الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة القلم
سورةُ القلمِ مكيَّةٌ، وقد حُكِيَ الإجماعُ على ذلك، وإنَّما اختُلِفَ في بعضِ آياتِها (1)، وفي هذه السُّورةِ: بيانُ حُجَّةِ اللَّهِ على المشرِكِيِنَ بآياتِهِ وكَلِماتِه، ورَدُّ بُهْتانِهم باتِّهامِ نبيِّه وكتابِه، وكيدِهم ومَكْرِهم عليه وحُجَجِهم الباطلةِ، وذِكْرُ ما ينتظِرُهم يومَ القيامةِ مِن عذابٍ أليمٍ.
* قال اللَّه تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10].
ذكَر اللَّهُ صفةَ بعضِ خصومِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكةَ، وهو كثرةُ الحَلِفِ لإثباتِ باطلِهم وسترِ حُجَّتِهم الضعيفةِ، وكلَّما كانت الحُجَّةُ قويَّةً، كانتْ ناطقةً بإثباتِ نفسِها، لا تحتاجُ إلى أَيْمانٍ مغلَّظةٍ.
وكان في العربِ تعظيمٌ للَّهِ وهم على شِرْكٍ، وكانوا يَمدَحونَ قليلَ الحَلِفِ به، الذي لا يجعلُهُ عُرْضَةً لكلِّ قولٍ؛ كما قال الشاعرُ:
قَلِيلُ الأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ
…
وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ (2)
وقولُه تعالى: {مَهِينٍ} ؛ يعني: ضعيفَ الحُجَّةِ.
وفي هذه الآيةِ: كراهةُ وذمُّ اتِّخاذِ اللَّهِ عُرْضةً عندَ كلِّ قولِ حقٍّ وباطلٍ، بالحَلِفِ والأَيْمانِ، وقد تقدَّم الكلامُ على دلك عندَ قولِهِ تعالى:
(1) ينظر: "تفسير ابن عطية"(5/ 345)، و"زاد المسير"(4/ 318)، و"تفسير القرطبي"(21/ 135).
(2)
البيت لكُثَيِّرِ عَزَّة في "ديوانه"(ص 325).
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224].
* * *
* قال اللَّه تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11].
ذكر اللَّهُ الهَمَّازَ، وهو كثيرُ الوقوعِ بأعراضِ الناسِ تصريحًا وتلميحًا، ذمًّا وقدحًا، وفي هذه الآيةِ تقبيحٌ لوصفَيْنِ:
الأولُ: الغِيبَةُ؛ وهي في قولِه تعالى: {هَمَّازٍ} ، وقد فسَّرها بالغِيبَةِ جماعةٌ مِن السلفِ؛ كابنِ عبَّاسٍ وقتادةَ (1)، وقد تقدَّم الكلامُ على الغِيبةِ وذمِّها، وعظيمِ أثرِها، والأحوالِ الضيِّقةِ التي تجوزُ فيها، عندَ قولِه تعالى في سورةِ الحُجُراتِ:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [12]، وقولِهِ فيها:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [11].
الثاني: النَّمِيمَةُ، وهي كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ، والنميمةُ أعظَمُ مِن الغِيبةِ؛ لأنَّ الغِيبةَ وقوعٌ في العِرْضِ في غَيْبةِ المتكلَّمِ عنه عندَ مَن يَعرِفُه ومَن لا يَعرِفُه، ولا يَلْزَمُ قصدُ التفريقِ، وأمَّا النميمةُ، فهي الوقيعةُ في عِرْضِ أحدٍ عندَ مَن يَعرِفُه بقصدِ التفريقِ بينَهما؛ فأثرُ النميمةِ في إفسادِ الناسِ فيما بينَهم أشدُّ وأعظَمُ مِن الغِيبةِ، والغِيبةُ قد تقعُ مِن فلَتاتِ بعضِ الصالِحِينَ وزَلَّاتِهم؛ ولكنَّ النميمةَ لا تقعُ مِن صالحٍ ولو مِن فلتاتِ لِسَانِه؛ لأنَّ النميمةَ يَسبِقُها قصدٌ خبيثٌ متأصِّلٌ في النَّفْسِ، وهو قصدُ التفريقِ، وهذا القصدُ وحدَهُ لا يُوجَدُ في نفسٍ صالحةٍ، وأثرُ النميمةِ على الإيمانِ شديدٌ؛ ولهذا جاء في الوعيدِ في النَّمَّامِ ما لم يأت في المُغتابِ، بل جاء في النمَّامِ ما لم يأتِ في الكذَّابِ.
(1)"تفسير الطبري"(23/ 159)، و"تفسير ابن كثير"(8/ 191).
وقد جاء في "الصحيحَيْنِ"، عن حُذَيْفةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ)(1).
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرَيْنِ، فقال:(أَمَا إِنَّهُمَا ليُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ، فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ ينْ بَوْلِهِ)(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ )، قَالُوا: بَلَى، قَالَ:(فَشِرَارُكُمُ المُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ)(3).
* * *
* قال اللَّه تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18].
ذكَر اللَّهُ حالَ أصحابِ الجَنَّةِ الذين بَخِلُوا بثمرِهم عن الفقراءِ، فقَصَدوا جَنَّتَهم ليَحْصُدوا حَبَّهم ويَصرِمُوا ثَمَرَهم قبلَ قدومِ الفقراءِ إليهم، وحمَلَهُمْ شِدَّةُ شُحِّهم وطمعِهم على الحَلِفِ على ذلك، ونَسُوا أن يَستثنُوا ويقولوا:(إنْ شاء اللَّهُ)؛ اعتمادًا على الأسبابِ، وغاب عن نفوسِهم مسبِّبُها، وهو اللَّهُ، فحَنَّثَهم اللَّهُ فأهلَكَ جَنَّتَهُمْ؛ كما قال تعالى:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 19 - 20].
وقد قيل: إنَّ الاستثناءَ عندَهم كان تسبيحًا، ولذا قال عن أَوْسَطِهم: إنَّه قال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28]؛ قاله مجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ جُرَيْجٍ (4).
(1) أخرجه البخاري (6056)، ومسلم (105).
(2)
أخرجه البخاري (216)، ومسلم (292).
(3)
أخرجه أحمد (6/ 459)، من حديث أسماء بنتِ يزيد.
(4)
"تفسير ابن كثير"(8/ 196).
وقد فسَّر قولَه في هذه الآيةِ: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} بقولِ: "إنْ شاء اللَّهُ" غيرُ واحدٍ مِن السلفِ؛ كمجاهدٍ وابنِ جُرَيْجٍ (1)، وقال عِكْرِمةُ: لا يَستثنُونَ حقَّ المساكينِ (2).
وقد أخَذ محمدُ بنُ الحسنِ مِن هذه الآيةِ أنَّ القَسَمَ يمينٌ؛ لأنَّ الاستثناءَ لا يكونُ إلَّا في اليمينِ (3)، ولكنَّ الاستثناءَ يكونُ مشروعًا في اليمينِ وفي غيرِها ممَّا يَعزِمُ الرجُلُ على فِعْلِهِ فيَعِدُ أو يُخِبِرُ به، إلَّا أنَّ الاستثناء يُبطِلُ اللازمَ على القَسَمِ كما يُبطِلُ اللازمَ على اليمينِ.
* * *
(1)"زاد المسير"(4/ 323)، و"تفسير القرطبي"(21/ 163)، و"تفسير ابن كثير"(8/ 197).
(2)
"زاد المسير"(4/ 333)، "تفسير القرطبي"(21/ 163).
(3)
"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 7).