الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي
ثم ننتقل الآن إلى الطريق الثاني من الطرق التي تنعقد بها رياسة الدولة، أو الإمامة العظمى، وهي: العهد، فنقول: عهد الإمام إلى واحد آخر ليلي الإمامة من بعده هو أحد الطرق التي اعتبرها العلماء موجبة لانعقاد الإمام، فنقول: تكلم الفقهاء والمتكلمون عن العهد باعتباره طريق من طرق انعقاد الإمامة بأن يعهد الإمام الحالي بالإمامة إلى رجل يختاره ليكون الإمام من بعده.
يقول الإمام الماوردي: وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو بمن عقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكراهما:
أحدهما: أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه فأثبت المسلمون إمامته بعده.
والثاني: أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى؛ فقبلت الجماعة دخلهم فيها وهم أعيان العصر اعتقادًا لصحة العهد بها، وخرج باقي الصحابة منها، ويقرر العلماء أن الإمام بتوليه منصبه إنما يجب عليه أن ينظر في مصالحهم الدينية والدنيوية، وإذا ما وجب عليه النظر حال حياته، فالنظر في مصالحهم بعد مماته تابعٌ لذلك.
ونتكلم الآن عن شروط صحة انعقاد الرياسة بالعهد، فنقول: إما أن يعهد الإمام إلى واحدٍ فقط، وإما أن نعهد إلى أكثر من واحد، وسنتكلم عن كلِّ حالةٍ من هاتين الحالتين.
الحالة الأولى: أن يكون العهد إلى واحدٍ فقط، ولا بد حينئذ حتى يكون العهد صحيحًا من توافر شروط ثلاثة:
أولها: أن تكون الشروط المطلوبة في الإمام متحققة في المعهود إليه، من وقت أن عهد، إلى حين توليه الخلافة بعد موت الإمام العاهد، وعلى ذلك فلو لم تكن هذه الشروط متحققة فيه عند العهد إليه كأن كان صغيرًا أو فاسقًا حينئذ لم يصح العهد، وكذا لو كان صغيرًا أو فاسقًا عند العهد إليه بالغًا عدلًا عند موت الإمام العاهد لم يصر بذلك العهد إمامًا للمسلمين، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والعقد له بالخلافة.
الشرط الثاني: أن يقبل المعهود إليه العهد، فإذا لم يقبل المعهود إليه هذا العهد، وجب أن يبايع أهل الحل والعقد غيره.
الشرط الثالث: أن يكون الإمام العاهد قد قام بهذا العهد والإمامة لا زالت معقودة له، فإن عهِد بالإمامة في حال طروء عارض يخرجه عن الإمامة لم يصح العقد.
الحالة الثانية: أن يكون العهد إلى اثنين فأكثر، وذلك على ضربين:
الضرب الأول: أن يجعل الإمام أمر الإمامة شورى بينهم لم يقدم واحدًا منهم على الآخر، فيجب في هذه الحال أن يختار أهل الحل والعقد واحدًا من هؤلاء الذين جُعِلَ أمر الإمامة شورى بينهم، أو يخرج الجميع أنفسهم إلى أمر الإمامة إلا واحدًا يتنازلون له عن حقِّهم فيها، وقد استدل العلماء على هذا بما فعله عمر رضي الله عنه بعد طعنه، وبما فعله الصحابة حينئذٍ، فقد رُوي أنه قيل له: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، فقال: ما أرى
أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فعد عليًا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرحمن، فلما توفى رضي الله عنه اجتمع هؤلاء الرهط الذين جُعِلَ الأمر فيهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن بن عوف لعلي وعثمان: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليّ، والله عليّ ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد علي وقال له: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقِدم في الإسلام ما قد علمت، والله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن وتطيعن، ثم خلا بعثمان، فقال له مثل ذلك، ثم استقر رأي عبد الرحمن بن عوف على عثمان، فقال له: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي، وتتابع الناس فبايعوه.
