الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ الى المرأةِ:
لا يختلِفُ العلماءُ أنَّ نظرَ الرجلِ إلى ما يجوزُ للمرأةِ إظهارُهُ بشهوةٍ، أو عَلِمَ أنَّ نظرَهُ إليها يُثِيرُ فتنةً فيه: أنَّه حرامٌ، سواءٌ كانت شابَّةً أو قاعدًا، وسواءٌ كانتِ المرأةُ على الحقيقةِ أو صُورةً لها، ولو لم يكنْ يَعرِفُها؛ لأنَّ اللَّهَ حَرَّمَ النظرَ إلى المرأةِ لعِلَلٍ كثيرةٍ، مِن أَجَلِّها ما يَتْبَعُ النظرَ مِن إثارةِ الفتنةِ في الناظرِ وتشوُّفِهِ إلى الفاحشةِ؛ فالنظرُ يُحبِّبُ الحرامَ ولو في غيرِ المنظورِ إليها، وجُلُّ مَن وقَعُوا في النظرِ الحرامِ لم يقَعُوا في الزِّنى بِجُلِّ مَن نظَروا إليهِنَّ؛ وإنَّما في أُخْرَيَاتٍ غيرِهن؛ فالنظرُ الحرامُ وَقُودُ الزِّنى.
والأصلُ: أنَّ نظرَ الرجلِ إلى المرأةِ يُثِيرُ فتنةً؛ ولهذا جاء الأصلُ بالنهيِ عنه مِن غيرِ تقييدٍ؛ فإنَّ الفتنةَ قد لا تُوجَدُ مِن أولِ نظرةٍ ولا ثانيها ولا ثالثِها؛ وإنَّما تَحْيَا بالقلبِ مع إدامةِ النظرِ، فجاء النهيُ عن أولِه؛ حتى لا ينتهي بصاحِبِهِ إلى فتنةٍ في آخِرِه، ولمَّا كانتِ الفتنةُ غالبةً في النظرِ -خاصَّةَ المتكرِّرَ- جاء النهيُ عامًّا، ويشتدُّ الإثمُ بمقدارِ ورودِ الفتنةِ في صاحِبِه، وقد يكونُ النظرُ المحرَّمُ سهلًا في أولِه؛ لعدمِ قيامِ الفتنةِ فيه، ولكنَّه مع إدامتِهِ يكونُ كالقَيدِ الذي يُفتَلُ ويُوثِقُ صاحِبَهُ، والعينُ تَفتِلُ قيدَ القلب بإدامةِ النظرِ حتى يتقيَّدَ ولا يستطيعَ صَرْفَ البصرِ؛ ولذا لمَّا سأَل جريرٌ رضي الله عنه رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن نظرِ الفَجْأَةِ، قال له:(اصْرِفْ بَصَرَكَ)(1).
ويجوزُ نظرُ الرجُلِ إلى المرأةِ للضرورةِ؛ كنظرِ القاضي في الخُصُوماتِ والحقوقِ الى وجهِ المرأةِ عندَ استشكالِهِ لحقيقتِها، إنْ لم يُوجَدْ مَن ينوبُ عنه في ذلك مِن النساءِ.
* * *
(1) أخرجه مسلم (2159)، وأحمد (4/ 361)، وأبو داود (2148)، واللفظ لهما.
