الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُرضِيَهُ؛ لأنَّه يَخشى أن يقَعَ في التفريطِ أن تسقُطَ شرائعُ اللَّهِ وهو يَرَاها، فيقَعُ في مخالَفةِ أمرِ اللَّهِ في تثبيتِها، وقد كان في سَعَةٍ لو عرَفَ مراحلَ التمكينِ في إقامةِ دِينِ اللَّهِ التي بيَّنها اللَّهُ لنبيِّه، ولو مات العبدُ وهو يسيرُ إلى التمكينِ لآتاهُ أجرَ النهايةِ ولو كان في البدايةِ؛ كما قال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]؛ فاللَّهُ احتسَبَ الأجرَ لِمَنْ خرَجَ مِن بيتِهِ قاصدًا الهجرةَ ولو كان على عَتَبةِ بابِه، ما لم يُقِمْ في دارِهِ راكنًا إلى دُنياه.
مَرَاتِبُ التمكينِ وشروطُهُ:
وللتمكينِ مراتبُ ودرجاتٌ يجبُ على المُصلِحينَ إبصارُها؛ حتى يَعرِفوا مقدارَ ثباتِ ما يُقِيمُونَ عليه دِينَ اللَّهِ؛ فليستِ الدُّوَلُ ولا الأممُ على مرتبةٍ واحدةٍ في التمكينِ، وقد قال تعالى في ذلك:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]، وكلَّما زادتُ أسبابُ القوةِ وقَبُولِ الناسِ، زادتْ أسبابُ التمكينِ، فقد يكونُ للإنسانِ بَسْطَةٌ في مالِهِ وسُلْطانِهِ، وليس له بسطةٌ على الناسِ، فالمالُ وحدَهُ ليس تمكينًا ما لم يكنْ معه رجالٌ يُمكِّنونَ له؛ ولهذا لمَّا أراد ذو القَرْنَيْنِ بناءَ سَدِّ يأجوجَ ومأجوجَ، عَلِمَ أنَّه بحاجةٍ إلى تمكينَيْنِ: تمكينِ مالٍ، وتمكينِ رجالٍ، ولمَّا قيل له:{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} [الكهف: 94]، عرَضُوا عليه المالَ، وهو (الخَرَاجُ)، ردَّ عليهم:{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، فكان لدَيْهِ تمكينُ مالٍ، ومع الناسِ تمكينُ رِجالٍ، فاجتمَعَ التمكينانِ على القيامِ ببناءِ الرَّدْمِ بينَ الناسِ وبينَ يأجوجَ ومأجوجَ.
وأولُ ما يَبدأْ التمكينُ: في الفردِ، ولكنَّ التمكينَ إذا أُطلِقَ في القرآنِ لا يُراد به تمكينُ الأفرادِ؛ وإنَّما يُرادُ به تمكينُ الجماعةِ والأمَّةِ، ومَن ظَنَّ أنَّ الفردَ إنْ تمكَّنَ مِن إقامةِ دِينِهِ، فيعني دلك تمكينَ دِينِه، فقد أخطَأَ؛ ولهذا لمَّا طلَبَ الصحابةُ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكَّةَ قتالَ قريشٍ لمَّا آذَوْهُمْ وفتَنُوهم، منَعَهُمُ اللَّهُ مِن ذلك؛ لعدمِ تمكينِهم؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، فلم يَجْعَلِ اللَّهُ إقامتَهم للصلاةِ وإيتاءَهم للزكاةِ تمكينًا لجماعتِهم ودَوْلَتِهم، فالصلاةُ والزكاةُ تمكينُ أفرادٍ، والجهادُ تمكينُ جماعةٍ ودَوْلةٍ؛ ولهذا قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]، فقد جعَلَ اللَّهُ تمكينَ أمَّتِهِمْ واستخلافَهُمْ في الأرضِ مُمْسِكينَ بأسبابِها -بعدَ إيمانِهم وعملِهم الصالحِ في أنفُسِهم- فلم يجعلْ مجرَّدَ إيمانِ الأفرادِ وعملِهم الصالحِ تمكينًا واستخلافًا، بل جعَلَ التمكينَ والاستخلافَ بعدَه؛ وذلك أنَّ تمكينَ الأفرادِ يكونُ مع خوفٍ، وتمكينَ الدَّولةِ يكونُ مع أمنٍ؛ وهذا ظاهرٌ في قولِه:{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]؛ يعني؛ أنَّهم كان زمنُ إيمانِهم وعملِهم الصالحِ الخاصِّ زَمَنَ خَوْفٍ، والتمكينُ كان زمنَ الأمنِ.
