الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنكم أمير قال لهم: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي: نحن الحكام وأنتم تعينوننا على تحمل أعباء الحكم وتساعدونا في تدبير الأمور.
وقد تطور مفهوم الوزارة بحيث أصبح من ضرورات الدولة الإسلامية التي لا يمكن الاستغناء عنها، فدرج خلفاء بني أمية على اتخاذه، فقد استوزر معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص وزياد بن أبيه، كما درج خلفاء بني العباس على الاستعانة بالوزراء، بل إن الوزارة في العهد العباسي قد استقرت قواعدها ونظمها واتسع مفهومها بحيث أصبح دور الوزير لا يقتصر على مجرد المعاونة للحاكم، بل أصبح يشارك مشاركة فعلية في إدارة شئون البلاد، ويتدخل في جميع النواحي الهامة في الدولة كمسائل السياسة والحرب والاقتصاد وأسرار الدولة والخليفة ونحو ذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 -
أنواع الوزارة ومقدمة عن الحاجة إلى الإمارة على الأقاليم
وزارة التفويض
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أقسام الوزارة:
لقد تكلم الفقهاء المسلمون في السياسة الشرعية عن نوعين من الوزارة هما: وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ، وسوف نبين فيما يلي ما يتصل بهذين النوعين من الوزارة من حيث تحديد صلاحيات الوزير في كل منهما والشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وعلاقة كل من هذين الوزيرين برئيس الدولة أو الإمام.
أولًا: وزارة التفويض:
يقصد بوزارة التفويض: أن يعهد الخليفة أو الإمام إلى رجل من أهل الخبرة والكفاءة، يعهد إليه بأن يتولى نيابة عنه تصريف شئون الدولة في مجال من المجالات التي تظهر كفاءته وخبرته فيها، فهذا الوزير المختار أو المعهود إليه يمضي الأمور برأيه وعلى اجتهاده بحسب ما يراه مناسبًا، فسلطة وزير التفويض تشبه الوكالة العامة؛ لأنه مفوض تفويضًَا كاملًا فيما عهد به إليه دون أن يرجع فيه إلى
الخليفة، قال الماوردي في هذا الشأن: فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، فالحاصل أن سلطة وزير التفويض بشأن ما فوض فيه سلطة كاملة مستقلة عن الإمام، وصلاحياته من أوسع ما تكون حتى أنه يعتبر صاحب المركز الثاني بعد الخليفة في مناصب الدولة.
هذا ويشترط في وزير التفويض ما يشترط في الخليفة أو الإمام من شروط فيما عدا شرط النسب القرشي كما ذهب إلى ذلك الماوردي، بعكس مع ذهب إليه أبو يعلى الفراء الحنبلي فقد جعل شروط وزير التفويض هي نفس شروط الخليفة من غير استثناء فقال: ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمام، ونفضل في هذا الصدد الأخذ بما ذكره الماوردي الشافعي من استثناء وزير التفويض من شرط النسب القرشي؛ لورود النصوص في حق الإمام خاصّة فلا يقاس عليه غيره، وقد قال أبو بكر يوم الثقيفة للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولأنه يلزم من قصر الوزارة على القرشيين دون نصّ -الاستبداد والظلم الذي تحذر منه الشريعة الغراء وتنهى عنه، قال الماوردي بهذا الصدد: ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده؛ لأنه ممضي الآراء ومنفذ الاجتهاد فاقتضي أن يكون على صفات المجتهدين فيحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة وهو: أن يكون من أهل الكفاية فيما وكّل إليه من من أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما، فإنه مباشر لهم تارة ومستنيب فيهما أخرى فلا يصل إلى استنابة الكفاءة إلا أن يكون منهم، كما لا يقدر على المباشرة إذا قصّر عنهم، وعلى هذا الشرط مدار الوزارة وبه تنتظم السياسة.
صفات الوزير:
يجب أن تتوافر بعض الصفات السلوكية والخلقية فيمن يتولى منصب الوزارة إضافة إلى تلك الشروط التي سبق لنا تفصيلها عند الحديث عن شروط الإمام أو الخليفة، فقد ذكر البعض أن الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد كتب في مواصفات الوزير فقال:"إني التمست لأموري رجلًا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب، وحنكته الوقائع، وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، تكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء" إلى غير ذلك. ويظهر مما ذكر أن منصب الوزارة لخطورته يجب أن يكون المتولي له على أعلى درجات الكفاءة والاستواء في شخصيته، فلا تكون عنده نقاط ضعفه ظاهرة لئلا يؤتى من قبلها فتفوت بذلك مصالح الأمة التي فوّض بشأنها.
