكم والنِّساءِ"(2).
والأظهرُ: العمومُ، وأنَّهُنَّ أمَّهاتُ المؤمنينَ رجالًا ونساءً؛ لأنَّهُنَّ أَحَذْنَ أمومتَهُنَّ مِن أُبوَّتِه صلى الله عليه وسلم، وأبوَّتُهُ هي للمؤمنينَ كافَّةً، وقراءةُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ:(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ)(3) إشارةٌ إلى ذلك، ولعلَّ مرادَ
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 67)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 70).
(2)
"الطبقات الكبرى"(8/ 179 و 200).
(3)
"تفسير القرطبي"(17/ 63)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 381).
عائشةَ بقولها: "أنا أمُّ رجالِكم": أنَّ الحُرْمةَ مع الرِّجالِ أعظَمُ وأشَدُّ مِن جهةِ النِّكاحِ وميلِ القلبِ والطمعِ فيهنَّ، بخلافِ النِّساءِ؛ فهذا ليس موجودًا فِيهِنَّ.
وقولُه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} : هذه الآيةُ ناسخةٌ لكلِّ ما كانتْ تفعلُهُ العربُ مِن التوريثِ بالتبنِّي والمؤاخاةِ والحِلْفِ، وأنَّ المِيرَاثَ يكونُ لأُولِي الأرحامِ بحَسَبِ مَرَاتبِهم المذكورةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على شيءٍ مِن ذلك عندَ قولِهِ تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)} [النساء: 33]
وفي قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} جوازُ فعلِ المعروفِ لِمَنْ يُوَالُونَهم، ويُحْبَوْنَ في حالِ الحياةِ بالهديَّةِ والعطيَّةِ والصَّدَقةِ، ولكنْ لا يدخُلُونَ في الميِرَاثِ بعدَ الموتِ.
* * *
* قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].
في هذه الآيةِ: حثٌّ على الاقتداءِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتأسِّي بفعلِه؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ في قولِه وفعلِه، ويُشرَعُ التأسِّي بهَدْي جميعِ الأنبياءِ؛ كما قال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال اللَّهُ عن إبراهيمَ:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}