ومِن هذا: ما كان عليه موسى؛ فقد كان ومَنْ آمَنَ معه على إيمانٍ وعملٍ صالحٍ، ولم يكونوا على تمكينٍ؛ ولهذا وصَفَهم اللَّهُ بالضَّعْفِ والخوفِ، قال تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 5]؛ يعني: موسى ومَن معه، ثمَّ ذكَرَ تمكينَهُمْ بعدَ ذلك، فقال:{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص 6]، فمع إيمانِهم وعملِهم الصالحِ الخاصِّ لم يَجْعَلْهم اللَّهُ ممكَّنِين؛ بسببِ الضَّعْفِ والخوفِ.
وتحقُّقُ التمكينِ التامِّ له شروطٌ ثلاثةٌ:
الشرطُ الأولُ: الأخذُ بأسبابِ الأرضِ، والقُدْرةُ على الانتفاعِ منها، وذلك بحَرْثِها وغَرْسِها وسَقْيِها وحَصَادِها وصَرَامِها؛ فمَنْ كان في أرضٍ ولا يَملِكُ أن ينتفِعَ بأرضِها لخوفٍ أو ضَعْفٍ، فليس ممكَّنًا فيها، ومِن ذلك قولُ اللَّهِ تعالى:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، ومَن لم يتمكَّنْ معاشُهُ مِن أرضِهِ مِن مُبتداهُ إلى مُنتهاهُ، فليس ممكَّنًا فيها، فمَنْ له سلطانٌ على الأرضِ، مَلَكَها ومَلَكَ انتفاعَهُ بها، وكان له قدرةٌ على تمكينِ الناسِ مِن الانتفاعِ منها بمَنْحِهم وإقطاعِهم؛ كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقطِعُ بالمدينةِ بعضَ أصحابِه لمَّا تمكَّنَ مِن أرضِها.
وليس مِن التمكينِ على الأرضِ مَنْ يأخُذُ ثمارَها ولا يتمكَّنُ مِن مُبتدى ذلك بحرثٍ وغَرْسٍ وحصادٍ؛ لأنَّ أخذَ ثمارِها فقطْ يَقدِرُ عليه مَن لم يتمكَّنْ؛ وذلك كأخذِهِ بتخويفِ أهلِها، وقد يَقدِرُ عليه السُّرَّاقُ الذين يُبَيُتُونَ الناسَ على أرزاقِهم، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم متمكِّنًا مِن خَيْبَرَ، وصالَحَ اليهودَ عليها، فأَذِنَ لهم بحَرْثِها وغَرْسِها وسَقْيِها وصَرَامِها، فجعَلَهم كالعمَّالِ فيها، فهو قادرٌ صلى الله عليه وسلم على أن يجعلَ المُسلِمينَ يقومونَ بذلك، ولكنَّه صالَحَ اليهودَ عليها.
الشرطُ الثاني: السَّيْرُ في الأرضِ بأمانٍ، فمَن كانوا في الأرضِ لا يتمكَّنونَ مِن السيرِ فيها والتبوُّءِ والسكَنِ منها حيثُ شاؤوا، لا يُعتَبَرُونَ ممكَّنينَ فيها؛ فاللَّهُ لم يجعلْ يوسُفَ عليه السلام ممكَّنًا في مصرَ حتى أمكَنَه السيرُ فيها حيثُ شاءَ؛ كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]، فمَنْ كان لا يسيرُ في أرضِهِ إلَّا خائفًا متستِّرًا، فلا يُعَدُّ ممكَّنًا فيها، فالتمكينُ لا يجتمعُ مع شدةِ الخوفِ،
ومِن ذلك قولُهُ تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]، وقد قال اللَّهُ عن تمكينِ قريشٍ:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، فقد كان لكفارِ قريشٍ تمكينُ أرضٍ، لكنْ ليس لدَيْهِمْ تمكينٌ مِن العملِ الصالحِ، وقد كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تمكينٌ مِن العملِ الصالحِ، ولكنْ ليس لدَيْهِ تمكينٌ في أرضِ مَكَّةَ حِينَها، فلم يُؤمَرْ بإقامةِ كثيرٍ مِن التكاليفِ؛ لأنَّ قدْرَ التمكينِ أقصَرُ منها، فقُصِرَتِ التكاليفُ معها، ولو اجتمَعَ التمكينانِ له، لأُمِرَ بإقامةِ شعائرِ اللَّهِ كلِّها في مكَّةَ كما أقامَها في المدينةِ.
