الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الإسراء
سورةُ الإسراءِ سورةٌ مكيَّةٌ، كما قالهُ ابنُ عبَّاسٍ وجمهورُ المفسِّرين، واختُلِفَ في بعضِ آياتِها (1)، وجاءتْ في بيانِ معجِزاتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتذكيرِ بأحوالِ السابِقينَ مِن المُعانِدينَ لأنبيائِهم، وأمَرَ اللَّهُ فيها بتوحيدِهِ وببعضِ أصولِ الفِطْرةِ، وذكَرَ بعضَ الشرائعِ العِظَامِ والنواهِي المُوبِقةِ تعظيمًا لها؛ ليَعلَمَ الناسُ أنَّ دِينَ الإسلامِ دِينُ فِطْرةٍ؛ لا يخرُجُ عن دعوةِ الأنبياءِ جميعًا، ولا عن دواعِي الفِطْرةِ.
* * *
* قال تعالى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (12)} [الإسراء: 12].
جعَلَ اللَّهُ دَوَرانَ الأفلاكِ؛ لمعرِفةِ الحسابِ ولتحديدِ المواقيتِ نفعًا للناسِ في دِينِهم ودُنياهم؛ بها يَعرِفونَ أوقاتَ العباداتِ ومواسمَها، وبها يَعرِفونَ مصالحَهم في دِينِهم ودُنياهم، وقد تقدَّم عندَ قولِهِ تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقولِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] الكلامُ على الحِكْمةِ مِن الحسابِ بالأهِلَّةِ، وتقدَّم الكلامُ على منافعِ الحسابِ وحدودِ الانتفاعِ منه عندَ قولِهِ تعالى:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96].
(1)"زاد المسير"(3/ 7)، و"الدر المنثور"(9/ 138).
وتقدَّم في قولِهِ تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الكلامُ على التوسِعةِ في استقبالِ القِبلةِ بدَلَالةِ الشمسِ لا بضبطِ النجومِ.
* * *
أمَرَ اللَّهُ ببِرِّ الوالدَيْنِ والإحسانِ إليهما بمكَّةَ، وقرَنَ بِرِّ الوالدَيْنِ بتوحيدِه، وهذا في مواضعَ؛ كما في قولِهِ تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] وقولِهِ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].
وبِرُّ الوالدَيْنِ تدعو إليه الفِطْرةُ، وهو مِن أعظَمِ شِيَمِ النفوسِ؛ فإنَّها مجبولةٌ على ردِّ المعروفِ إلى مَنْ أحسَنَ إليها، وأعظَمُ مُحْسِنٍ عليها مِن الخَلْقِ الوالدانِ.
وفي قولِه تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} استحبابُ الدعاءِ للوالدَيْنِ المُسلِمَينِ بعدَ موتِهما، وهو مِن البِرِّ الذي لا ينقطِعُ.
وقد تقدَّم الكلامُ على بِرِّ الوالدَيْنِ، وصِلَةِ الأرحامِ والأقاربِ، وحدودِهم، ومَن يجبُ وصلُهُ منهم، في صدرِ سورةِ النِّساءِ عندَ قولِهِ تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].
وقولُه تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} ،
فيه فضلُ الإحسانِ بالمالِ والنفقةِ على المحتاجِ، وقدَّمَ القَرَابةَ على غيرِهم؛ لأنَّ النفقةَ عليِهم صَدَقةٌ وصِلَةٌ، والهديَّةُ للأقرَبِينَ التي تؤلِّفُ القلبَ ويُوصَلُ بها رحمٌ: أفضلُ مِن الصَّدَقةِ على بعيدٍ متوسِّطِ الحاجةِ.
وقد نَهَى اللَّهُ عن التبذيرِ حتى في الصَّدَقةِ، والمرادُ بذلك: الإنفاقُ بما يُضِرُّ بمالِ الرجُلِ وأهلِهِ وولدِهِ ومَنْ له حقٌّ عليه؛ وهذا كما في قولِهِ تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} [الأنعام: 141]، وقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وقولِه تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].
