الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعيار الطاعة في الحالة الثانية هو اختيار أخفّ الضررين وأيسرهما، فإذا كان الضرر الناجم عن عدم الطاعة يفوق الضرر المترتب على الامتثال لأوامر السلطة العامة فلا مفر من قبول هذه الأوامر، ويكون من الواجب الطاعة دفعًا للضرر الأشد، وعلى العكس من ذلك إذا كان الضرر الناجم من الطاعة يفوق الضرر المترتب على مخالفة هذه القرارات فلا مفرّ من عدم الطاعة؛ اتقاء للضرر الناتج عن طاعة الأوامر المخالفة للقانون كما لو كانت تؤدي إلى ضياع الأمة وهلاكها، وعلى ذلك فإن حدّ القانون الإسلامي الذي وضع للظروف العادية لا يكون لازمًا في كل الحالات التي يكون فيها عدم الطاعة مرتبًا لأضرار جسيمة على الأمة، أما في حالة السعة والاختيار فلا مناص من تطبيق القاعدة العامة وهي ضرورة أن تكون الطاعة في حدود القواعد العادية بمصادر المشروعية في الفقه الإسلامي.
وننتهي بهذا القدر من هذه المحاضرة، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
4 -
تابع حقوق الإمام
، وانتهاء ولايته
تابع حقوق الإمام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد بدأنا الحديث في المحاضرة السابقة عن حقوق الحاكم اتجاه الأمة، وقلنا بأن الحق الأول يتمثل في طاعته في غير معصية، ونواصل الآن الحديث عن الحق الثاني وهو واجب النصرة له فنقول:
إلى جانب حق الطاعة تلتزم الأمة الإسلامية بنصرة السلطة العامة والوقوف ورائها ضد أي تمرد يقصد منه تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، فإذا كان واجب الطاعة يستهدف أساسًا أن تحقق الاختصاصات والسلطات الممنوحة للسلطة العامة في الدولة الإسلامية أهدافها وغاياتها -فإن واجب النصرة يستهدف حفظ وحدة الجماعة والقضاء على أي محاولة تستهدف النيل من نظام الحكم القائم، سواء كانت هذه المحاولة خارجية وذلك في الحالات التي يستهدف فيها العدو المساس بكيان الدول الإسلامية، أم كانت داخلية بأن قام متمرد أو باغ بمحاولة الاستيلاء على مقاليد الأمور في
الدولة أو الاستقلال بمنطقة من المناطق، ففي كل هذه الحالات يقرر الفقهاء أن الأمة الإسلامية تلتزم بنصرة السلطة العامة وتقديم العون لها.
ويخلط بعض الفقهاء بين واجب النصرة وواجب الطاعة ويرون أن واجب الطاعة يندرج في واجب النصرة، وهذا الرأي لا نسلم به وذلك لاختلافهما من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن واجب الطاعة قد لا يترتب عليه في معظم الحالات التي تستوجب الطاعة إلا مجرد التزام سلبي يقع على عاتق المحكومين، ويتمثل في وجوب التزام الجماعة الإسلامية بما تصدر السلطة العامة من قرارات وعدم مخالفتها، في حين أن الواجب الثاني -وهو النصرة- هو في كل الحالات يفرض على الجماعة الإسلامية التزامًا إيجابيًّا محددًا، يقتضي منها أن تبذل ما في وسعها لمناصرة السلطة العامة والدفاع عن النظام القائم ضدّ أي اعتداء أو مساس من الداخل أو الخارج على السلطة الشرعية في الدولة الإسلامية.
الناحية الثانية: أن واجب النصرة يستهدف إلى جانب الدفاع عن نظام الحكم الموجود، فإنه يستهدف أيضًا صون الجماعة الإسلامية من التفتت والانهيار، وذلك بالدفاع عنها ضدّ أي محاولة تستهدف تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وهو ما يستبين من أمره صلى الله عليه وسلم حينما سأله أحد الصحابة: ماذا يفعل في حالة الفتنة؟ فقال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)).
نطاق واجب النصرة:
واجب النصرة مثل واجب الطاعة ليس واجبًا مطلقًا تلتزم به الأمة الإسلامية في كل الحالات، وإنما يختلف بحسب ما إذا كان الخطأ الذي يحدق بالسلطة العامة في
الدولة الإسلامية خطرًا خارجيًّا أو داخليًّا، كما يختلف باختلاف ما إذا كانت هذه السلطة تحوز على موافقة الأمة وارتضائها الاختياري وملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية أم كانت مغتصبة للسلطة غير ملتزمة بما حتّمه الشارع من قواعد وأحكام.