الشرطُ الثالثُ: الأخذُ بأسبابِ الناسِ حتى ينقادوا أمرًا ونهيًا؛ رغبةً أو رهبةً، ومِن هذا تمكينُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ، فقد تمكَّنَ في الأرضِ أولَ قدومِهِ وأَمِنَ فيها، ولم يكنِ الناسُ كلُّهم على انقيادٍ تامٍّ فيها، وإنَّما تدرَّجَ تمكينُه، ومع تدرُّجِ تمكينِه تدرَّجَ تكليفُه؛ ولهذا نزَلَتْ عليه الشرائعُ والأحكامُ والحدودُ تِبَاعًا.
وقد يتحقَّقُ لسلطانٍ أو قومٍ أحدُ شروطِ التمكينِ ويَفقِدُ غيرَها، فلا يكونُ متحقِّقَ التمكينِ، وذلك كحالِ النَّجَاشِيِّ في الحبشةِ؛ فقد كان مَلِكًا على الحبشةِ، له البَسْطةُ على أرضِها والانتفاعُ منها، وآمِنًا فيها؛ لكنَّه لا يَملِكُ الأخذَ بأسبابِ الناسِ أمرًا ونهيًا في الحقِّ، فقد جاءَهُ الحقُّ وآمَنَ به وحدَه، وأُمَّتُهُ كلُّها نصرانيِّةٌ، فلو أمَرَهُمْ ونهاهُم، لَمَا أطاقوا أمرَهُ، ولقاموا عليه، فأسلَمَ وكتَمَ إيمانَه، ولم يُعادِ الحقَّ وأهلَه، بل نصَرَهُمْ، وعذَرَهُ اللَّهُ لعدمِ تمامِ تمكينِةِ بالحقِّ، ولو كان مستوفِيًا تمامَ التمكينِ، لم يكنْ معذورًا عندَ اللَّهِ، فلمَّا عُذِرَ، دَلَّ على أنَّه صحَّ إسلامُهُ وعُذِرَ بما ترَكَ لعَجْزِه، وهذا يختلِفُ عمَّن كان ممكَّنًا بالحقِّ ولكنَّه أكرَهَ الناسَ على الباطلِ.
وفرقٌ بينَ مَن كانتْ وِلايتُهُ على باطلٍ، فتدرَّجَ بنَقْضِ عُرَا الباطلِ، وبينَ مَن كانتْ وِلايتُهُ على حقٍّ، فتدرَّجَ بنَقْضِ عُرَا الحقِّ.
وقد يكونُ لأحدٍ تمكينٌ كاملٌ وأخذٌ بأسبابِ الأرضِ والناسِ جميعًا، وهذا مِن جنسِ تمكينٌ اللَّهِ لذي القَرْنَيْنِ؛ كما قال تعالى:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} [الكهف: 84].
وبتمامِ التمكينِ تقومُ شرائعُ كثيرةٌ، وبنقصِهِ يُعذَرُ العاجزونَ عنها، كما يُعذَرُ العبدُ في نفسِه في أداءِ الصلاةِ قائمًا لمرضٍ، فيُصلِّيها قاعدًا أو على جَنْبٍ.
وفي قولِه تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} : ذِكْرٌ لأسبابِ دوامِ التمكينِ وحِفْظِه، فما مِن أحدٍ يُتِمُّ اللَّهُ له تمكينَهُ، ثمَّ يقومُ بحِفظِ شعيرةِ الصلاةِ في نفسِهِ وفي الناسِ كما أمَرَ اللَّهُ، ويأخُذُ الزكاةَ ويَقسِمُها بالعدلِ كما أمَرَ اللَّهُ، ويأمُرُ ويَنهَى على ما أمَرَ اللَّهُ، إلَّا دامَ تمكينُهُ بمقدارِ حِفْظِهِ لهذه الثلاثةِ، ويَنقُصُ تمكينُهُ بمقدارِ نقصِها، ومَن أقامَ التكاليفَ أكثَرَ مِن قدرِ التمكينِ له في الأرضِ، لم يَدُمْ تمكينُه، وقد يظُنُّ فيه بعضُ المُنافِقِينَ والظالِمِينَ أنَّه لم يُمكَّنْ إلَّا بسببِ عدمِ صلاحِ شريعتِهِ ودِينِه، وإنَّما هو بسببِ تعجُّلِ التكليفِ قبلَ التمكينِ، ففَتَنَ الناسَ وصرَفَهُمْ عن الحقِّ، فأساؤُوا الظنَّ به، فهزائمُ أهلِ الحقِّ فتنةٌ لأهلِ الباطلِ بثباتِهم على باطلِهم؛ وفي هذا يقولُ تعالى:{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]؛ قال مجاهدٌ في معناهُ: "لا تُصِبْنا بعذابٍ مِن عندِك ولا بإيدِيهِم، فيُفتَتَنُوا ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ، ما سُلَّطْنا عليهم ولا عُذِّبُوا"(1).