الضرب الثاني: أن يعهد الإمام بالإمامة إلى أكثر من واحدٍ يرتبها فيهم، فيقول مثلًا: إن مت ففلان هو الإمام، فإن مات فالإمام فلان وهكذا، فالإمامة حينئذٍ يجب أن تكون لمن ذكرهم على الترتيب الذي بينه، فقد استدل على هذا أو قد استُدل على هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف زيد بن حارثة على جيش مؤتة، ثم قال: فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتضي المسلمون رجلًا، فتقدم زيد فقُتل فأخذ الراية جعفر، وتقدم فقُتل وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، فتقدم فقُتل فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد.
ونتكلم الآن عن أنواع المعهود إليهم، وحكم كلا منهم، فنقول: المعهود إليهم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون المعهود إليه ولدًا أو والدًا، وقد اختلف العلماء في جواز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة لواحدٍ منهما -يعني: لا لولده ولا لوالده- بل لا بد من موافقة أهل الحل والعقد على هذه البيعة؛ لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة، وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يشهد لوالده أو لولده، ولا يحكم لواحد منهما؛ لأنه ميالٌ بالطبع إلى كلِّ واحدٍ منهما.
المذهب الثاني ويقول: أن للإمام أن يعهد إلى الوالد أو الولد بدون استشارة أهل الحل والعقد؛ لأنه حاكم الأمة، وأمره نافذٌ عليهم ولهم، فحكم المنصب غالبٌ على حكم النسب، ولم يجعل للتهمة عليه في ذلك طريقًا، وصار فيها كعهده إلى غير ولده ووالده.
المذهب الثالث: ويرى أن للإمام أن ينفرد بعقد البيعة للوالد، وأما انفراده بعقدها للولد فلا يجوز؛ لأنه بالطبع يميل إلى الولد أكثر من ميله إلى الوالد؛ ولذلك كان كلُّ ما يقتنيه في الأغلب مدخرًا لولده دون والده.
القسم الثاني: أن لا يكون المعهود إليه ولدًا أو والدًا كأن يكون أخًا، أو ابن اعم، أو أجنبيًا، وهنا اتفق الفقهاء على أنه يجوز أن ينفرد الإمام بعقد البيعة له من غير أن يستشير فيه أهل الحل والعقد، ولكنهم اختلفوا في أنه هل يشترط ظهور الرضا من أهل الحل والعقد حتى تنعقد البيعة أو لا يشترط ذلك خلافٌ بين الفقهاء.
القسم الثالث: أن يكون المعهود إليه غائبًا، وحينئذٍ فينظر في حاله؛ فإن كان مجهول الحياة لم يصح العهد إليه، وإن كان معلوم الحياة صح العهد إليه وكان موقوف على قدومه، فإذا مات الإمام العاهد وولي العهد لا زال غائبًا وجب أن يستقدمه أهل الحل والعقد، فإن جاء تولى إمامة المسلمين، وإن ظل غائبًا وتضرر المسلمون لطول غيبته اختار أهل الحل والعقد واحدًا آخر نائبًا عنه حتى يحضر، وتكون أحكامه فيهم كأحكام الإمام، فإذا قدم الغائب انعزل نائبه.
رأينا في ولاية العهد: يتبين من تتبع كلام الفقهاء عن العهد أن جمهورهم يعتبرون عهد الخليفة إلى واحدٍ كافيًا في انعقاد الإمامة له، ولا يحتاج لتتم له البيعة إلى مبايعة أهل الحل والعقد بعد عهد الإمام، بل في استطاعته أن يعهد إلى من يراه صالحًا للإمامة بعده من غير أن يستشير في ذلك أحدًا، وكل ما عليه هو أن يجتهد ما وسعه الاجتهاد في هذا الاختيار.
يقول الإمام النووي: إن الخليفة إذا أراد العهد لزمه أن يجتهد في الأصلح، فإذا ظهر له واحدٌ جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد، والناظر في هذا يرى أن العلماء بقولهم بهذا الرأي إنما يعتمدون في ذلك على أمرين:
أولهما: أن الإمام الذي يعطي هذا الحق إنما هو إمامٌ مثاليٌّ قد تمت مبايعته بالطريق الشرعي الصحيح، والذي بينا شروطه -فيما سبق- عند كلامنا على شروط الإمامة، فتوافر هذه الشروط فيه من شأنه أن يجعلَنا نثق فيما يقوم به من أمور الحكم ثقةً كاملةً، ونؤمن بأنه لم يزغ فيما قام به من عهدٍ عن الطريق الواجب، فلم يعهد إلى واحدٍ بعينه إلا بعد أن رآه صالحًا لرئاسة الأمة، ولم يتأثر في ذلك العمل بقرابةٍ أو صداقةٍ أو محبةٍ، بل كان فيما قام به إنما يقصد مصلحة الأمة ووجه الله تبارك وتعالى.
