الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(الإمامة)
1 -
تابع الحقوق والحريات في النظام الإسلامي وبعض قواعد النظام السياسي في الإسلام
مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية
"
ونتحدث الآن عن أساس مشروعية واجب الأمة في الرقابة، فنقول:
قد تضافرت النصوص في الفقه الإسلامي على تأكيد واجب الأمة، وسلطتها في الرقابة على الحكام، كما أن الإجماع انعقد على وجوب هذا الإلزام، فوق أن التطبيق العملي في عهد الخلفاء الراشدين الأول قد كفل هذا الحق، ومن هذه النصوص وتلك التطبيقات يستبين لنا بجلاء ووضوح:
أن حق الأمة في الرقابة على الحكام ليس حقًّا للأمة الإسلامية، تملك الحرية في أن تمارسه أو لا تمارسه، كما أنه ليس مندوبًا يحسن إتيانه وعدم تركه، وإنما هو من الفروض الحتمية، أي أن الرقابة على السلطات إنما هو من الفروض الحتمية التي تتعلق بأصول الإيمان، وليس للأمة الإسلامية أن تتخلّى عنه أو تتهاون فيه، وهذا نجد أثره أو نجد سنده في القرآن الكريم، فيقول الله تبارك وتعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: الآية: 104).
ويقول الله تبارك وتعالى على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: الآية: 17).
ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} (آل عمران: من الآية: 110).
ويقول سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 113 - 115).
وأيضًا لو رجعنا إلى السنة النبوية، فسنجد أن الفقهاء ذكروا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله يقول: لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم)).
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة، حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه)).
وقد أجمع الفقهاء على وجوب كفالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يخالف في ذلك أحد.
وإلى جانب النصوص التي أوجبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي ذكرناها من الكتاب ومن السنة، والتي نستدل منها على تقرير الشريعة الإسلامية لسلطة الأمة في الرقابة على أعمال السلطات الحاكمة، فإن التطبيق العملي في عهد الخلافة الراشدة قد كفل هذا الوجه:
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يؤكّد حق الأمة في الرقابة عليه، ومساءلته بصورة قاطعة وواضحة، فيقول رضي الله عنه: "أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم،
فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
ويقول رضي الله عنه: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني".
وكما نهج أبو بكر في الاعتراف للأمة بسلطة الرقابة على الخليفة إذا حاد عن الحق، أو خالف القانون الإسلامي، كذلك نهج عمر رضي الله عنه فقد اعترف بحق الأمة في ممارسة الرقابة عليه، وفي هذا النطاق يروى عنه رضي الله عنه:"ألا إن رأيتم في اعوجاجًا فقوموني" وقد ردّ عليه أحد المسلمين قائلا له: "والله، لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا" ويعقب عمر على ذلك بقوله: "الحمد لله الذي وجد في المسلمين من يقوم عمر بحد السيف".
كما أن عمر يشجع الأمة في ممارسة الرقابة على الحكام، فيقرر أن أحب الناس إليه من رفع إليه عيوبه، وقد قال له أحد المسلمين:"اتق الله يا أمير المؤمنين" وحينما اعترض أحد الجالسين على ما يقوله ذلك الرجل لأعظم وأعدل خليفة معترضًا عليه قائلا: "أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! " عندئذٍ نهر عمر هذا الرجل، وقال له:"نَعَم، نِعم ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها" وكان عمر يعتبر نفسه كأي واحد من الرعية، إلا أنه يختلف عنهم في عظم مسئوليته، وأنه أكثرهم عبئًا، وإذا تكلم أحد الرعية معه في مسألة من المسائل، أو سلك العمر مسلكًا، توهم البعض مخالفته للشريعة، فإنه يفسح صدره لأي نقد أو محاسبة له من آحاد المسلمين.
