الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحشر
سورةُ الحَشرِ مدَنيَّةٌ، وقد قال ذلك ابنُ عباسٍ وابنُ الزُّبَيْرِ (1)، وقد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ (2)، وقد أنزَلَها اللَّهُ على نبيِّه لبيانِ بعضِ أحكامِ تعامُلِه مع بعضِ أعدائِهِ! كبني النَّضِيرِ مِن اليهودِ، وما يُفِيءُ اللَّهُ به عليه مِن أموالِهم، وبيَّن اللَّه فيها فضلَ الصحابةِ وخطرَ المُنافِقينَ، وأحوالَ الفريقينِ في الآخرةِ، وقد كان ابنُ عبَّاسٍ يُسمِّيها سورةَ بني النضيرِ (3)؛ لأنَّها نزَلت فيهم.
* قال اللَّه تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5].
لمَّا دخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أرضَ بني النضيرِ، قطَعَ ثمارَهُمْ مِن نخيلٍ وثمرٍ؛ كما في "الصحيحَيْنِ"، عن ابنِ عمرَ؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ نَخْلَ بِني النَّضيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} (4).
وقيل: إنَّ الصحابةَ اختلَفُوا في إحراقِ نخلِ اليهودِ وإفسادِه، فأنزَلَ اللَّهُ على نبيِّه هذه الآيةَ، وفي "السُّننِ"؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ،
(1) ينظر: "الدر المنثور"(14/ 331).
(2)
ينظر: "تفسير ابن عطية"(5/ 283)، و"زاد المسير"(4/ 253)، و"تفسير القرطبي"(20/ 333).
(3)
أخرجه البخاري (4029).
(4)
أخرجه البخاري (4884)، ومسلم (1746).
عن ابنِ عبَّاسٍ؛ في قولِه: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ؛ قال: اسْتَنْزَلُوهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَأُمِرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحَاكَ فِي صُدُورِهمْ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: قَدْ قَطَعْنَا بَعْضًا، وَتَرَكْنَا بَعْضًا، فَلَنَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ، وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَا مِنْ وِزرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} (1).
وفي هذا: أنَّ اللَّهَ لم ينكِر على نبيِّه ولا على صحابتِه فِعْلَهم؛ وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ، ولم يكنِ اللَّهُ لِيأذَنَ لنبيٍّ بمحرَّمٍ، بل سمَّاه هنا خِزْيًا على المُنافِقينَ، وذُلًّا وصَغَارًا لهم.
وقد اختلَفَ العلماء في جوازِ إتلافِ حَرْثِ العدوِّ المُحَارِبِ ودُورِهم، على قولَيْنِ:
ذهَبَ جماعةٌ: إلى جوازِ ذلك إنْ كان فيه مصلحة للمُسلِمينَ؛ كأنْ يَعلَموا أن هذا المالَ لن يَؤُولَ إلى المُسلِمِينَ ولن يَنتفِعوا منه؛ وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ؛ أخذًا مِن ظاهرِ فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَني النضيرِ، ولم يَنهَهُ اللَّهُ ولم يُعاتِبْهُ على ذلك.
وقد أجاز أحمدُ الحَرقَ إذا كان بلا عبثٍ؛ وإنَّما لمصلحةٍ؛ كالمواضعِ التي لا بدَّ منها، وبنحوِهِ قال إسحاقُ؛ فقد جَوَّزَهُ نِكايةً، بل جعَلَهُ سُنَّةً بذلك القَيْدِ.
وذهب الأوزاعيُّ في قولٍ وغيرُهُ: إلى المنعِ مِن ذلك (2)، وجعَلَ فِعْلَ الناسِ في بَني النَّضيرِ منسوخًا، وأنَّه قضيَّةُ عَيْنٍ نُهِيَ عنها بعدَ ذلك، واستَدَلَّ بما رَوَى مالكٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ؛ أَنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ
(1) أخرجه الترمذي (3303)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11510).
(2)
ينظر: "سنن الترمذي"(1552).
جُيُوشًا إلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بنِ أبي سُفيَانَ، وَكانَ أَمِيرَ رُبُعٍ مِنْ تِلكَ الأَرْبَاعِ، فقال:"إِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لا تَقْتَلنَّ امْرَأَةً، ولا صَبِيًّا، ولا كَبيرًا هَرِمًا، ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، ولا تُخَربَنَّ عَامِرًا، ولا تَعْقِرَنَّ شَاةً ولا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، ولا تَحْرِقَنَّ نَخلًا، ولا تُغَرِّقَنَّهُ، ولا تَغْلُلْ، ولا تَجْبُنْ"(1)، وهو مُرسَلٌ، وقد جاء مِن وجهٍ آخَرَ؛ فرواهُ عثمانُ بنُ عطاءٍ، عن أبيهِ، عن أبي بكرٍ؛ وهو مرسَلٌ أيضًا.
وهذا لا يَتعارضُ مع قولِ مَنْ أجازَ؛ لأنَّ مَنْ قال بجوازِ ذلك، لم ينفِ مَنْعَه عندَ تحقُّقِ كونهِ إفسادًا، أو لم يكنِ العدوُّ منتفِعًا مِن الزرعِ، ولا أثَرَ عليه بحَرْقِه، فإنْ كانتِ الحالُ كذلك، فيُقالُ فيه كما قاله أبو بكرٍ.
