الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل (في الهبة)
(1)
وَالهِبَةُ مُسْتَحبَّةٌ
(2)
.
وَتَصِح هبةُ مُصحفٍ
(3)
وكُلِّ مَا يَصح
(1)
أصل الهبة: من هبوب الريح، أي مرورها، وهي شرعاً: تمليك جائز التصرف مالاً معلوماً أو مجهولاً تعذر علمه في الحياة بلا عوض بما يُعَدُّ هبة عرفاً، والهبة من عقود التبرعات كالوقف والوصايا.
(2)
إذا قصد بها وجه الله تعالى كالهبة للعلماء والفقراء والصالحين وما قصد به صلة الرحم، ويدل على استحبابها حديث:«تهادوا تحابوا» ، أخرجه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني، ولا تستحب مباهاة ورياء وسمعة فتكره، قاله في الإقناع، قلتُ: وهو غريب لما فيه من صرف العبادة لغير الله تعالى.
(تتمة) أنواع الهبة: في الإقناع: وأنواع الهبة: صدقة، وهدية، ونحلة - وهي العطية -، ومعانيها متقاربةٌ تجري فيها أحكامها، فإن قصد بإعطائه ثوابَ الآخرةِ فقط فصدقةٌ، وإن قصد إكراماً وتودداً ومكافاة - قال البهوتي:(الواو بمعنى «أو»، كما في المنتهى) - فهديةٌ، وإلا فهبة وعطية ونحلة).
(3)
ذكر هذه المسألة تبعاً للإقناع، ولم يذكرها صاحب المنتهى لعدم حاجته إليها؛ لأنه يصحح بيع المصحف للمسلم، بخلاف الإقناع.
بَيْعُهُ
(1)
،
وتنعقدُ بِمَا يدل عَلَيْهَا
(1)
يشترط لصحة الهبة عدة شروط: (الشرط الأول) كون الموهوب يصح بيعه، فكل ما يصح بيعه - كسيارة ودار - تصح هبته، وكل ما لا يصح بيعه - كخمر - لا تصح هبته، إلا المجهول الذي يتعذر علمه فلا يصح بيعه لكن تصح هبته، وأما المجهول الذي لا يتعذر علمه - كالحمل في الحيوان - فلا تصح هبته لكن تصح الوصية به. وما يباح الانتفاع به ولا يصح بيعه - كالكلب وجلد الميتة - فإنه يصح رفع اليد عنه لشخص آخر، ولا يسمى هبة كما ذكر الشيخ منصور، وإنما يكون مما تنقل فيه اليد.
(تتمة)(الشرط الثاني) كون الواهب جائز التصرف، (الشرط الثالث) كون الواهب مختاراً جاداً، (الشرط الرابع) كون الموهوب له يصح تمليكه، فلا تصح الهبة للحمل، وتصح الوصية له بشرط وجوده أثناء الوصية، (الشرط الخامس) كون الموهوب له يقبل ما وُهب له بقول أو فعل في المجلس، والقبول شرط في الهبة والوصية دون الوقف والإبراء من الدين ولو كان بلفظ الهبة، (الشرط السادس) كون الهبة منجزة، فلا يصح تعليقها إلا بالموت، وتكون وصية، (الشرط السابع) ألا تكون مؤقتة، فلا يصح قوله: وهبتك هذه السيارة سَنَةً، لكن تصح هبة الشيء مع استثناء نفعه زمناً معيناً، وتصح الرقبى والعمرى وتكون ملكاً مؤبداً للمُرْقَب والمُعْمَر (استثناء)، (الشرط الثامن) ألا تكون بعوض، وإلا كانت بيعاً، (الشرط التاسع) كون الموهوب مقدوراً على تسليمه، (الشرط العاشر) كون الموهوب عيناً، أما المنافع فلا تصح هبتها على المذهب ولا وقفها، لكن تصح الوصية بها وبيعها.
عُرْفًا
(1)
، وَتلْزم بِقَبضٍ بِإِذنِ واهبٍ
(2)
، وَمن أبرأ غَرِيمَهُ من دينه برِئَ وَلَو لم يقبل
(3)
.