ويروى أن عمر بن الخطاب جاءته برود -نوع من الملابس- من اليمن، فوزعها بالتساوي على المسلمين، وحصل كل واحد من المسلمين على بردية منها، وأخذ
عمر بنصيبه أيضًا من هذه البرود كأي واحد من المسلمين، ولما لبس عمر قميصَه وصعد على المنبر يدعو الناس إلى الجهاد، ويطلب منهم السمع والطاعة، فقام إليه أحد المسلمين وقال:"لا سمع ولا طاعة" قال عمر: لم ذلك؟ قال: "لأنك استأثرت علينا" قال عمر: بأي شيء استأثرت؟ قال: "إن الأبراد اليمنية -يعني الملابس التي جاءتنا ووزعتها- لمّا فرّقتها حصل كل واحد من المسلمين على برد منها، وكذلك حصل لك -يعني أنت أخذت أيضًا مثلنا- لكن البرد الواحد لا يكفيك ثوبًا، ونراك قد فصلته قميصًا تامًّا، وأنت رجل طويل، فلو لم تكن قد أخذت أكثر منه لما جاءك منه قميص. فكأن هذا الرجل يعترض على عمر بن الخطاب ويقول له: أنت أخذت مثلنا قميص، كل واحد وزعت عليه قميص، والمفروض أنك أخذت قميص مثلنا، لكن القميص الذي أخذته لا يكفيك: فكيف لبسته الآن؟ معنى ذلك أنك أخذت أكثر منا، يتهم عمر بن الخطاب بذلك، وهو فرد من آحاد المسلمين، وهنا التفت عمر إلى ابنه عبد الله، وقال: يا عبد الله، أجبه عن كلامه. يعني رد على هذا الذي يتهمني أنني أخذت من الأقمشة أكثر منه وأكثر من المسلمين. يا عبد الله، أجبه عن كلامه. فقام عبد الله وقال: إن أمير المؤمنين عمر لمّا أراد تفصيل بردٍ لم يكفِه فناولته من بردي ما تممه به. يعني أنا أعطيت والدي عمر جزءًا من البرد الذي يخصني؛ ولذلك أصبح قميصًا كاملًا له. وهنا قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة.
فالمسلمون قد مارسوا كل مظاهر الرقابة، ولقد اعترف عثمان بنفسه بحق المسلمين في ذلك -كما رأينا قبل ذلك- ولقد كان من نتيجة إعمال هذه الرقابة من علماء الأمة؛ أن تعرض الكثير منهم للقتل والتعذيب، ولم يكن القتل إلا نتيجة ممارستهم لواجب الرقابة، وما يقومون به من أقوال، وما يمارسونه من واجبات حتمها عليهم الشارع، يعني هذا العمل -وهو الرقابة على السلطات الحاكمة-
نقول: لم يتوانَ المسلمون عن القيام بها، على الرغم من أن قيامهم بواجب الرقابة كان يعود عليهم بالضرر، فقد قتل بعضهم بسبب هذه الرقابة، وبسبب اعتراضه على أفعال الحاكمين المخالفة للشرع، وحبس بعضهم، وضرب بعضهم، لكن مع ذلك لم يمتنعوا عن ممارسة هذه الرقابة؛ على أساس أن هذه الرقابة إنما هي من الأمور الواجبة عليهم.
وهنا نريد أن نتحدث عن -يعني- شروط من يمارس الرقابة، يعني إذن قلنا بأن الرقابة إنما هي من الأمور الواجبة على المسلمين، لكن: هل هناك من شروط في الذي يمارس هذه الرقابة؟
نعم؛ لابد من شروط في الذي يمارس هذه الرقابة، فاشترط الفقهاء في المحتسب، أو الذي يقوم بالرقابة، عدة شروط، منها:
- الإسلام:
يعني لا بد وأن يكون مسلمًا، هذا الفرض إنما هو من الفروض الدينية التي أوجبها الشارع على المسلم؛ بهدف إعلاء شعائر الإسلام، وتطبيق أحكامه، وتجنب ما نهى عنه؛ ومن ثم فلا يجوز لغير المسلم ممارسته. يعني واجب الرقابة إنما هو شعار من شعار الإسلام، وما دام هو من شعار الإسلام فالمعلوم أنه لا يقوم بذلك ولا يحافظ على هذه الشعائر إلا مسلم؛ ولذلك يشترط في المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة أن يكون مسلمًا.