* * *
صالَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يهودَ بني النَّضيرِ في قُرَاهم فَدَكَ وما حَوْلَها، فأَعطَوْهُ مالَهُمْ ليَدْفَعوا عن أنفُسِهم القتالَ، فسمَّى اللَّهُ ذلك المالَ فَيْئًا؛ لأنَّ المالَ الذي يغنَمُ مِن العدوِّ بلا قتالٍ فَيْءٌ؛ كما قال تعالى:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} ؛ يعني: أنَّكم لم
(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 448).
تُسْرِعوا بخَيْلِكم وإِبِلِكم في غزوٍ ولا كَرٍّ ولا فَرٍّ في قتالِ العدوِّ؛ وإنَّما هو نعمة مِن اللَّهِ أنْ مَكَّنَكم منهم بلا قتالٍ.
والفَيْءُ الذي يُغنَمُ بغيرِ قتالٍ قد اختُلِفَ في تقسيمِه:
فمِن العلماءِ: مَن جعلَهُ خالصًا لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقسِّمُهُ كما يشاءُ؛ لأنَّ اللَّهَ ذكَرَ ذلك ولم يُخَمِّسْهُ؛ كما في قولِه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .
ومِن العلماءِ: مَن جعَلَ الفَيْءَ يُقسَّمُ كالغنيمةِ، وأنَّ الآيةَ ذكَرَتِ الخُمُسَ الخاصَّ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأمَّا الأخماسُ الأربعةُ الباقيةُ، فمسكوتٌ عنها، وتَلحَقُ في حُكْمِها حُكْمَ الغنيمةِ؛ لأنَّ اللَّهَ ذكَرَ ذلك في الغنيمةِ؛ ذكَر خُمُسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسكَتَ عن الباقي للعِلْمِ به؛ كما قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]؛ ولهذا قال الشافعيُّ؛ فجعَل معنى آيةِ الحَشْرِ كمعنى آيةِ الأنفالِ، وذلك أنَّ الفيءَ يُخمَّسُ كالغنيمةِ، وأربعةُ أخماسِها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يَتصرَّفُ بها، وبعدَهُ تكونُ للمُقاتِلِين، والخُمُسُ الباقي فيمَن سمَّى اللَّهُ.
وله قولٌ آخَرُ: أنَّ ما كان لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يكونُ بعدَ وفاتِهِ في بيتِ مالِ المُسلِمِينَ ومَصَالحِهم.
وقد عَدَّ بعضُ السلفِ آيةَ الفيءِ هنا منسوخةً بما في سورةِ الأنفالِ؛ وذلك أن الفيءَ يُخمَّسُ كالغنيمةِ؛ وبهذا قال قتادةُ وغيرُه (1).
والأرجحُ: أنَّ كِلتا الآيتَيْنِ مُحْكَمةٌ، وأنَّ المالَ الذي يُكسَبُ بلا قتالٍ يَختلِفُ عن المالِ الذي يُغنَمُ بقتالٍ، وفرقٌ بين آيةِ الغنيمةِ وآيةِ الفَيْءِ؛ فآيةُ الغنيمةِ بَيَّنَتْ أنَّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم الخُمُسَ بقولِهِ تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ
(1)"تفسير الطبري"(22/ 518).
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، فبيَّنتْ أنَّ الباقيَ أربعةُ أخماسٍ، وأمَّا آيةُ الفَيءِ هنا، فلم تذكُرْ أنَّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قدْرًا محدودًا:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآيةَ، ثمَّ أكَّدتْ أنَّ الفَيْءَ على الرسولِ لا على غيرِه، بخلافِ آيةِ الغنيمة، فنَسَبَتِ الغُنْمَ للمُسلِمينَ؛ كما في قولِهِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]، فالغنيمةُ كسَبُوها فاستحَقُّوها، وأمَّا الفيءُ، فلم يَكْسِبوه؛ وإنَّما هو فضلٌ مِن اللَّهِ خالصٌ؛ ويدُلُّ على ذلك: ما رواهُ أحمدُ والشيخانِ، عن عمرَ رضي الله عنه؛ قال:"كَانَت أَمْوَالُ بنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ ولا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِصَةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْهَا نَفَقَةَ سَنَتِهِ -وَقَالَ مَرَّةً: قُوتَ سَنَتِهِ- وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلاحِ عُدَّةَ فِي سَبِيل اللَّهِ عز وجل"(1).
وبهذا قال مالكٌ وأحمدُ وجماعةٌ.
وقد حمَلَ جماعةٌ مِن المفسِّرينَ قولَهُ تعالى في الفَيْءِ هنا: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} على كلِّ ما غُنِمَ بلا قتالٍ؛ كالجِزْيةِ وخَرَاجِ أرضِ المشرِكِين؛ كما نصَّ على هذا مَعْمَرٌ وغيرُه (2).
* * *
(1) أخرجه أحمد (1/ 25)، والبخاري (2904)، ومسلم (1757).
(2)
"تفسير الطبري"(22/ 516).