أمَرَ اللَّهُ المؤمناتِ بغضِّ البصرِ، وقدَّمَ غضَّ البصرِ على حِفْظِ الفَرْجِ، لأنَّ إطلاقَ البصرِ طريقٌ يَنتهي بإضاعةِ الفَرْجِ؛ فقدَّمَ اللَّهُ حِفْظَ الوسيلةِ لتُحفَط الغايةُ، ثمَّ نَهَى اللَّهُ نساءَ المؤمنِينَ عن إبداءِ الزِّينةِ، وثَمَّةَ تلازُمٌ بينَ إطلاقِ البصرِ وبينَ الزَّينةِ؛ وذلك أنَّه لا تُكثِرُ التزيُّنَ للرِّجالِ الأجانبِ إلَّا مَن أطلَقَت بصَرَها فيهم، فتشوَّفَتْ إليهم ببَصَرِها، فَزيَّنَتْ بدَنَها ولِبْسَها، ولو لم تُطلِقْ بصَرَها لم يكنْ في القلبِ داعٍ للتزيُّنِ لهم، ومَن حَفِظَت بصَرَها، حَفِظَت فَرْجَها، ولم يقعْ في قلبِها جذبُ الرجالِ إليها في الزينةِ؛ لأنَّ القبَ خالٍ منهم؛ ولهذا قدَّمَ اللَّهُ حِفظَ البصرِ على حِفظِ الفَرْجِ والنهي عن الزينةِ؛ لأنَّ البصرَ حبلٌ يَجذِبُ القلوبَ ويحرِّكُها إلى التزيُّنِ لإغراءِ الرِّجالِ وإغرائِهم والوقوعِ فى الحرامِ.
وشدَّدَ اللَّهُ على الرَّجُلِ في غضِّ البصرِ، وشَدَّدَ على المرأةِ في الحِجَابِ؛ حتى يُقلِّلَ ما بينَهما مِن تجاذُبٍ ومَيْلٍ، ولا يعني هذا أنَّه يجوزُ للرجلِ إبداءُ مَفَاتِنِه، ولا أنَّه يجوزُ للمرأةِ إطلاقُ بَصَرِها فتُفتَنَ، ولكنَّ الوحيَ يشُدُّ الحبالَ المُرتَخِيَة في النفوسِ أشَدَّ مِن الحبالِ الثابتةِ فيها، وأقرَبُ الناسِ إلى السقوطِ يُجذَبُ أشَدَّ مِن البعيدِ عنها؛ حتى تكتمِلَ فِطْرةً العَفَافِ وتَصِحَّ، فإذا لم يَغُضَّ الرجلُ بَصَرَهُ، فإنَّ المرأةَ تَدْفَعُ فِتنتَهُ
بحجابِها، وإنْ لم تتحجَّبِ المرأةً، فالرجلُ يدفعُ فِتنتَها بغضِّ بصرِه؛ ولهذا ربَطَ اللَّهُ بينَ غضِّ البصرِ وبينَ الزِّنى؛ لأنَّه سببٌ له، فقال للرِّجالِ:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال للنِّساءِ:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ؛ ولكنَّه زادَ في النساءِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} .
ولا يختلِفُ العلماءُ على أنَّ نظرَ المرأةِ إلى ما يَفتِنُها مِن الرجالِ محرَّمٌ، سواءٌ كان نظرًا الى أَبْشَارِهم أو شخوصِهم، وأمَّا نظَرُ المرأةِ الى ما يجوزُ للرجلِ إبداؤُهُ مِن غيرِ فتنةٍ فيه، فقد وقَعَ في ذلك نزاعٌ بينَ الفقهاءِ:
فمِن العلماءِ: مَن أخَذَ بعمومِ النهي في الآيةِ، ولأنَّ الغالِبَ أنَّ نظرَ المرأةِ الى الرجلِ أنَّه فِتْنةٌ آجِلةٌ أو عاجِلةٌ؛ فمَن أطلَقَتْ بصرَها، انتهى بها إلى الافتتانِ؛ وهذا الصحيحُ مِن مذهب الشافعيِّ وأحمدَ، وعلى هذا جمهورُ الصحابةِ والتابعِين.
واللَّهُ قد أمَرَ النساءَ بمِثلِ ما أمَرَ به الرجالَ، ولم يفرِّق بينَهم، بل زاد النساءَ عدمَ إبداءِ الزينةِ.