الشرط الثاني: البلوغ والعقل:
يتحتم أن يتوفر فيمن يقوم بواجب الرقابة أن يكون بالغًا عاقلًا، وهذا شرط بدهي؛ لأن غير البالغ أو العاقل لا يلزمهما أمرٌ ولا نهيٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع
القلم عن ثلاثة (ذكر منهم): الصبي حتى يبلغ أو يحتلم، والمجنون حتى يفيق)) فهؤلاء غير مسئولين؛ ولذلك لا يتوجه إليهم واجب الأمر بالرقابة.
- الشرط الآخر من شروط من يمارس الرقابة: العدالة:
وشرط العدالة هو مما اختلفت حوله وجهات نظر الفقهاء:
فالبعض يرى ضرورة أن يتوفر فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذا الشرط، يعني بعض الفقهاء يقولون أنه لا بد وأن تتوفر العدالة فيمن يمارس الرقابة؛ ومن ثم يجب أن يكون المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة متنزهًا عمّا نهى عنه الشارع غير متلطخ به، وهو ما تدل عليه النصوص في القرآن والسنة، أما من حيث النصوص التي توجب ذلك في القرآن كقوله عز وجل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2 - 3).
هذه هي الآيات التي تدل على أن الذي يمارس الرقابة أو المحتسب، يجب عليه أن يكون عدلًا، بمعنى ألا يكون قد أتى هذا المنكر الذي يريد أن ينهى عنه.
أما الاتجاه الثاني من العلماء فيرى عدم اشتراط هذا الشرط، يعني بعض الفقهاء لا يشترطون في المحتسب أن يكون عدلًا، ويقرر الشيخ الغزالي بأن كل ما ذكروه خيالات، فالفاسق له الحق في ممارسة هذا الواجب؛ لأن حرمانه من هذا الحق، وعدم تسويغ ممارسته من الفاسق، يعني أن من يمارسه لا بد وأن يكون معصومًا من المعاصي، ولو قيل ذلك؛ فإن هذا القول مخالف للإجماع الذي انعقد على عدم العصمة؛ فالصحابة غير معصومين، كما أن الأنبياء قد اختلف في عصمتهم، إلى جانب أن النصوص عامّة توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفاسق والعدل.
إذن المسألة خلافية -كما قلنا- بعض الفقهاء يقولون بأنه يشترط في المحتسب أو الذي يقوم بالرقابة أن يكون عدلًا، واستدلوا بالآيات التي ذكرناها ومنها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وهذا ينطبق على غير العدل إذا أراد أن ينهي غيره عن ذنبه. ووجدنا الرأي الثاني، ومن أنصار هذا الرأي الإمام الغزالي، وقد ذكر ذلك بالتفصيل في كتابه (إحياء علوم الدين) وهو يبين أن واجب الرقابة أو أن المحتسب لا يشترط فيه العدالة
…
لماذا؟ قال بأن النصوص جاءت عامةً، النصوص التي تطلب من المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إنما هي جاءت عامة، لم تميز بين فاسق وغير فاسق، لم تميز بين عدل وغير عدل، هذا بالإضافة إلى أننا لو اشترطنا فيه العدالة فمعنى ذلك أننا نشترط عصمته من الزلل ومن الخطأ، وهذا لم يقل به أحد.
نقول: يقرر الغزالي بأن الإجماع انعقد على وجوب الحسبة على كل مسلم، وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضًا بعض الفقهاء؛ حيث يرون أنه لا يشترط في المحتسب أن يكون كامل الحال، ممتثلًا لما يأمر، مجتنبًا عما ينهي، بل عليه الأمر، وإن كان مخلًّا بما يأمر به، وفي هذه الحالة يجب على المحتسب أمران:
الأول: أن يأمر نفسه ابتداءً بالمعروف وينهاها عن إتيان المنكر.