(1)"تفسير الطبري"(12/ 253).
وأمَّا عن شريعةِ الجهادِ، فقد تقدَّم الكلامُ على زمنِ مشروعيَّةِ القتالِ ومراحلِه، وبعضِ معاني التمكينِ، ووجوبِ الجمعِ بينَ الأسبابِ الشرعيَّةِ والكونيَّةِ للنصرِ، عندَ قولِهِ تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77].
* * *
* قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60].
أَذِنَ اللَّه للمؤمِنينَ بالعقابِ بمِثْلِ ما عُوقِبَ الإنسانُ به، وجعَلَ ذلك حقًّا له، وتوعَّدَ الباغيَ بعدَ ذلك بالهزيمةِ، والمنتصِرَ بالنصرِ؛ وهذه الآيةُ في معنى قولِهِ تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
وقد تقدَّم الكلامُ على الانتصارِ للنَّفْسِ بمِثْلِ ما بُغِيَ عليها عندَ قولِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وسيأتي بيانُ أحوالِ الانتصارِ للنَّفْسِ عندَ قولِهِ تعالى في سورةِ الشعراءِ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227].
ويُروى أنَّ هذه الآيةَ نزَلَتْ في سَرِيَّةٍ مِن الصحابةِ، لَقُوا جمعًا مِن المشرِكِينَ في شهرِ المحرَّمِ، فناشَدَهُمُ المُسلِمونَ لئلا يُقاتِلوهم في الشهرِ الحرامِ، فأبى المشرِكُونَ إلَّا قتالَهم وبغَوْا عليهم، فقاتَلَهُمُ المُسلِمونَ، فنصَرَهم اللَّهُ عليهم؛ روى ابنُ أبي حاتمٍ هذا عن مُقاتِلٍ (1)، ورواهُ ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن ابنِ جُرَيْجٍ (2).
* * *
(1)"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2503).
(2)
"تفسير الطبري"(16/ 620).
في هذا: فضلُ جهادِ اللِّسانِ؛ فهذه الآيةُ مكيَّةٌ، وقد شرَعَ اللَّهُ فيها مجاهَدَةَ الكفارِ بالحُجَّةِ والبيانِ والبرهانِ، وحينَما أمَرَ اللَّهُ بجهادِ اللِّسانِ، وصَفَ النوعَ الذي يأمُرُ به بوصفَيْنِ في كتابِهِ لم يَصِفْ بهما جهادَ السِّنانِ مع عظَمتِهِ وفضلِهِ وجلالةِ قَدْرِه:
الأولُ: أنَّه جهادٌ كبيرٌ؛ كما في قولِهِ تعالى في سورةِ الفُرْقانِ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
والثاني: أنَّه حقُّ الجهادِ؛ كما في هذه الآيةِ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} .
وجهادُ اللِّسانِ أمضَى من جهادِ السِّنانِ لمَن قدَرَ عليه وسدَّدَهُ اللَّهُ.
وقولُه تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} : المرادُ بالأُبوَّةِ: الأبوَّةُ الدينيَّةُ؛ فإبراهيمُ إمامُ الحُنَفاءِ، وهو أبٌ للمؤمِنينَ بهذا المعنى تعظيمًا وإجلالًا، وكما تُطلَقُ الأبوَّةُ على إبراهيمَ بهذا المعنى، فإنَّها تُطلَقُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّما أخَذَتْ أُمَّهاتُ المؤمِنينَ منه الأُمُومةَ، وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ، ومجاهدٍ والحسنِ وقتادةَ:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ)(1).
(1) ينظر: "تفسير الطبري"(19/ 16)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 3115)، و"تفسير القرطبي"(11/ 177)، و"تفسير ابن كثير"(6/ 381).