وذهَب قومٌ: إلى جوازِ نظرِ المرأةِ إلى الرجلِ بغيرِ شَهْوةٍ؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لعائشةَ نَظَرَها إلى الحبشةِ وهم يَلْعَبونَ في المسجدِ، وظاهرُهُ: أنَّ عائشةَ تنظُرُ إلى لَعِبِهِمْ، لا إلى وجوهِهم، ولم تكنْ قريبةً منهم، فلم تكنْ تخُصُّ واحدًا منهم بل ترى حَرَكةَ الجماعةِ، ولم تكنْ أمامَ وجوهِهم بحيثُ تأخُذُ حُكمَ المُتقابلَيْنِ، ولم يكنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَأذَنُ لنسائِهِ بمحادَثَةِ الرجالِ وجهًا لوجهٍ، فتنظُرُ إليهم كما ينظُرُ الرجلُ إلى جليسِه.
وغالبًا ما تُطلِقُ المرأةُ أو الرجُلُ البصرَ ولا يَجِدَانِ الفتنةَ مِن النظرةِ
الأُولى، ثمَّ ما يزالُ الشيطانُ يُسوِّلُ لهم الجوازَ؛ لإنعدامِ العِلَّةِ الداعيةِ للنهي؛ حتى تتولَّدَ الفِتْنةُ مع تَكْرارِهِ، فيُوقِعَهُمُ الشيطانُ في شِرَاكِه؛ فله خطواتٌ تَبدأُ بالمُباحِ وتَنتهي بالحرامِ الذي لا ينفكُّ منه صاحبُهُ.
نَهى اللَّه المرأةَ عن ابداءِ زينتها عندَ الرجالِ الأجانبِ، وهذه الآية دالَّةٌ بصريحِ الخِطَابِ على سَتْرِ الزينةِ حتى لا تَفتِن الرجالَ، ولم يأمُرِ اللَّه الرجالَ بعدمِ إبداءِ الزينةِ؛ لأنَّ المرأةَ فُطِرَتْ على التزيُّنِ أكثَرَ مِن الرجلِ، وتميلُ إليه فِطْرةَ، وتتنوَّعُ فيه، وتستكثِرُ فه، وتنشأُ عليه؛ كما قال تعالى عنها:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، ولأنَّ زينةَ المرأةِ تَجذِبُ الرجلَ أشدَّ مِن جذبِ زينةِ الرجلِ للمرأةِ، ولأنَّ الرجلَ أجسَرُ على إطلاقِ البصرِ المرأةِ.
وقولُه تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} : الخِمَارُ: اسمُ مصدرٍ؛ خَمَّرَ يُخمِّرُ تخميرًا، يعني: غطَّى، ومنه سُمِّيَ الخَمْرُ خمْرًا؛ لأنَّه يُغطِّي العقلَ، والخِمَارُ: لِبَاسٌ تَلَبَسُهُ وتشُدُّهُ المرأةُ في أعلاها على الرأسِ وما دونَه، ويُسمَّى النَّصيفَ، ويُستعملُ الخِمَارُ لتغطيةِ ثلاثةِ مواضعَ وشَدِّها، وكل واحدٍ منها يُضرَبُ عليه بالخمارِ:
الأولُ: الرأسُ؛ لظاهرِ الآيةِ، فالرأسُ مُرتكَزُ الخِمارِ وقاعدتُهُ، وفي بعضِ الأحاديثِ تُسمَّى عمامةُ الرَّجُلِ خِمَارًا؛ جاء ذلك مِن حديثِ المُغِيرةِ (1) وثَوْبانَ (2) وبلالٍ (3) وسَلْمانَ (4)، وكانت أمُّ سلمةَ تمسحُ على
(1) أخرجه أحمد (4/ 254).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 281).
(3)
أخرجه مسلم (275).
(4)
أخرجه أحمد (5/ 439)، وابن ماجه (563).
خمارِها (1)؛ يعني: بدلَ شَعَرِ رأسِها، وصحَّ عن نافعٍ مَوْلى ابنِ عمرَ؛ قال:"رأيتُ صفيَّةَ بنتَ أبي عُبَيْدٍ توضَّأَتْ وأنا غلامٌ، فإذا أرادت أنْ تَمْسَحَ رأسَها، سلَخَتِ الخِمارَ"(2).
وصحَّ نحوُهُ عن ابنِ المسيَّبِ (3) والنخَعيِّ (4).