الثاني: أن يأمر غيره وينهاه عن ذلك أيضًا.
إذا أخل بأحدهما فلا يستساغ القول بإهدار الواجب لآخر.
ويرى البعض أن الاتجاه الثاني، وهو القائل بأنه لا تشترط العدالة، يرى البعض أن هذا الاتجاه هو الصحيح؛ وذلك لقوة أدلته، وضعف أدلة الرأي الذي يشترط العدالة، كما يذهب هذا الرأي إلى أن الأدلة التي استدل بها أصحاب الاتجاه الأول لا تصلح حجة في عدم جواز قيام الفاسق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك لكون الآية الأولى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} تنكر عليهم تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنها لا تحول دون قيامهم به، يعني كأنهم يقولون: هذه الآية ليست صريحةً في منع الفاسق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الآية الثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ} يقول: فالمراد به الوعد الكاذب، وليس المراد به أمر الغير وترك الفعل.
ونحن لا نسلم بالرأي الذي لا يشترط العدالة فيمن يقوم بالحسبة والرقابة، ووجهة نظرنا في الأخذ بالرأي الذي يشترط العدالة في من يقوم بهذا الواجب ما يأتي:
- أن الإمام الغزالي اعترض على عدم منح هذا الحق للفاسق؛ لأن المنع منه يؤدي إلى اشتراط العصمة فيمن يقوم بهذا الوجه. يعني الإمام الغزالي عندما قال: "لا تشترط العدالة" استدل على ذلك بأننا لو اشترطنا العدالة، فمعنى ذلك أننا نشترط فيه أن يكون معصومًا، وهذا لم يقل به أحد. ونرى أن ذلك غير صحيح؛ فاشتراط العدالة لا يعني مطلقًا أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معصومًا عن الخطأ، فالعصمة من الخطأ شيء واشتراط العدالة شيء آخر، ولم يقل أحد من أصحاب الرأي الذي يشترط العدالة بضرورة أن يكون من يقوم بهذا الواجب معصومًا من الخطأ.
ثانيًا: أننا لو أجزنا منح هذا الحق -أي الرقابة على الناس وعلى السلطة الحاكمة- للفاسق، ليأمر غيره ممن هو كذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن هذا -فيما نرى- يؤدي إلى ضياع هذا الواجب كليةً، فإذا قام هذا الشخص بالأمر بمعروف هو لا يؤديه، أو بالنهي عن منكر هو متلطخ بفعله غير متنزه عنه؛ فإن كلًّا منهما -المحتسِب والمحتسَب عليه- يكون له الحق -لو سلمنا بهذا الرأي- في ممارسة تلك السلطة على الآخر، وكل منهما يكون محتسِبًا ومحتسَبًا عليه في آنٍ واحدٍ، والواجب قبل أن يمارس كل منهما هذه السلطة على الغير أن يكفّ هو أولًا عمّا نهى عنها الشارع، وأن يمتثل لأوامره؛ حتى يكون محلًّا للاقتداء
به. ليس معنى ذلك أننا نقول بأن المحتسب يجب أن يسلم من الخطأ كليةً؛ لأنه من المحال أن يكون كذلك؛ فالناس بشر، وكل بشر معرض للخطأ، إلا أننا نقول -كما قرر البعض- أنه يجب أن يكون المحتسب متجنبًا لما يُنتهى عنه، متنزهًا عن فعله؛ حتى لا يكون للغير الحق في ممارسة هذه السلطة عليه.
خلاصة هذا الرد على الغزالي الذي لا يشترط العدالة:
أننا لو أبحنا للفاسق أن يمارس هذه المهمة -وهي الرقابة- فمعنى ذلك إذا كان هو في حد ذاته إلى من يراقبه وينهاه عن الفعل الذي يرتكبه، فكيف يكون محتسِبًا ومحتسَبًا عليه في ذات الوقت؟ وكيف يقتدي به الغير؟ والشاعر يقول:
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ
…
عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ
فما دام هو لا يلتزم بأحكام الدين، ما دام هو غير عدل
…
فكيف تكون لدعوته أي أثر بالنسبة لمن يدعوه إلى الخير؟
لا شك أنه لا يُقتدى به، ولا شك أن ذلك يكون عبثًا عندما نقرر له أن يمارس هذه الرقابة.
