الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا عن النظم الانتقالية التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم عند مجيئه إلى يثرب أي: المدينة، وقلنا: أن هذه النظم الانتقالية كانت تتمثل في نظام المؤاخاة. ثم أيضًًا في نظام المهاجرين، والأنصار.
النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة
لكن أيضًًا هناك نظم أساسية كونها النبي صلى الله عليه وسلم تكونت هذه التنظيمات الأساسية التي وضعها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لجماعة المؤمنين في المدينة تكون هذه التنظيمات الينابيع الدافقة التي استمدت منها النظم الإسلامية ما اتسمت به من أصالة، وقدرة في نفس الوقت على التأقلم مع متطلبات التطور والنمو؛ إذ استهدف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من هذه التنظيمات جعل جماعة المؤمنين نواةً طيبةً لمجتمعٍ جديد، رسالته الجهاد في سبيل نشر الإسلام، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، واستطاع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يحقق تلك الأهداف في أعقاب هجرته إلى المدينة؛ نتيجة إقرار النظم الأساسية التالية:
أولًا: إقرار نظام الدولة والقانون بدلًا من القبيلة والعرف؛ إذ هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومعه تجربة عملية عما ساد مكة من نظامٍ قبليٍّ فاسد، وعصبية عمياء حالت بين القبائل، وبين الوحدة، والتعاون؛ ولذلك جهد عليه الصلاة والسلام على أن يحول بين هذه الآفات القبلية، وبين امتدادها إلى جماعته الجديدة في المدينة، وهي ما زالت في فجر حياتهًا؛ ومن ثم اتخذ الدين والعقيدة أساسًًا لجمع المسلمين من مهاجرين وأنصار، في دولة يرى أفرادها في دينهم الجديد رباطًًا وثيق العرى، وأشد قوة من الروابط القبلية.
ودعم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظام على أساسٍ جديدٍ أيضًًا، وهو القانون القائم على الشريعة بدلًا من العرف القبلي، وما التزم به ذلك العرف من عصبية مهلكة،
وحفلت صور القرآن الكريم التي نزلت على الرسول في المدينة بالتشريعات التي شدت من أزر الدولة الإسلامية الوليدة، وخلقت منها قوةً متحركة حيوية، قادرةً على أن تتفوق على ما حاط بها من مجتمعٍ قبليٍ جامدٍ راكدٍ.
ومن النظم الأساسية أيضًًا التي، وضعها النبي صلى الله عليه وسلم اعتبار نظام المواطنة، وحقوقها أساسه الهجرة لمقاومة الباطل بدلًا من العصبية القبلية، فالولاء للدولة الإسلامية الجديد، والتمتع بحقوق المواطنة فيها أساسه الهجرة إليها، والاقتداء بما قام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مواطن الشرك، والضلالة القبلية إلى وطن الهدى، ونصرة الدين، وكرامة الإنسان، ونزلت الآيات القرآنية التي تؤكد هذا النظام الجديد في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: من الآية: 97) وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلًايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال: من الآية: 72)، وبدأت فكرة المواطنة بمعناها المثالي ترتبط بالدولة الإسلامية الوليدة، وتدعم الروابط بين أبنائها على أسس راسخة متينة.
ومن النظم الأساسية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أيضًًا إقرار نظام الشورى؛ لتقوية روح الجماعة الجديدة، وتدريبها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية؛ فالتشريع السماوي الذي جاء به القرآن الكريم لا يعني حرمان الناس من المشاركة في تنظيم أمورهم، وإنما يفتح هذا التشريع كافة السبل أمام أعضاء الدولة الجديدة لإبداء الرأي في جميع المسائل -وبخاصةٍ ذات الأهمية العامة.
وأوضحت الآيات القرآنية ضرورة الشورى يقول تبارك وتعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: من الآية: 159)، وفي قوله تعالى مؤكدًا أهمية
هذا النظام في حياة أفراد الدولة الجديدة يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: من الآية: 38)، وأتاح نظام الشورى في الدولة الجديدة أن يكون نموذجًا للارتباط الوثيق بين الحاكم -مهما كانت وظيفته- وبين المحكوم مهما كان دوره في الدولة، فالجميع -وفق نظام الشورى- شركاء في بناء حياتهم، وتكييف أمورهم حسب المصلحة العامة، وبما يتفق وتطور الزمان والمكان.