وَيجب تَعْدِيلٌ فِي عَطِيَّةِ وَارِثٍ بأن يُعْطِي كُلًّا بِقدر إرثِهِ
(4)
،
فإن فَضَّلَ
(1)
فلا يشترط لانعقادها لفظ معين، وتصح بكل قول أو فعل يدل على الإيجاب والقبول عرفاً، لكنها لا تلزم إلا بالقبض كما سيأتي.
(2)
فلا بد أن يستأذن الموهوبُ له الواهبَ في قبض الهبة، ولا يشترط اللفظ في الإذن - كما ذكر صاحب الإقناع -، بل يحصل بالتخلية والمناولة، ويستثنى من ذلك: ما إذا كان الموهوب في يد المتَّهَب فتلزم بمجرد اللفظ، فلو كانت سيارة شخص عند آخر، فقال له: وهبتك سيارتي، انعقدت الهبة ولزمت بمجرد ذلك؛ لوجود القبض. ويحصل القبض في الهبة على ما مرّ في قبض المبيع، فإن كان مكيلاً فبكيله، وإن كان موزوناً فبوزنه، ونحو ذلك.
(3)
فمن كان له على غيره دَين فأبرأه منه - بلفظ الإبراء أو الهبة أو الإحلال أو الصدقة - برئت ذمةُ المدين ولو لم يقبل. ويشترط لصحة الإبراء: 1 - كونه منجزاً، فلا يصح تعليقه - كأبرأتك من دينك إذا جاء رمضان - إلا بالموت، 2 - وكونه بعد وجوب الدين، 3 - وألا ينفرد المدين بمعرفة قدر الدين ويكتمه خوفاً من امتناع الدائن عن الإبراء في حال علمه بقدره، فيصح إن كانا يجهلان قدره، أو لا يعلمه إلا الدائن فقط.
(4)
أي: يجب على الإنسان - ذكر أو أنثى - أن يُعَدِّلَ في العطية بين من يرث منه بقرابة كالولد والأم كلٌّ بقدر إرثه منه، فإذا أعطى أحدَهم شيئاً لزمه أن يعطي البقية بمقدار نسبة إرثهم منه لو مات، وكذا لو أعطى أولادَه كلهم ثم حدث له ولد وجب إعطاؤه مثل بقية إخوانه، ويستثنى من التعديل الواجب: الشيء التافه فلا يجب التعديل فيه؛ لأنه يتسامح به، ويستثنى أيضاً: ما لو سمح مَنْ لم يُعطَ.
(تتمة) لا يجب التعديل بين الأقارب الذين يرثون بغير القرابة كالأزواج والزوجات، فلا يجب التعديل بينهم في العطية، فلا يجب على الأم إذا أعطت ابنتها مثلاً أن تعطي زوجها.
(تتمة) أما النفقة والكسوة فالواجب فيها الكفاية دون التعديل، ولو اختلفت، فالبنت مثلًا قد تكلف ملابسها للعيد أكثر من تكلفة ملابس الابن، وهذا ليس فيه تفضيل، بل هو الكفاية، والله أعلم.
سَوَّى بِرُجُوعٍ
(1)
،
(1)
أي: فإن أعطاهم وفضّل بعضهم على بعض حرُم، ووجب عليه أن يرجع على من أعطاه، والرجوع خاص بالأب مع أولاده، أما غيره فلا يجوز له الرجوع في العطية - بعد قبضها - وإنما يسوي بين الورثة بإعطاء من حرمه أو يزيد المفضول ليساويه بغيره. ودليل هذه المسألة حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي خصه أبوه بغلام دون إخوته، فلم يقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:«أَشهِد على هذا غيري» ، رواه مسلم، وله روايات تؤدي معنىً واحداً، وهو تحريم التفضيل، كما ذكر ابن حجر رحمه الله. والنص وارد في الأولاد، لكن كما قال البهوتي في شرح المنتهى:(وقيس على الأولاد باقي الأقارب). والله أعلم.
ولو كان أحد أبنائه باراً به دون الباقين لم يجز تفضيله في العطية؛ لأن ذلك يحدث العداوة بينهم، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه:«أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ » ، قال: بلى.