ثالثًا: أن الاحتجاج بعموم النصوص لمنح الفاسق هذا الحق أو تلك السلطة على الغير، لا ينهض دليلًا كافيًا لتقرير ذلك؛ ذلك أن هذا الواجب ككل الواجبات التي فرضتها الشريعة له شروط وله أركان، ومن شروطه فيما نرى أن يكون الشخص عدلًا، فإذا توفرت في القاعدة شروطها وأركانها فإنها تنطبق على كل من توفرت فيه، بحيث يخرج من نطاق تطبيقها من لم تتوفر فيه هذه الشروط والأركان، دون أن يكون ذلك مؤثِّرًا على كون القاعدة عامةً.
رابعا: أن هذا الواجب فيه معنى الولاية على الغير، الواجب -ونقصد به الرقابة- فيه معنى الولاية على الغير، وكأي ولاية يشترط فيمن يقوم عليها أن يكون عدلًا، والفاسق في رأي فقهاء الشافعية ومن تابعهم لا ولاية له
…
فكيف يتسنى لنا منحه سلطة الولاية على الغير وهو نفسه محل لأن يمارِس الغيرُ عليه هذه السلطة؟!.
خامسًا: كما أننا لا نقبل تفسير النصوص التي استدل بها المشترطون للعدالة على أنها تعني أن العقاب كان نتيجة ترك المعروف وإتيان المنكر، دون أن تحول من قيامهم به؛ لأنه -كما سبق أن أكدنا- لا نسلم مطلقًا بأن يُعطى الحق لمن لا يكفله، والسلطة لمن هو واجب أن تمارَس السلطة عليه، وأن نجيز لشخص كفالة تطبيق القانون وهو الذي يخالف القانون وينتهكه.
سادسًا: وأن هذا الواجب، وقد ربطه الشارع بالإيمان، بل إنه ميزه بالتقديم على الإيمان لأهميته وضرورة كفالته في الأمة، فلهذا الواجب -وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قدّمه الله تبارك وتعالى على الإيمان، وجعله من أوصاف المؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، كما الصفة المميزة لهذه الأمة عن غيرها من الأمم غير الإسلامية؛ ومن ثم يحتِّم ذلك كله أن يكون من يمارس هذا الحق ممتثلًا لما يأمر به الشارع، متنزهًا عمّا ينهى عنه؛ فالإسلام كلٌّ لا يتجزأ، ولمن ينهي عن فعل فأولى به أن ينهي نفسه أولًا، ويكف عنه، وقبل أن يأمر الغير فأولى أن يبدأ بأمر نفسه.
الشرط الرابع من الشروط الواجب توافرها في الذي يمارس الحسبة أو يمارس الرقابة: القدرة:
يشترط فيمن يقوم بالرقابة الحسبة أن تتحقق لديه الاستطاعة والقدرة لممارسة هذا الواجب، على وجه لا يؤدي إلى فساد عظيم في نفسه، أو ماله، أو أهله، وقد بيّن الحديث الشريف نطاق القدرة البشرية على نحو يؤدّي إلى كفالة هذا الواجب واستحالة خروجه عن نطاق القدرة البشرية، عندما قال صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).
فمن لا يستطيع الإنكار باليد فأمامه وسيلة تحقيق هذا الواجب بالإنكار بالقول، ومن لا يكون له في استطاعته الإنكار بالوسيلة الأخيرة فلا حسبة عليه باليد أو
اللسان؛ إذ يكون عاجزًا عن تحقيقها بهما، والعاجز غير مكلف بكفالة ما عجز عن تحقيقه، إلا أنه تبقى أمامه وسيلة أخرى هي الإنكار بالقلب، وهي دائمًا وأبدًا تدخل في نطاق الاستطاعة والقدرة البشرية؛ لارتباطها بشعور ووجدان المكلَّف، ولا مدخل لأي سلطة كانت على خلجات النفس وما يجول بالوجدان والضمير.
