الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل من قال: يتوضأ بنية رفع الجنابة
.
الدليل الأول:
الدليل على أن الوضوء في غسل الجنابة، هو غسل في صورة وضوء، وأن تقديمه لأعضاء الوضوء بمنزلة تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، ولم يكن بنية رفع الحدث الأصغر، قوله صلى الله عليه وسلم لأم عطية واللواتي غسلن ابنته:
اغسلنها، وابدأن بمواضع الوضوء منها. متفق عليه
(1)
.
فجعل الأمر موجه للغسل، وجعل ابتداء الغسل إنما هو لمواضع الوضوء، فهو لم يكن وضوءاً بنية رفع الحدث، وإنما كان غسلاً مقدماً فيه أعضاء الوضوء لشرفها.
الدليل الثاني:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الوضوء غسل سائر جسده، ولم يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل كان يكتفي بغسلها في أول الأمر، ولو كان غسله الأعضاء بنية رفع الحدث الأصغر، لاحتاج إلى غسلها مرة أخرى بنية رفع الحدث الأكبر، وإلا فلا يمكن أن ينوي الأصغر، ويرتفع الأكبر؛ لأن الأصغر لا يتضمن الأكبر والعكس صحيح.
(1347 - 220) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بين شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، ورواه مسلم
(2)
.
(1)
البخاري (167)، ومسلم (939).
(2)
البخاري (272)، ومسلم (316).
فقولها: «ثم غسل سائر جسده» أي بقية جسده، وقد ذكر الزبيدي: أن كلمة سائر الناس: أي الباقي من الناس
(1)
.
وله شاهد من حديث ميمونة من رواية مسلم له، في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وفيه:«ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده»
(2)
.
والبخاري رحمه الله لا يرى غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى، بل يتوضأ، ثم يغسل بقية بدنه، قال رحمه الله في صحيحه: ((باب: من توضأ في
(1)
انظر تاج العروس (6/ 489). وفي حديث أبي موسى في البخاري (3411) ومسلم (2431)، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، فمعنى " سائر الطعام " أي على بقيته.
وقال ابن الأثير في النهاية (2/ 327): "والسائر: الباقي، والناس يستعملونه بمعنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء" اهـ
وذكر الزبيدي في تاج العروس (6/ 489) إلى أن في السائر قولين:
الأول: وهو قول الجمهور من أئمة اللغة وأرباب الاشتقاق، أنه بمعنى الباقي، ولا نزاع فيه بينهم، واشتقاقه من السُّوْر، وهو البقية.
والثاني: أنه بمعنى الجميع، وقد أثبته جماعة، وصوبوه، وإليه ذهب الجوهري، والجواليقي، وحققه ابن بري في حواشي الدرة، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأدلة ظاهرة، وانتصر لهم الشيخ النووي في مواضع من مصنفاته، وسبقهم إمام العربية أبو علي الفارسي، ونقله بعضٌ عن تلميذه ابن جني
…
الخ كلامه رحمه الله، ولا مانع أن يكون معنى كلمة (سائر) مشتركاً بين المعنيين، والأصل فيها: أن تكون بمعنى الباقي إلا إن دلت قرينة على أن المراد بمعنى سائر: الكل فيقبل.
(2)
مسلم له (317).
الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يعد غسل مواضع الوضوء فيه مرة أخرى))
(1)
.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الذين نقلوا لنا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه، ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل»
(2)
.
وقال ابن حزم رحمه الله: «وأما غسل الجنابة والوضوء، فإنه أجزأ فيهما عمل واحد، بنية واحدة لهما جميعاً، للنص الوارد في ذلك، ثم ذكر حديث ميمونة من رواية مسلم له، وفيه ((ثم غسل سائر جسده» فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ..))
(3)
.
ويذكر ابن عبد البر أن غسل أعضاء الوضوء في غسل الجنابة ليس من قبيل المستحب، بل هو فرض، ويقصد أن المستحب هو تقديمها في الغسل، وأما غسلها إذا قدمتها فهو فرض؛ لأنه بنية رفع الجنابة، ونية رفع الجنابة فرض.
يقول ابن عبد البر في الاستذكار: «والابتداء بالوضوء في غسل الجنابة يقتضي تقديم أعضاء الوضوء في الغسل سنة مسنونة في تقديم تلك الأعضاء خاصة؛ لأنه ليس في الغسل رتبة، وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض، ولذلك لم يحتج أن يعيد تلك الأعضاء بنية الجنابة؛ لأنه بذلك غسلها، وقدم الغسل لها على سائر البدن»
(4)
.
(1)
كتاب الغسل باب (16).
(2)
مجموع الفتاوى (21/ 397).
(3)
المحلى، مسألة (95).
(4)
الاستذكار (3/ 61).
فقوله: «وليس ذلك من باب السنة التي هي غير الفرض» يقصد بالسنة: الطريقة المشروعة التي يدخل فيها الفرض والمندوب، ونص هنا على أن السنة المقصود بها الفريضة.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: «وأما قوله في حديث عائشة: ((يتوضأ وضوءه للصلاة» فيحتمل أنها أرادت بدأ بمواضع الوضوء، والدليل على ذلك أنه ليس في شيء من الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة أنه أعاد غسل تلك الأعضاء، ولا أعاد المضمضة ولا الاستنشاق، وأجمع العلماء على أن ذلك كله لا يعاد، من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها))
(1)
.
فإذا كان لا يرجع إلى أعضاء الوضوء مرة أخرى، وحكى فيه ابن عبد البر الإجماع، لزم على ذلك أحد ثلاثة أمور:
الأول: أما أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الحدث الأصغر، فيلزم منه أنه لم يغسلها بنية رفع الحدث الأكبر، فيبقى الحدث الأكبر ما زال على أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر أدنى، فهو لا يغني عن الحدث الأكبر؛ لكونه أعلى منه وأشد، والأخف لا يتضمن الأشد.
الثاني: أن يكون غسل أعضاء الوضوء بنية رفع الحدثين، فيقال: هذه دعوى، إذ لو كان هذا شرطاً لرفع الحدث الأصغر، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه القرآن، فلم يذكر في القرآن إلا قوله تعالى:{حتى تغتسلوا} وقال صلى الله عليه وسلم: «خذ هذا فأفرغه عليك» .
الأمر الثالث: أن يكون غسله لأعضاء الوضوء كان بنية رفع الجنابة، وليس بنية رفع الحدث الأكبر، وهذا ما يفسر اكتفاء الرسول صلى الله عليه وسلم بغسلها في الوضوء عن غسلها مرة أخرى عند غسل سائر جسده، وهذا هو المتعين.
(1)
التمهيد (22/ 95).