اختصاصات وزير التفويض:
القاعدة العامة أن سلطة وزير التفويض مطلقة فله ما لرئيس الدولة أو الإمام من الصلاحيات، فله أن يقلد الولاة ويعزلهم، وله أن يتولى قيادة الجيش أو ولاية الجهاد، وله أن يستنيب عنه من يشاء، وله أن يقوم بتنفيذ الأمور التي يدبرها، وله أن يقضي بين الناس وينظر في المظالم، فكل هذه الأمور تجوز من وزير التفويض كما تجوز من الإمام، غير أن هناك بعض الأمور التي يملكها الخليفة ولا يملكها وزير التفويض رغم إطلاق سلطته، وهذه الأمور قد عددها الفقهاء في ثلاثة: ولاية العهد، فهو من حق الخليفة وحده فله أن يختار ولي عهده على الشروط التي قدمنا، وليس هذا لوزير التفويض مهما كانت سلطته مطلقة؛ لئلا يفتات على حق الإمام في اختيار ولي عهده.
من ضمن الأمور التي تكون أيضًا للخليفة ولا تكون لوزير التفويض: الاستعفاء من الخلافة، فيجوز للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة -أي: يقدم استقالة- ولا يجوز ذلك لوزير التفويض. أيضا للإمام أن يعزل من قلده وزير التفويض ولكن ليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام؛ لأن الإمام هو الحاكم الأصلي وسلطته هي السلطة الأولى في الدولة، وفي هذا يقول أبو يعلى الفراء: وعلى الوزير وزارة التفويض مطالعة الإمام بما أمضاه من ولاية وتقليد؛ لئلا يصير بالاستبداد كالإمام، وعلى الإمام أن يتصفح أفعال الوزير وتدبيره الأمور ليقرّ منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة موكول إليه وإلى اجتهاده.
ويجوز لهذا الوزير أن يحكم بنفسه وأن يقلد الحكم كما يجوز ذلك للإمام؛ لأن شروط الحكم فيه معتبرة ويجوز أن يتولى الجهاد بنفسه وأن يقلد من يتولاه؛ لأن شروط الجهاد فيه معتبرة، ويجوز أن ينظر في المظالم ويستنيب فيها؛ لأن شروط المظالم فيه معتبرة، ويجوز أن يباشر تنظيم الأمور التي دبّرها وأن يستنيب في تنفيذها؛ لأن شروط الرأي والتدبير فيه معتبرة.
ويقول الماوردي بعد أن استثنى هذه الأمور الثلاثة المشار إليها من سلطة وزير التفويض، يقول: وأما ما سوى هذه الثلاثة فحكم التفويض إليه يقتضي جواز فعله وصحة نفوذه منه، فإن عارضه الإمام في ردّ ما أمضاه، فإن كان في حكم نفّذ على وجهه وفي مال وضع في حقه لم يجز نقد ما نفّذ باجتهاده من حكم، ولا استرجاع ما فرق برأيه من مال، وإن كان في تقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب جاز للإمام معارضته بعزل المولّى والعدول بالجيش إلى حيث يرى وتدبير الحروب بما هو أولى؛ لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره.
ولعل ما ذكره الماوردي يوضح لنا العلاقة بين وزير التفويض مع إطلاق سلطته وبين الإمام باعتباره الرئيس الأعلى والحاكم الأول وسلطته هي المقدمة، وذلك أنه إذا تعارضت تصرفات وزير التفويض مع تصرفات الإمام في تدبير شئون المسلمين والفصل في منازعاتهم فإنه يجب التفريق في هذا الصدد بين حالتين:
الحالة الأولى: إن كان ما أصدره وزير التفويض حكمًا يتعلق بأمر مالي أو قضائي كأن يأمر بوضع مبلغ من المال في جهة من الجهات أو يأمر برد مظلمة إلى أهلها -ففي هذه الحالة تكون أحكامه نافذة ولا يملك الإمام أن يعقّب عليها ولو كانت معارضة لرأيه؛ لأنها ما دامت أحكامًا اجتهادية صدرت عن أهل لذلك ولم تخالف نصًّا من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله فلا يسوغ نقضها لمخالفتها لاجتهاد الإمام؛ لأنه لا يخطّأ اجتهاد باجتهاد كما هو معلوم من قواعد الأصول.
الحالة الثانية: إن كان ما صدر عن وزير التفويض قرارات تتعلق بتعيين الولاة أو عزلهم أو تسيير الجيوش لمحاربة الأعداء أو عقد المعاهدات السياسية أو العسكرية مع الدول الأجنبية -ففي هذه الحالة يجوز للإمام أن يعقّب على رأي الوزير إذا كان مخالفًا لرأيه؛ لأن الإمام صاحب الحق الأول وله أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فيستدركها من أفعال وزيره من باب أولى.