الشرط الخامس من الشروط التي يشترط توافرها فيمن يمارس الرقابة: العلم:
وشرط العلم يختلف وجوبه بحسب ما إذا كان الفعل مخالف للقانون ظاهرًا وواضحًا، فلا يحتاج الوقوف على مدى مخالفته للقانون إلى ضرورة توفر صفة المجتهد فيمن يقوم بأداء هذا الواجب، أو كان من دقائق الأفعال، ومما يتعلق بالاجتهاد؛ فيحتاج الوقوف على مخالفته للقانون إلى توفّر شروط الاجتهاد فيمن يقوم به. أي معنى الكلام: هل يشترط أن يكون الذي يمارس الرقابة عالمًا مجتهدًا أم لا؟
نقول: هذا يتوقف على نوع المخالفة، فإذا كانت هذه المخالفة واضحة تمامًا ففي هذه الحالة معنى ذلك أنه لا يشترط ذلك -أي لا يشترط الاجتهاد- أما إذا كانت تحتاج إلى فقه، وهي من الأمور المختلف فيها، ففي هذه الحالة تحتاج إلى العلم. فإذا كان الفعل من النوع الأول -وهو الواضح- فإن حق إنكاره ومقاومته يكون لآحاد المسلمين، كل واحد من الناس، يكون لآحاد المسلمين وخواصهم، ولا تتوقف ممارسته على أي شرط آخر، سوى شرط الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والقدرة، سواء كان هذا الشخص إمامًا، أو قاضيًا، أو فقيهًا، أو واحدًا من آحاد المسلمين.
أما إذا كان الفعل يقتضي الوقوف على مخالفته للقانون إلى توفّر شرط الاجتهاد لكونه من دقائق الأفعال والأقوال، فلا يكون للعامة الحق في الرقابة والإنكار على هذه الأعمال؛ لأنهم قد ينكرون فعلًا والأمر على خلاف ذلك، بل هذا الحق يُعطى فقط للفقهاء الذين يحيطون بالنصوص ومقاصد الشارع، وهؤلاء أيضًا سلطتهم في الإنكار تتوقف بحسب ما إذا كان الفعل قد أجمع على حكم محدد له، أو كان هذا الفعل من المسائل الخلافية بين الفقهاء.
الشرط السادس: الحصول على إذن سابق من السلطة العامة:
هذا الشرط من الشروط التي لم تتّفق حولها الآراء في الفقه الإسلامي، فيذهب رأي إلى أنه لا يجوز ممارسة هذا الواجب -أي سلطة الرقابة- إلا إذا أذنت السلطات العامة بممارسته، وحجة من قال بذلك أن إعمال هذا الحق يقتضي تقرير سلطة وولاية على المحكوم عليه؛ ومن ثم لا يجوز أن يُعطى هذا الحق أو يتقرر قيام المسلم بأداء هذا الالتزام، إلا إذا فوّضته السلطات العامة بذلك، ومما يقتضي الحصول على إذن مسبق من السلطات العامة عدم جواز القيام بهذا الواجب من الكافر على المسلم، مع كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقًّا.
وقد ردّ الغزالي على من اشترط هذا الشرط، فهو بعد أن قرر أنه من الشروط الفاسدة؛ فإن النصوص في القرآن أو السنة دلّت على أن كل من رأى منكرًا أو سكت عن إنكاره، فإنه يخلّ بواجب حتّمت عليه النصوص إنكاره أينما رآه وكيفما رآه؛ لذلك فإن القول بهذا الشرط -ونقصد به الحصول على إذن من السلطات العامة- تحكّم لا أصل له من الشرع، ومن ناحية فإن عدم جواز منح غير المسلم هذا الحق أو القيام بهذا الالتزام، ترجع إلى أن غير المسلم لا يجوز له أن يمارس أي سلطة أو ولاية على المسلم، إلى