وتقدَّم الكلامُ على السَّرَفِ والتبذيرِ وأنواعِهِ وحدودِهِ وكيفيَّةِ معرفتِهِ، عندَ آيةِ الأنعامِ السابقةِ، وعندَ قولِهِ تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وقد أمَرَ اللَّهُ بالإنفاقِ على مَنْ لا يُحسِنُ تدبيرَ المالِ، ونهَى عن إعطائِهِ إيَّاهُ؛ حتى لا يَضَعَهُ في غيرِ موضعِه؛ إمَّا بحرامٍ أو بسَرَفٍ في حلالٍ؛ كما قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]؛ ولهذا جاء النهيُ عن الوصيَّةِ فوقَ الثُّلُثِ؛ لأنَّ الوصيَّةَ فوقَ الثلُثِ تُضِرُّ بالورثةِ، وقد بيَّنَ اللَّهُ فضلَ الإحسانِ إلى الورثةِ مِن بعدِ الموتِ بِتَرْكِ مالٍ لهم؛ كما في قولِهِ تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} [النساء: 9]، وعندَ هذه الآيةِ تكلَّمْنا على الوصيَّةِ بالثُّلُثِ، وحُكْمِ الوصيَّةِ بما زاد عليها، ووصيَّةِ الرجُلِ بمالِهِ كلَّه إنْ لم يكنُ له ورثةٌ.
* * *
* قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء: 31].
تقدَّم في سورة الأنعامِ قولُهُ تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [151] وأراد أنَّ الذي رزَقَ الآباءَ مِن قبلُ هو الذي يتكفَّلُ برِزَقِ الأبناءِ مِن بعدُ، فالربُّ واحدٌ، فقد كاد يَخشى الجَدُّ على ولدِه، فرزَقَ الجَدَّ وولدَه، ثمَّ خاف الأبُ على ولدِه، فرزَقَ الأبَ وولدَه؛ وهكذا فرَبُّ الأجيالِ واحدٌ.
وفي قوله تعالى في هذه السورة {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} مع قولِهِ في سورةِ الأنعامِ: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [151]، إشارةٌ إلى أنَّ اللَّهَ يرزُقُ الوالدَ بالولدِ، ويرزُقُ الولدَ بالوالدِ؛ برَكةً متبادَلةً، ومِن ذلك ما في سورةِ الكهفِ في مالِ اليتيمَيْنِ، قال:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [82]، وقد يَحفَظُ اللَّهُ الولدَ بعملِ والدِه، ولكنْ لا يُضيِّعُهُ لضياعِ والدِه؛ فلا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخرى؛ ولذا قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} [المدثر: 38 - 39]؛ وهذا في الدُّنيا والآخِرةِ، فيَلحَقُ الولدُ والدَهُ في الخيرِ في الآخِرةِ إنْ كانَا مؤمنَيْنِ، ولا يَلحَقُهُ في الشرِّ، وجزاؤُهُ بعملِه؛ كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21].
وقد تقدَّم الكلامُ على قتلِ الأولادِ في الجاهليَّةِ وأسبابِه، عندَ قولِهِ تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: 140].
* * *
في هذا حقُّ الأولياءِ بالقِصاصِ والعفوِ في قتلِ العَمْدِ، ولهم العفوُ عن الدِّيَةِ في قتلِ الخطأِ؛ فقد بيَّنَ اللَّهُ أنَّ للوليِّ السلطانَ في ذلك، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يتقدَّمَ على الوليِّ في ذلك مهما بلغ سلطانُهُ وجاهُهُ ومالُه.
وقد قال ابنُ عبَّاسٍ: "بيِّنةٌ مِن اللَّهِ عز وجل أنزَلَها يطلُبُها وليُّ المقتولِ: العَقلُ، أو القَوَدُ؛ وذلك السُّلْطانُ"(1).
ثمَّ حذَّر اللَّهُ ولِيَّ المقتولِ مِن البغيِ والعُدْوان، وذلك بالإسرافِ في القتلِ، فيقتُلُ غيرَ قاتِلِه؛ كمَن يقتُلُ سيِّدًا مِن أولياءِ القاتلِ يُريدُ أن يتشفَّى منهم؛ فإنَّ اللَّهَ جعَلَ نفوسَ المؤمِنينَ واحدةً، فلو قتَلَ رجلٌ ضعيفٌ رجلًا قويًّا غنيًّا سيِّدًا، فإنَّه يُقتَلُ الضعيف بالقويِّ، ولا يُقتَلُ مِن قومِ الضعيفِ قويٌّ مِثلُ المقتولِ؛ فهذا سرَفٌ ومِن عملِ الجاهليَّةِ.