وصحَّ عن عطاءِ بنِ أبي رياح في المرأةِ إذا أرادت أن تَمَسَحَ رأسَها، قال:"تُدخِلُ يدَيها تحتَ الخِمَارِ، فتَمْسَحُ مُقدَّمَ رأسِها يُجزِئُ عنها"(5).
وصحَّ عن ابنِ سيرينَ: "أنَّه كَرِهَ أن تُصلِّيَ المرأةُ وأُذُنُها خارجةٌ مِن الخِمارِ"(6).
الثاني: الصَّدْرُ، لظاهرِ قولِهِ:{عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، لأنَّ الجيوبَ هي ما على الصدورِ مِن الثيابِ، والضَّرْبُ يأتي مِن أعلى ويَنْزِل على جَيْبِ المرأةِ، وهو صَدْرُها؛ فالجبوبُ هي الصدورُ؛ ولذا جاء في الحديثِ نَهْيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن شَقِّ الجيوبِ (7)، نهيًا للمرأةِ أن تشُقَّ جَيْبَها عندَ المصيبةِ.
الثالثُ: الوجهُ؛ فإنَّ الخِمَارَ قماشٌ طويلٌ ممتدٌّ مشدودٌ تُنزِلُهُ المرأةُ مِن قاعدتِه، وهي الرأسُ، على ما شاءتْ، ومنه الوجهُ، وصحَّ عن هشامٍ، عن حفصةَ بنتِ سِيرِينَ أمِّ الهُذَيْلِ؛ قالتْ: "تُخمَّرُ المرأةُ الميِّتةُ
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(223)
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(51)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(242).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(50).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(251).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(246).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(5051).
(7)
أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103).
كما تُخمَّرُ الحيَّة، وتُدَرَّعُ مِن الخِمَارِ قَدْرَ ذِرَاعٍ تُسْدِلُهُ على وَجْهِها" (1).
وقال الفَرَزْدَقُ:
نِسَاءٌ بِالمَضَايِقِ مَا يُوَارِي
…
مَخَازِيَهُنَّ مُنْتَقِبُ الخِمَارِ
وكذلك: فإن الخِمارَ يُسمَّى نَصِيفًا عندَ العربِ، وفي لغةِ الشرعِ؛ ولذا جاء في "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ أنسٍ مرفوعًا:(لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِن نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلعَتْ إِلَى الأَرْضِ، لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَينَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفهَا -يَعْنِي: الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)(2)، وقد جاء في "المسنَدِ"، مِن حديثِ أبي هريرةَ تفسيرُ الخِمارِ بالنَّصيفِ صريحًا مِن قولِ أبي هريرةَ (3).
والنَّصِيفُ -وهو الخِمارُ- تُطلِقُه العربُ على ما يُغطَّى به الوجهُ، وقد قال:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ
…
فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتنَا بِالْيَدِ
ويُستعمَلُ الخِمارُ لهذه الثلاثةِ أو بعضها، ولكنَّ أصلَ استعمالِ النساءِ للخِمارِ: أنَّ له محيطًا ووسطًا؛ يَبْدَأُ مِن الرأسِ ويُحيطُ به، ويَنزِلُ تَبَعًا على الكَتِفَيْنِ والوجهِ والصدرِ؛ كما قال ابنُ خُزَيمَةَ في "الصحيحِ":"الخِمارُ الذي تستُرُ به وجهَها، بل تُسدِلُ الثوبَ مِن فوقِ رأسِها على وجهِها"(4).
وإنْ كشَفَتِ المرأةُ خِمارَها عن وَجْهِها لمَحْرَمِها، بَقِيَ مُحيطًا بوجهِها، وقد جاء في حديثِ مُسلمِ بنِ أبي حُرَّةَ؛ قال: "لمَّا حُصِرَ ابنً الزُّبَيْرِ، دخَلَ على أُمِّهِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ، فقَبَّلَها وقبَّلَ ما بينَ
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(6220).
(2)
أخرجه البخاري (6568).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 483).
(4)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 1276).