(تتمة) هل يجوز أن يفضل أحدَ أبنائه لمعنى فيه ككونه مريضاً أو غير موظف ونحو ذلك، أو يمنع بعض ولده لفسقه أو لكونه يعصي الله بما أخذه ونحوه؟
المذهب: لا يجوز، واختار الموفق جواز التفضيل والتخصيص في مثل هذه الحال، قال المرداوي:(وهو قوي جداً)، وذكره في الإقناع الرواية الأخرى بعد تقديم المذهب. والله أعلم. (بحث)
(تتمة) هل يجوز للأب أن يخص أحد أولاده بمنفعة عين كأن يسكنه داراً؟ لا يخلو الحال: (الحالة الأولى) إن كان الولد غير قادر على تحصيل أجرة المسكن ولا ثمنه، فيكون المسكن حينئذ من النفقات الواجبة على الأب، فلا تدخل في العطية الممنوعة.
(الحالة الثانية): أن يكون الولد في حال يستطيع أن يؤجر لنفسه من ماله، ومع ذلك أسكنه أبوه في شَقة له دون بقية إخوانه، فهل هذا من العطايا التي يجب فيها التعديل؟ ظاهر المذهب: هو من العطايا ولا يجب فيها التعديل، ويجوز للأب أن يعطي أحد أولاده منفعة داره؛ لأنهم جوَّزوا الوقف على بعض الأولاد دون بعض، وفَصَّلوا: إن كان الوالد أوقف على بعض أولاده لحاجته فيجوز، وإلا فيكره، والوقف في حقيقته تمليك منفعة دون رقبة الوقف فالملك فيه قاصر وليس تاماً، فيكون الحكم في هبة المنفعة لبعض الأولاد كالوقف على بعضهم بالتفصيل السابق فليحرر، والله أعلم. (بحث)
وإن مَاتَ قبله ثَبت تفضيلُهُ
(1)
.
(1)
أي: وإن مات قبل التسوية ثبت للمفضَّل ما فُضل به، فليس للورثة الرجوع عليه، وهذه مقيدة بما إذا لم تكن العطية بمرض الموت للمعطي، فإن كانت: توقفت كلها على إجازة الورثة؛ لأنها تكون كالوصية.
وَيحرُمُ على واهبٍ أن يرجِعَ فِي هِبتِهِ بعدَ قَبْضٍ
(1)
، وَكُرِه قَبْلَه
(2)
إلا الأب
(3)
.
(1)
يحرم ولا يصح الرجوع في العين الموهوبة ولا في قيمتها. والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» ، متفق عليه.
(2)
أي: يكره رجوع الواهب في الهبة قبل أن يقبضها الموهوب له كأن يقول له: وهبتك ألف ريال ثم يقول - قبل أن يعطيها إياه - رجعت؛ فيكره، وقد تابع المصنف في هذا صاحب الإقناع - ومثله الغاية - خروجاً من خلاف من قال: إن الهبة تلزم بالعقد، انظر الكشاف 10/ 124. أما صاحب التنقيح - وتابعه المنتهى - فلم ينص على الكراهة، ولعل المذهب: الكراهة، فليحرر، والله أعلم. (مخالفة الماتن)
(3)
هذا هو المستثنى الأول من تحريم الرجوع: فللأب أن يرجع فيما وهبه لولده بأي لفظ من ألفاظ الرجوع عَلِم الولد أو لم يعلم، والمقصود بالأب هنا: الأب القريب - كما في الإقناع - دون الأم والجد. ويشترط لجواز رجوع الأب في عطيته لولده أربعة شروط: 1 - ألا يُسقط الأب حقه من الرجوع فيما وهبه لولده، فإن أسقطه سقط - على ما في المنتهى وتابعه الغاية -، وذهب صاحب الإقناع إلى أنه يرجع ولو أسقط حقه من الرجوع (مخالفة)، 2 - وألا تزيد العين الموهوبة زيادة متصلة، 3 - وأن تكون العين الموهوبة باقية في ملك الولد، 4 - وألا يرهنها الولد.