ومِن السَّرَفِ قتلُ اثنَينِ بواحدٍ، أو التمثيل وإفسادُ المالِ مع القتلِ، وقد بيَّن اللَّهُ نصرَ اللَّهِ له بحُكْمِهِ وفَصْلِه، ولكنَّه لا يجوزُ له مجاوزةُ حُكمِ اللَّهِ وشرعِه، ومنهم مَن قال: إنَّ المُعتدَى عليه منصورٌ في الحالَيْنِ.
وقد تقدَّم الكلامُ على القِصاصِ في مواضعَ؛ منها عندَ قولِهِ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وقولِهِ:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
(1)"تفسير الطبري"(14/ 583)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(7/ 2329).
وتقدَّم الكلامُ على مالِ اليتيمِ وحِفْظِهِ والمتاجَرَةِ فيه وخلْطتِه، ووقتِ بلوغِهِ ودفعِ المالِ إليه، في سورةِ البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى:{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وفي أوائل سورةِ النِّساءِ.
وتقدَّم الكلامُ على الوفاءِ بالعهودِ في صدر المائدة، وتقدَّم الكلامُ على التطفيفِ بالمِكْيالِ والمِيزانِ وأخذِ العُشُور والضرائب عندَ قولِهِ تعالى:{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85].
* * *
* قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)} [الإسراء: 71].
في هذه الآية: فضلُ الأخذِ باليمينِ، وأنَّ استعمالَ اليمينِ: في الأمورِ الشريفةِ والكريمةِ؛ وهذا ظاهرٌ في قولِهِ تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17)} [طه: 17]، فقد كان يُمسكُ عصًا بيمينِهِ، وفي قولِهِ تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48]، فجعلَ الخطَّ والكتابةَ باليمين؛ وهذا هو الأقرَبُ إلى الفِطْرةِ، وهو السُّنَّةُ؛ لأنَّ الكتابةَ شريفةٌ.
* * *
* قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78].
الدُّلُوكُ: زوالُ الشمس؛ كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمَر (1)؛ يعني: دخولَ وقتِ الظُّهر، ثمَّ في قولِهِ تعالى، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}؛ يعني:
(1)"تفسير الطبري"(15/ 25).
بقيَّةَ الصلوات: العصرَ والمغرِبَ والعشاءَ، ثم خَصَّ الفَجْرَ بالذِّكْر؛ كما خَصَّ الظُّهْرَ، فقال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]؛ يعني: صلاةَ الفجرِ.
وفي هذه الآية: بيانٌ لبعضِ مواقيتِ الصلاة، وقد تقدَّم مزيدُ تفصيلٍ عندَ قولِهِ تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
* * *
* قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79]
شرَعَ اللَّهُ لنبيِّهِ التهجُّدَ بمكَّةَ، وهذا دليلٌ على فضلهِ؛ فإنَّ اللَّه شرَعَ له أفضلَ الأعمالِ وأعظَمَها بمَكَّةَ، وتقدُّمُ التشريعِ دليلٌ على الفضلِ؛ لهذا تقدَّمَ بيانُ التوحيدِ وتشريعُ بعضِ أركانِ الإسلام، ويأتي الكلام على قيامِ الليلِ -بإذنِ اللَّهِ- في سورة المُزَّمِّلِ.
* * *
* قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
وفي هذا: بيانٌ لخَفَاء أمرِ الرُّوحِ، وأنَّها ممَّا لا يتمكَّنُ أحدٌ مِن الوقوفِ على حقيقتِهِ، فضلًا عن التحكُّمِ والتصرُّف فيه، وغايةُ ما يفعلُهُ العلماءُ: تعريفُ الرُّوحِ ومحاوَلَةُ تمييزِها عن النَّفْسِ، وقد كتَبُوا في ذلك كثيرًا.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على بُطْلانِ ما يُسمَّى بطِبِّ الأرواحِ
وعلاجِها، فهم إن قَصَدُوا طِبَّ النفوسِ، فهذا ممكِنٌ؛ لمعرفةِ كثيرٍ مِن أحوالِ النَّفْسِ ممَّا ظهَرَ منها ودَقَّ، وقد أخبَرَ اللَّهُ في القرآن، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في السُّنَّةِ، عن كثير من أَمْرِها ومَداخِلِها، وتصرُّفِها في صاحِبِها، وسياستِها، وطِبِّها وأدوائِها.
