الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمَّا جاء كتابُ سليمانَ إلى مَلِكةِ سبإٍ وقرَأَتْه، أرسَلَت بكتابٍ إليه تَسْتَمِيلُهُ لكفِّ ما يُرِيدُه، مِن لَحَاقِها به، وخضوعِها للَّه، ونزولِها تحتَ حُكْمِه، وأرادتْ أن تَختبِرَ صِدْقَ دعْواه: هل هو صاحبُ دُنْيا؛ فتُسكِّنَهُ الهديَّةُ -لأنَّ صاحبُ الدُّنيا إنْ جاءه ما يُريدُ، سكَنَ طمعُه؛ لتحقُّقِ مقصودِهِ- أو صاحبُ دِينٍ ومقصودُهُ عبادةُ اللَّهِ وحدَه؟ كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: بعَثَتْ إليه بوصائِفَ ووُصَفَاءَ، وألبسَتهُمْ لِبَاسًا واحدًا؛ حتى لا يُعرَفَ ذكَرٌ مِن أُنثى، فقالتْ: إن زَيَّلَ بينَهم حتى يَعرِفَ الذَّكَرَ مِن الأُنثى، ثمَّ ردَّ الهديَّةَ، فإنَّه نبيٌّ، وينغي لنا أنْ نترُكَ مُلْكَنا، ونتَّبعَ دِينَه، ونَلحَقَ به (1).
وقال ابنُ زيدٍ: إنَّها قالتْ: إنَّ هذا الرجلَ إنْ كان إنَّما هِمَّتُهُ الدُّنيا، فسنُرْضِيه، وإنْ كان إنَّما يُرِيدُ الدِّينَ، فلن يَقبَلَ غيرَهُ (2).
حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ:
ولمَّا جاءتِ الهديَّة سليمانَ، رَدَّها ولم يَقْبَلْها؛ لأنَّ اللَّهَ لم يبعَثْهُ جابيًا للمالِ باحثًا عنه؛ وإنَّما مريدًا للناسِ العِبادةَ واستسلامَهُمْ للَّهِ، لا له.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على عدمِ جوازِ قَبُولِ العالِمِ والمُصلِحِ الهديَّةَ إنْ كان مُهدِيها يُريدُ بها استمالةَ المُصلِحِ إلى ضلالِهِ أو إسكاتَهُ عنه؛ فإنَّ
(1)"تفسير الطبري"(18/ 53).
(2)
"تفسير الطبري"(18/ 54).
النفوسَ مجبولةٌ على حُبِّ مَنْ أحسَنَ إليها، وسليمانُ لم يَرُدَّ هديَّةَ مَلِكةِ سبإٍ إلَّا لأنَّها جاءتْ بعدَ كتابِهِ إليها بالدخولِ في الإسلامِ.
ومَنْ كان قائمًا بأمرِ اللَّهِ، منابِذًا للكفرِ، رافعًا رايةَ الإصلاحِ: لا يجوزُ له قَبولُ هدايا المُعانِدينَ؛ خشيةَ كَسْرِ نفسِه وسكونِها.
ونظرُ العالمِ إلى حالِ المُهْدِي عندَ بَذْلِ الهديَّةِ واجبٌ؛ فإنَّ أحوالَ المُهدِينَ تَنطوِي تحتَها مَقاصدُهم، ومَقَامُ العالِمِ ليس كمَقَامِ غيرِه؛ فمِن الناسِ مَن يبذُلُ الهديَّةَ حبًّا في الإسلامِ وأهلِه، ومنهم مَن ببذُلُها كُرْهًا لهم فيَراهم شرًّا لا يُدفَعُ إلَّا بالمالِ، وإهداءُ المالِ ليس عَلَامةً على المودَّةِ في كلِّ حالٍ.
وقد يُبذَلُ المالُ وتُهدَى الهديَّةُ ويَقصِدُ به قابلُها تأليفًا لقلبِ المُهدِي، لا رغبةً في الدُّنيا؛ كما قَبِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هدايا الملوكِ كالمُقَوْقِسِ وغيرِه.
وقد تقدَّمَ الكلامُ على أخذِ الأَجْرِ على نشرِ الخيرِ وقَبُولِ الهدايا والعطايا عليه، عندَ قولِهِ تعالى:{وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29].
* * *