مسألة: ما الحكم التكليفي في رجوع الأب فيما وهبه لولده بعد أن أقبضه إليه؟
ظاهر كلام صاحب «كشف المخدرات» : الكراهة حيث قال: (وكره رجوع فيها قبله - أي: القبض - سواء كان الواهب أباً أو غيره)، وصرح ابن جامع في «الفوائد المنتخبات» بعدم الكراهة حيث قال:(إلا الأب فله أن يرجع في عطيته قبله - أي: قبل القبض - أو بعده بلا كراهة؛ لحديث طاووس عن ابن عمر وابن عباس مرفوعاً: «ليس لأحد أن يعطي عطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده»، رواه الترمذي وحسنه انتهى). قلتُ: وهو أظهر وأشبه بكلام الأصحاب، والله أعلم. (خلاف المتأخرين)
(تتمة) المستثنى الثاني من تحريم رجوع المعطي في عطيته: مَنْ وهبت زوجَها شيئاً بمسألته إياها ثم ضرها بطلاق أو تزوج عليها فلها أن ترجع فيما وهبته له، وإن وهبته تبرعاً من غير سؤاله لها فليس لها الرجوع نصاً.
وَله أن يتَمَلَّك بِقَبضٍ مَعَ قَولٍ أو نِيَّةٍ من مَالِ وَلَده
(1)
غير سُرّيةٍ
(2)
مَا شَاءَ
(3)
مَا لم يضرَّهُ
(4)
، أو ليُعْطِيَهُ لِوَلَدٍ آخر
(5)
، أو يَكُنْ بِمَرَضِ موتِ
(1)
أي: يجوز للأب خاصة - لا الأم والجد كما في الإقناع وشرح المنتهى - أن يتملك من مال ولده، خلافاً للجمهور، ودليل الحنابلة قوله صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك» ، أخرجه ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه، لكنهم يشترطون لجواز ذلك ستة شروط:(الشرط الأول) أن يتملك بقبضٍ مع قول أو نية، كأن يأخذ الشيء من ولده ويقول: تملكته، أو يقبضه بنية تملكه.
(2)
هذا مستثنى: فليس للأب تملك أَمَة ولده.
(3)
سواء كان الولد صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أثنى، راضياً أو ساخطاً، عالماً بما أخذه أبوه أو غير عالم به، وسواء كان الأب محتاجاً أو غير محتاج.
(4)
(الشرط الثاني) ألا يتضرر به الولد، فإن تضرر أو تعلقت به حاجته حرم.
(5)
(الشرط الثالث) ألا يأخذ الأبُ من مال ولده ليعطيه لولد آخر؛ لأنه لا يجوز له أن يفضل أحد أولاده بإعطائه من ماله هو، فهنا أولى وأدعى للشحناء والعداوة بين الإخوة.
أحدِهما
(1)
، أو يكُن كَافِرًا وَالابْنُ مُسلماً
(2)
.
وَلَيْسَ لولدٍ وَلَا لوَرثَتِهِ مُطَالبَةُ أبيهِ بدَينٍ
(3)
وَنَحْوِهِ بل بِنَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ
(4)
.
(1)
(الشرط الرابع) ألا يكون تملكه من مال ولده بمرض موت أحدهما المخوف.
(2)
(الشرط الخامس) اتفاق دين الأب والولد.
(تتمة)(الشرط السادس) كون ما يتملكه الأب عيناً موجودة عند الولد - ولم يذكره الماتن -، فلو كان للولد دَين على غيره لم يجز للأب تملكه.
(3)
أي: يحرم على الولد أن يطالب أباه - بخلاف الأم والجد، فله مطالبتهما كما قرره النجدي - بدَينه ونحوه كقرض وثمن مبيع وقيمة متلف، والعبارة:«ليس لفلان فعل كذا» تفيد التحريم. والظاهر أن المراد بالمطالبة المحرمة هنا: رفع دعوى ضده في المحكمة، قال في الغاية:(وليس لولد الصلب، ولا لورثته مطالبة أب، فلا يملك إحضاره بمجلس الحكم)، فلا يسمعها القاضي، لكن يجوز أن يطلب حقه منه في غير المحكمة بأسلوب يليق بمقام الأبوة، فليحرر. (بحث)
(تتمة) ذكر الخلوتي: (تحريم مماطلة الأب لولده بدَينه إن كان الأب موسراً)، وفي المنتهى: (ويثبت له - أي: للولد - في ذمته الدَّين ونحوه
…
ولا يسقط دينه الذي عليه بموته).