وإنَّما يبطل ما يُسمَّى بطِبِّ الأرواحِ؛ لخَفاءِ الرُّوح بذَاتِها، فضلًا عن العِلْمِ بها، فضلًا عن الحديثِ عن علاجِها؛ فإنَّ أهلَ الطبِّ يَعجِزونَ ويتعسَّرُ عليهم معرِفةُ كثير من بعض الأمراض البدنيَّةِ المحسوسة وتحديدُ علاجها؛ فكيف بشيءٍ أخفاه اللَّهُ عن الإنسانِ؟ ! والكتُبُ المصنَّفة في هذا الباب ككتُبِ الرُّوح والنَّفْس هي في بيانِ حَدِّ الرُّوح ومحاولة الوقوفِ على شيءٍ ممَّا ذُكِرَ عنها، وكلُّ ما ورَدَ في ذلك من غيرِ الوحي تكهُّنات، لا حُجَجٌ ولا بيِّنات.
* * *
* قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107، 108].
ذكَرَ اللَّه أهلَ الإيمانِ والعِلْمِ، وذكَرَ من أفعالِهم الخضوع للَّهِ وَخَشْيَتَهُ، وذلك بالسجودِ للَّهِ عندَ قيامِ مُوجِبِ ذلك، وقد تقدَّم الكلامُ على أسباب السجود في غير الصلاة، وحُكُم السجودِ من غيرِ سببٍ عندَ قولِهِ تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58]، وقولِهِ تعالى:{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: 120].
وحمَلَ بعضُهم السجودَ في هذه الآيةِ على سجودِ التلاوةِ؛ لاقترانِهِ
بقراءةِ القرآن، وسجودُ التلاوةِ سُنَّةٌ، وعلى هذا عملُ الخلفاءِ الراشِدِينَ والصحابة، وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ؛ لِما في "الصحيحَيْنِ"، مِن حديثِ زيِد بنِ ثابتٍ:"أنَّه قرَأَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم سورةَ النَّجْمِ، فلم يَسْجُدْ فيها"(1).
وفي البخاريِّ، عن عمرَ؛ قال:"إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُود، فَمَنْ سَجَدَ، فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدُ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، وقال ابنُ عمرَ:"إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ"(2).
وفي قولهِ تعالى: {سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} [الإسراء: 107، 108] مشروعيَّةُ التسبيحِ في السجود، ويأتي الكلامُ على التسبيح في السجودِ والركوعِ وحُكْمِهِ عندَ قولِهِ تعالى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} [السجدة: 15].
* * *
* قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].
سمَّى اللَّهُ قراءةَ القرآنِ صلاةً في هذه الآيةِ، كما سمَّى الصلاةَ قرآنًا في قولِهِ تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
وهذه الآيةُ نزَلَتْ بمكَّةَ حينَما كاد النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجهَرُ بالقرآنِ فيَنفِرُ منه كفارُ قريشٍ ويُؤْذونَهُ، وربَّما خافَتَ حتى لا يَكادَ يَسمعُهُ مَن يَسْتخفِي مِن المؤمِنينَ؛ كما في "المسنَدِ" و"الصحيحَيْنِ"، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: نزَلَتْ هذه الآيةُ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بمكَّةَ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ؛ قال: كان إذا صلَّى بأصحابِه، رفَعَ صوتَهُ بالقرآن، فلمَّا سَمِعَ ذلك
(1) أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).
(2)
أخرجه البخاري (1077).
المشركون، سَبُّوا القرآنَ وسَبُّوا من أنزَلَهُ ومَنْ جاءَ به، قال: فقال اللَّهُ تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ؛ أي: بقراءتِكَ فيَسمَعَ المشرِكونَ فيَسُبُّوا القرآنَ، ولا تخافت بها {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابِك، فلا تُسْمِعُهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1).
وهذه الآيةُ تتَّصِلُ بالدعوةِ وتبليغِ الناسِ والأخذِ بالحِكْمةِ في ذلك، ومِن العلماءِ: مَن حمَلَها على مسألةِ الجهرِ بالقراءةِ في الصلاةِ وقراءةِ المأمومِ خلفَ الإمامِ، وقد تقدَّم ذلك عندَ قولِهِ تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
* * *
(1) أخرجه أحمد (1/ 23) والبخاري (4722)، ومسلم (446).