وصار نظام الشورى أهم مقياسٍ حرص المسلمون طوال تطور دولتهم على الاعتماد عليه لمعرفة مدى سلامة هذا التطور، وبعده عن الانحراف والأخطاء، وحقق نظام الشورى الانطلاق السليم للدولة الإسلامية الفتية؛ حيث أتاح لأبنائها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ممارسة حقوقهم، وواجباتهم، والتعبير عن الروح الديمقراطية التي سبق أن فطر عليها العربي بأسلوبٍ أوسع، وأكثر دقةٍ، ونظام.
ومن المبادئ الأساسية أيضًًا التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: إقرار نظام المسجد؛ ليكون مركزًا لاجتماع أبناء الدولة الجديدة، لا من أجل شئونهم الدينية فحسب، ولكن ليكون مقرًًا لتصريف شئونهم العامة والخاصة، ومقرًا أيضًًا للسلطان الجديد، وما يرتبط به من مظاهر، وما يصدر عنه من أفعالٍ، وكان نظام المسجد الذي وضعه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نظامًًا مبسطًا في مبناه ومعناه، ولكن صار بتطور الدولة الإسلامية نموذجًا احتذاه المسلمون سواء في فن عمارة المساجد، أو في ميدان الحياة العامة.
واجتهد المسلمون على تقليد هذا المسجد طوال تطور دولتهم حريصين على الإبقاء على قواعده الأساسية، وغدت التشريعات التي أعلنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من هذا المسجد ينبوعًا حرص المسلمون على أن ينهلوا منه مع تلمس الهداية،
والإرشاد مما صاحبه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود، ورسم لجماعة المسلمين كل ما يهديهم سواء السبيل.
ومن التنظيمات -المهمة للغاية- في المدينة، والتي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم هو الدستور الدائم، أو الصحيفة -كما يطلق أو كما يطلق عليه عند البعض- التي كتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم كيفية سير التنظيم الجديد في الدولة في المدينة، وبين صلى الله عليه وسلم في هذه الوثيقة، أو في هذا الدستور حقوق، وواجبات كل من في هذه الدولة، نقول: وتبلورت النظم الأساسية والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لإقرار العلاقات ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم، وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًًا، وصار هذا الدستور -الذي اشتهر باسم الصحيفة- صار أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوعٍ من ينابيع النظم الإسلامية التي صاحبت تطور هذه الدولة، واتساعها على مر العصور.
وأقر هذا الدستور النظم، والمبادئ الهامة التالية:
أولًا: بالنسبة لمفهوم الأمة، وحقوق المواطنة:
1 -
عرف الدستور الأمة تعريفًا لا يستند إلى الأسس والنظم القبلية، وما اقترن بها من العصبية والنسب، وإنما قرر أن الأمة تضم كل من اعتنق الدين الجديد، دون نظرٍ إلى أصله، أو قبيلته، وجاء هذا المبدأ عنصرًا هامًًا جعل الأمة الجديدة أمة مرنة قابلةً للاتساع، وضم شعوبًا كثيرة إلى رحابهًا، وتجلى هذا المفهوم الجديد للأمة في مقدمة الدستور، حيث قررت أن المؤمنين، والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحقهم بهم، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.
2 -
أكد الدستور أن هذه الأمة لا تعترف بتمايز طبقي، أو استغلالٍ فردي على نحو ما ساد النظم القبلية، وإنما مهد السبيل لإذابة الفوارق بأن جعل القبائل تشكيلًا اجتماعيًا لخدمة الأمة الجديدة؛ فظلت الأفخاذ، والقبائل أعضاء في الأمة، ولكن وفق المفهوم الجديد للدولة الإسلامية حيث اعتبر المهاجرون مثلًا فخذًًا واحدا شأنهم شأن الأفخاذ الأخرى، واقتصرت مهمة تلك الأفخاذ، والبطون على تسهيل مهمة الفرد في دفع الديات، وفداء الأسرى، أي: حدد الدستور العلاقة بين الأمة، والقبائل تحديدًا جديدًا قوامه خدمة مطالب هذه الأمة، وتقديم مصلحتها على أي مصلحة فردية، وأوضح الدستور بكل فخذٍ على حدة نوعَ الالتزامات المفروضة عليه، حسب وضعه في الأمة الجديدة، ودون تمييز بينها.
3 -
حدد الدستور حقوق وواجبات الأمة الفتية لتشكيلها الجديد على الأسس التالية:
التراحم والتعاون بين أبنائها في شتى النواحي، وبخاصة أولئك الذين أثقلتهم الديون، وضرورة مساعدتهم على التخلص من أعباء تلك الديون.