(4)
هذا المستثنى الأول من تحريم مطالبة الولد بدينه من أبيه: فللولد أن يدعي في المحكمة على أبيه للمطالبة بالنفقة الواجبة إن كان الولد عاجزاً عن التكسب أو فقيراً، وزاد صاحب الوجيز:(وله حبسه عليها)، وذكره في الإقناع عنه، وجزم به في الغاية، وفي زاد المستقنع.
(تتمة) المستثنى الثاني: للولد وورثتِه مطالبةُ الأب بعين المال الذي له عند أبيه - كسيارة مثلاً -، وهو مقيد بما إذا لم يتملكه الأب بالشروط المتقدمة. والله أعلم.
وَمَن مَرَضُهُ غيرُ مَخُوفٍ تصرفُهُ كصحيحٍ
(1)
، أو مخوفٌ كبِرسامٍ أو إسهالٍ متدارِكٍ، وَمَا قَالَ طبيبان مسلمان عَدْلَانِ عِنْد إشكالِهِ أَنه مخوفٌ
(2)
لَا
(1)
سيتناول المصنف تصرفات المريض، والأمراض ثلاثة أنواع:(النوع الأول) المرض غير المخوف، فمن مرض مرضاً لا يخشى منه الموت، ولا يغلب على الظن أن يموت الإنسان منه كالصداع والحمى اليسيرة والزكام، فإنّ تصرفه صحيح ولو مات بعد ذلك من المرض.
(2)
(النوع الثاني) المرض المخوف، وهو الذي يغلب على الظن الموت منه، ويذكر الفقهاء بعض الأمراض التي كانت تعتبر مخوفة في عصرهم، وإن كان الناس الآن لا يموتون منها غالباً. والأمراض المخوفة عند الحنابلة قسمان:
[القسم الأول] أمراض معدودة يذكرونها، ومنها: 1 - البرسام، وهو بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل العقل بسببه، 2 - والإسهال المتدارك، وهو الذي لا يستمسك ولا ينقطع، فيعتبر في عصرهم مخوفاً، 3 - والفالج، وهو الشلل، فهو في ابتدائه مخوف؛ لأن الشخص لما يصاب بجلطة قد يتوقف قلبه، لكنه في انتهائه لا يكون مخوفاً.
[القسم الثاني] مرض ليس مما عدوه في القسم الأول، لكن قال فيه طبيبان مسلمان عدلان عند إشكاله: إنه مخوف، وقوله: عند إشكاله: أي: عند الاختلاف هل هو مخوف أو لا، فيرجع فيه إلى قول طبيبين مسلمين.
ويُلحق الحنابلة بالمرض المخوف: ما كان مثله في توقع التلف كمن كان في لجة البحر وقت الهيجان، ومن وقع الطاعون ببلده، والحامل عند الطلق.
يلْزمُ تبرُّعُه لوَارثٍ بِشَيءٍ، وَلَا بِمَا فَوقَ الثُّلُثِ لغيرِهِ إلا بِإِجَازَة الوَرَثَةِ
(1)
.
وَمن امتد مَرضُهُ بجذامٍ وَنَحْوِهِ وَلم يقطعه بفراشٍ فكصحيح
(2)
،
وَيُعْتَبرُ عِنْدَ الموْتِ كَونُهُ وَارِثاً أوْ لَا
(3)
. ويُبدَأُ بالأَوَّلِ فالأَوَّلِ
(1)
فتبرع المريض مرضاً مخوفاً صحيح لكنه غير لازم، فإذا تبرع لمن يرثه بشيء - ولو قلّ - لم يلزم إلا بإجازة وموافقة الورثة، وإن تبرع لغير وارث بثُلث ماله فأقل صح ولزم، وبأكثر من الثلث يلزم منه الثلث ولا ينفذ ما زاد على الثلث إلا بإجازة الورثة.