التكليف بالوزارة:
وزارة التفويض في النظام الإسلامي كما ذكرنا وزارة خطيرة ذات سلطات واسعة جدًّا واختصاصات مطلقة إلى حد ما كما أشرنا، وبناءً عليه فقد ذكر الفقهاء أنها تحتاج إلى تقليد أو تكليف بها من ولي الأمر بمقتضى عقد يكون بين وزير التفويض وبين الإمام، وهو يشبه إلى حد ما ما يعرف بالتشكيل الوزاري
الآن، إذ يبلغ الوزير باختياره بمقتضى كتاب أو خطاب ممن اختاره بحيث يترتب على ذلك حقوق والتزامات بين الوزير المختار وبين الجهة التي اختارته، سواء كان رئيس مجلس الوزراء أو رئيس الدولة نفسها.
وقد ذكر الماوردي أنه يشترط في خطاب التكليف بالوزارة شرطان: أحدهما: عموم النظر؛ لأن هذا هو شأن التفويض، إذ تكون للوزير نفس السلطات التي يملكها الخليفة عادة. والثاني: النيابة، كأن يقول الخليفة للوزير: قلدتك ما إليّ نيابة عني ونحو ذلك؛ لأن وزير التفويض وإن كانت سلطاته مطلقة إلا أنه لا يفتات بها على حق الإمام، ولا يستبدّ بها دونه كما ذكرنا.
وخطاب التكليف بالوزارة الذي هو بمثابة عقد بين الوزير وبين من استوزره هو في حقيقة الأمر عقد بين الوزير وبين الأمة؛ لأن الإمام الذي يستوزره إنما ينوب في ذلك عن الأمة فهو عقد وكالة، والوزير نائب عن الأمة وإن اختاره الإمام، ولذلك فهو باق في ولايته لا يتأثر بموت الخليفة الذي قلده ولو كان نائبًا عنه لانعزل بموته؛ لأن النائب مرتبط بالأصيل، فكل المقلدين بعقود تفويض يقفون مع الإمام إذًا على قدم المساواة في أنهم جميعًا مؤدون حقوق الأمة، وجميعهم ولاة لا تختلف ولاياتهم عن ولايته في النوع وإن كان بينهما اختلاف في الدرجة، غاية الأمر أن الإمام متصل بالأمة مباشرة أما هم فيتصلون عن طريقه، فهو الصلة بينهم وبين الأمة وهذه مسألة اضطرت إليها الحاجة إلى التنظيم ووجوب تركيز السلطة في جهة معينة وتوحيد المسئولية لتكون ممثلة في شخص الإمام، فتستطيع الأمة أن تواجهه وأن تحاسبه وتحكم في أمره بما تشاء مع أن وجوده على كل حال لا يعفي الولاة الآخرين من المسئولية أمام الله وأمام الأمة فضلًا عن مسئوليتهم أمامه بوصفه ممثل النظام.
وذكر الماوردي في (الأحكام السلطانية) قوله: ولو مات الإمام لم تنعزل قضاته، وإذا كان تقليد الأمر من قبل الخليفة لم ينعزل بموت الخليفة، وإن كان من قبل الوزير انعزل بموت الوزير؛ لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين وتقليد الوزير نيابة عن نفسه، وبذلك يكون الفقهاء المسلمون قد سبقوا غيرهم في تقرير فكرة استمرارية الدولة كشخص معنوي بغضّ النظر عن أشخاص الحاكمين من حيث البقاء أو الزوال، ولكن: هل يجوز أن يتعدد وزراء التفويض في الدولة أو في الإقليم الواحد؟
لعل الذي بعث على هذا التساؤل هو تشابك سلطات وزير التفويض كقاعدة عامة مع سلطات الخليفة أو الإمام. وقد حاول أبو يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) أن يجيب على هذا التساؤل فذكر تفصيلًا مؤداه: أنه لا يجوز أن يقلد وزيري تفويض على اجتماع، كما لا يجوز تقليد إمامين؛ لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل وقد قال الله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: من الآية: 22) فإن قلد وزيري تفويض نظرنا، فإن فوض إلى كل واحد منهما عموم النظر لم يصحّ لما ذكرنا، ثم ننظر فإن كان في وقت واحد بطل تقليدهما معًا، وإن سبق أحدهما الآخر صح تقليد السابق وبطل تقليد المسبوق، وإن أشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولم يجعل إلى واحد منهما أن ينفرد به صحّ الأمر، وتكون الوزارة فيهما لا في واحد منهما، ولهما تنفيذ ما اجتمعا عليه وليس لهما تنفيذ ما اختلفا فيه ويكون موقوفًا على رأي الخليفة وخارجًا عن نظر هذه الوزارة، وتكون هذه الوزارة فيها تقصير عن وزارة التفويض المطلق من مرحلتين أحدهما: اجتماعهما على تنفيذ ما اتفقا عليه،