أيضًًا تحديد مسئولية الفرد، وتنظيم روابطه مع أهله وجيرانه من حيث الولاء، وذلك بما يتفق وأوضاع الدولة ونظامها الجديد.
سيادة القانون والإجراءات التنفيذية: ونظمت الصحيفة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون، وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية؛ فإذا أخل أحد بالأمن، أو ارتكب عملًا فاحشًا؛ فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة -ولو كان ولد أحدهم.
وارتبط بسيادة القانون تحويل الثأر إلى عقوبة، بمعنى أنه عمل يقع على عاتق الأمة، بعد أن كانت الأفخاذ والعشائر تقوم به طبقًًا للنظام القبلي الباطل، واحتفظ القانون للفرد في نفس الوقت بالحق في تقرير نوع العقوبة بالاتفاق مع المعتدى عليه من حيث توقيع العقوبة، أو قبول الفدية مثلًا، ومما جاء بهذه الصحيفة تقرير حرية الأديان، وتحديد علاقة الدولة بأتباعها.
أوضحت الصحيفة مبدءًا هامًّا من مبادئ الدولة الجديدة، وهو إقرار حرية الأديان السماوية، وأن أتباعها يعتبرون مواطنين، لهم حق التمتع بحماية الدولة، وفق الشروط التي تضمنها الدستور الجديد، ولما كانت القبائل اليهودية وبطونها أهم عنصرٍ من عناصر السكان في الدولة الإسلامية الجديدة بيثرب؛ فإن الصحيفة نصت في جلاءٍ على ما له من حقوق، وواجبات، سواء بالنسبة لجيرانهم من المواطنين المسلمين، أو بالنسبة للدولة وسلطانها، وذلك على النحو التالي:
قررت الصحيفة حرية الدين لليهود، ولقبائلهم، ولبطونهم التي سبق أن تحالفت معها بطون الأوس، والخزرج، ولكن مع ضرورة مراعاة حقوق المواطنة بالابتعاد عن الإخلال بالنظام، أو استغلال حماية الدولة لارتكاب جرائم، وآثام، وأكدت الصحيفة أن العقاب سيكون من جنس العمل، وأنه يقع على الفرد، أو آل بيته حسب التكييف القانوني للجريمة.
ونظمت الصحيفة أيضًًا حقوق اليهود، وواجباتهم في الاشتراك مع المسلمين في الحروب، والدفاع عن الدولة الجديدة ضد أي خطرٍ خارجي، فإذا كانت الحرب
دفاعية فإن كل طرفٍ يتحمل نفقته، أما في الحرب الهجومية؛ فلا ينتظر طرف مساعدة الطرف الآخر.
وأيضًا حددت الصحيفة موقف اليهود باعتبارهم من سكان يثرب مع قريش العدو الرئيسي للدولة الإسلامية الجديدة؛ فقررت ضرورة اشتراك اليهود في الدفاع عن يثرب إذا هاجمتها قريش، وأن عقد الصلح مع قريش، أو عقد أي اتفاقٍ معها يتطلب الموافقة أولًا من السلطة المركزية متمثلة في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أيضًًا أتاحت الصحيفة تطبيق نفس الشروط، ليس على اليهود المخالفين للأوس، والخزرج فحسب، بل على القبائل اليهودية الكبرى إذا رغبت في ذلك، وأكدت الصحيفة عدالتها في معاملة اليهود بأنها لن تأخذهم جميعًا بجريرةٍ فردية، وإنما ستعامل كل جماعة منهم حسب ما يبدر منهم.
وتحدثت الصحيفة عن سيادة الدولة، وإقرار مظاهر تلك السياسة، وتوجت الصحيفة شروطها بإقرار النظم الخاصة بسيادة الدولة، وبيان حقوق رأس تلك الدولة، وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتمثلت قواعد سيادة الدولة فيما يلي:
1 -
اتحاد السكان جميعًا لدفع أي عدوان يمس سيادة الدولة سواء أصاب هذا العدوان فردًًا، أو مجموعة تتصل أعمالها، أو مهامها بشئون الدولة، وأمنها، وكان هذا النظام أهم قواعد الدولة الجديدة، وأسباب تفوقها على أعدائها المحيطين بها من أتباع النظم القبلية؛ إذ غدت سيادة الدولة سياجًًا يحمي المواطنين جميعًا، ولزامًًا يجعلهم صفًا واحدا في معالجة الأخطار التي تواجههم.