(2)
(النوع الثالث) الأمراض الممتدة: والمراد بها: الأمراض التي يصاب بها الإنسان وتمتد معه أي: يعيش مصابا بها، ولا يبرأ منها في الغالب إلا إذا أراد الله، ومنها: 1 - الجذام، ويقال إنه مرض تسقط معه الأعضاء، 2 - والفالج في دوامه لا في انتهائه، فبعد ثبوت الشلل في عضو - معين - أو أكثر يكون مرضاً ممتداً.
فمن قَطَعَه مرضُه الممتدُّ بفراش - أي: ألزمه الفراش - فإن حكم تصرفه كتصرف المريض مرضاً مخوفاً، وإن لم يقطعه بفراش - فيذهب ويعود - فتصرفه لازم كالإنسان الصحيح.
(تتمة) في الإقناع: (والهرم إن صار صاحب فراش فكمخوف)، أي: كالمريض مرضاً مخوفاً.
(3)
تقدم أن بعض الأحكام تتأثر بكون الموهوب له وارثاً أو غير وارث، وإنما العبرة في ذلك بوقت موت الواهب لا وقت العطية، أي: يُنظر في حال الموهوب له - هل هو وارث أو ليس بوارث - عند موت الواهب. فلو كان لشخص ابن وأخوة، فوهب لأحد إخوته ثلثَ ماله في مرضٍ مخوفٍ، فإنه يصح؛ لأنه غير وارث له، لكن لو مات الابن أولاً ثم مات الواهب المريض، فإن الأخ يكون وارثاً عند موت الواهب فيقف كل ما وُهب له على إجازة الورثة. ولو كان للمريض أخ وارث ووهب له ثلث ماله ثم وُلد للمريض ابنٌ قبل موته، فإن الثلث ينفذ؛ لكون الأخ غير وارث وقت موت الواهب.
بِالعَطِيَّةِ
(1)
، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا
(2)
، وَيعْتَبَرُ قَبُولُهَا عِند وجُودِهَا
(3)
، وَيثبُتُ الملكُ فِيهَا من حينِها
(4)
.
(1)
تفارق العطيةُ في مرض الموت الوصيةَ في أمور: (الفرق الأول) يُبدأ بالأول فالأول في العطية، فإن استغرق الأول الثلث سقط من بعده، أما الوصية فيسوى فيها بين المتقدم والمتأخر، وإن تزاحموا دخل النقص على الجميع.
(2)
(الفرق الثاني) لا يصح الرجوع في العطية بعد لزومها - أي: بعد قبضها -، أما الوصية فيصح للموصي الرجوع فيها قبل موته.
(3)
(الفرق الثالث) يعتبر قبول العطية عند وجودها من المعطي - وهو هنا: المريض مرضاً مخوفاً -، أما الوصية فلا حكم لقبولها في حياة الموصي، وإنما يصح قبولها بعد موته.
(4)
(الفرق الرابع) يثبت الملك في العطية من حينها، أي: وقت العطية، أما الوصية فلا يثبت الملك فيها إلا بقبولها بعد الموت.
(تتمة) الملك في العطية من حين الإعطاء؛ لكنه ملك مراعى؛ لأنا لا نعلم هل هو مرض الموت المخوف أم لا؟ ، ولا نعلم هل يستفيد المعطي مالاً أو يتلف شيء من ماله، فإذا مات وخرجت العطية من ثلثه عند موت المعطي تبينا أن الملك كان ثابتاً من حين العطية لعدم المانع.
وَالوَصِيَّةُ بِخِلَافِ ذَلِك كلِهِ
(1)
.
(1)
أي: في الأحكام الأربعة المتقدمة. والله أعلم.
(تتمة) ما تتفق فيه الوصية والعطية: قال البهوتي في الكشاف: (حكم العطية في مرض الموت حكم الوصية في أشياء كما تقدم منها: أنه يقف نفوذها على خروجها من الثلث، أو إجازة الورثة، ومنها: أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة الورثة، ومنها: أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة، ومنها: أنها تتزاحم في الثلث إذا وقعت دفعة واحدة كتزاحم الوصايا، ومنها: أن خروجها من الثلث يُعتبر حال الموت لا قبله ولا بعده).