فإذا كان الخطر خارجيًّا فإن واجب النصرة يكون واجبًا مطلقًا، لا يجوز لأي مسلم أن يتعاقد عنه أو يتهاون في أدائه، سواء كانت السلطة العامة في الدولة الإسلامية عادلة أو جائرة؛ لأن الخطر هنا يتعلق بكيان المجتمع الإسلامي ذاته، ويقصد منه النيل من استقلاله ووقوعه في يد الأعداء؛ لذلك فإنه مع تحقق الظلم والجور في السلطة العامة فلا يجوز أن يتخلى أحد عن تقديم النصرة لها، ذلك أن المقصود بالنصرة في هذه الحالة ليس هو السلطة العامة بذاتها، وإنما المقصود حفظ الدولة الإسلامية من الوقوع في يد الأعداء؛ ولأن دفع الأعداء فرض من الفروض الدينية بمقتضى واجب الجهاد ويجد ذلك أساس مشروعيته في قوله صلى الله عليه وسلم:((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر)).
أما إذا كان الاعتداء داخليًّا، وهو الذي يتحقق بتمرد جماعة وخروجهم على السلطة -فيختلف الأمر بحسب ما إذا كانت السلطة مغتصبة لها أم تولت عن طريق الأمة ملتزمة بأحكام الشريعة، ففي حالة اغتصاب السلطة عن طريق القهر والقوة فلا يجب أن يقدّم المسلمون لها واجب النصرة بل على العكس من ذلك، إذا ما وجد ثائر واستهدف الإطاحة بها للعودة بها إلى حكم القانون الإسلامي فإن الواجب أن يساعده المسلمون؛ وذلك لأن الهدف في هذه الحالة هو تحقق السلطة العامّة المطابقة لقواعد القانون العام الإسلامي،
أما إذا كان هذا الثائر لا يستهدف العودة إلى حكم القانون وإنما يبغي أيضًا الاستيلاء على السلطة -فلا تكون النصرة واجبة؛ لأن كل منهما ينازع الآخر فيما لا يحلّ له، ولا يجب مساعدة أي منهما أو نصرته، أما إذا كانت السلطة العامة تولت بالطرق المطابقة لأحكام الشرع والتزمت بأحكام الشريعة الإسلامية -فيجب على المسلمين نصرتها ضدّ أي تمرد يقع على هذه السلطة، كما يجب ضرب أي محاولة تستهدف الاعتداء على نظام الحكم الموجود، وإذا كان سبب الخروج عليها وقوع بعض الظلم عن طريقها فيجب حتى تنال نصرة المسلمين أن تقلع عن الظلم الواقع منها فورًا؛ لأن الخروج بسبب الظلم لا يعدّ بغيًا وتمردًا على السلطة.
الثالث من حقوق الإمام:
ومن حقوق الإمام أيضًا أن يكون له أموال في مال المسلمين بما يكفيه ويكفي أهله، يعني: عمل راتب له يكفيه ويكفي أهله من غير سرف ولا تقتير؛ لأنه قد اشتغل بمصالح المسلمين العامة ليله ونهاره، ولم يعد لديه من الوقت ما يتكسب فيه لأهله ونفسه، وقد روى ابن سعد في (الطبقات) أنه لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر به فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قال: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟! قال: من أين أطعم عيالي؟ قال له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة -أي: نصف شاة- ولما وجد أبو بكر أن ما خصص له لا يكفيه طلب من المسلمين أن يزيدوه فزادوه بخمسمائة درهم.
ولما تولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأخذ شيئا من مال المسلمين حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة -يعني: شدة- فاستشار الصحابة فيما يصلح له من هذا المال بعد أن اشتغل بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه، فقال عثمان: كُل وأطعم، وقال علي: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وكان يستنفق كل يوم درهمين له ولعياله، وأنه أنفق في حجته مائة وثمانين درهمًا فقال: قد أسرفنا في هذا المال.
وفي هذا نرى أنه من حق الخليفة أن يأخذ راتبًا من بيت المال ولو كان موسرا؛ وذلك لكونه قد احتبس نفسه لمصلحة المسلمين وأصبح مشغولًا بمصالحهم عن شئونه الخاصة، وهو في هذا كأي موظف آخر في الدولة ولو كان موسرًا، وأما امتناع علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز عن الأخذ من بيت المال فهو لا يدل على المنع؛ لأن معناه أنهم تنازلوا عن حقوقهم، ولو أنهما أخذا من بيت المال ما كان عليهما من حرج؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا مخصصاتهما من بيت مال المسلمين وكانا مع ذلك من مياسير المسلمين؛ لأنه لا حرج في أن يأخذ الإنسان مقابل عمله، والخليفة كما ذكرنا ينشغل بأمور المسلمين عن شئونه الخاصة.
الرابع من حقوق الإمام:
من حقوق الإمام على الأمة أن تنصحه وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وتدعو له بالخير، فإن الدين النصيحة كما قال صلى الله عليه وسلم:((الدين النصيحة قالها ثلاثًا قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ولقد امتن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها خير أمة لكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، يقول تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110).