يقول ابن خلدون: وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية؛ إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفًا من العبث بالمناصب الدينية، فهذا العمل الذي قد يكون خاتم ما يقوم به من نظرٍ في شئون الرعية هو مما سيحاسب عليه أمام ربه، وسيؤثر تأثيرًا عظيمًا في حياة أمةٍ بأكملها؛ ولذلك تخوف عمر لما طلبوا منه أن يستخلف، فقال: أتحملها حيًّا وميتًا، فهذا الإمام الذي يعطي عهده هذا التأثير في انعقاد البيعة لمن يخلفه، إنما هو شخصٌ اجتمعت فيه ضمانات قوية تحصنه في غالب الظن ضد الانحراف عن الجادة، فالثقة في هذا الإمام تامة، وخوفه من الله في غالب الظن متحقق، فإذا ما أعطى هذا الإمام هذا الحق، فإنه سيكون غالبًا معبرًا عن رأي الأمة فيمن تراه صالحًا لئن يلي الأمور من بعده.
وأما الأمر الثاني: الذي حدا العلماء على أن يقولوا بانعقاد البيعة بمجرد أن يعهد الإمام إلى آخر، فهو ما تفيده الظواهر السابقتين اللتين يستدل بهما العلماء على اعتبار العهد طريقًا في انعقاد الإمامة، ونعني بهما: عهد أبو بكر لعمر، وعهد عمر للستة الذين اختارهم، فإن هاتين لسابقتين تفيدان في الظاهر أن كلًّا من أبي بكر وعمر رضي الله عنها قد عهد من غير أن يجتمع مع عهده رضا الأمة بذلك ممثلة في أهل الحق في أهل الحل والعقد من كبار الصحابة، ونحب أن نبين أن كلًّا من الأمرين لا يصح أن يُجعل مرتكزًا للقول بانعقاد الإمامة بالعهد من الإمام وحده، وذلك لأنه بالنسبة إلى الأمر الأول فإنه مهما بلغت صفات الكمال في الخليفة فإنه بشرٌ غير معصومٍ من الخطأ لا يؤمن أن يميل في ساعة ضعفٍ إلى قريبٍ أو صديقٍ فيعهد إليه بأمر الخلافة، فكل هذا يدل على أن الإمام مهما اشترطنا فيه من شروط فهو بشرٌ، ليس ثمة ما يمنعه من أن يحيد عن
الواجب ويميل مع الهوى؛ فيعهد إلى من لا يستحق؛ لأن العصمة لم تثبت إلا للرسل -صلوات الله وسلامه عليهم.
وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني وهو: أن سابقتي عهد أبي بكر لعمر، وعهد عمر إلى أهل الشورى تفيدان في الظاهر أن العهد من الخليفة كافٍ وحده بدون أن يجتمع معه رضا الأمة الممثلة في أهل الحل والعقد، فإننا نقول فيما يتعلق بالسابقة الأولى -ونعني بها عهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما فإنه قد ثبت أن أبا بكر خير الناس بين أمرين: إما أن يختاروا هم من سيتولى الخلافة بعده، وإما أن يتركوا له أمر هذا الاختيار، فطلبوا منهم لثقتهم فيه أن يختار لهم؛ فإن أبا بكر بعد أن أحس بقرب نزوحه عن الدنيا أمر أن تجتمع له الناس؛ فاجتمعوا فقال: أيها الناس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وإنه لا بد لكم من رجلٍ يلي أمركم، ويصلي بكم، ويقاتل عدوكم، فيأمركم، فإن شئتم اجتمعتم فائتمرتم ثم وليتم عليكم من أردتم، وإن شئتم أجتهد لكم رأيي، والله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم في نفسي خيرًا؛ فبكى وبكى الناس، وقالوا: يا خليفة رسول الله أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا؟ قال: سأجتهد لكم وأختار لكم خيركم -إن شاء الله- ولقد رضي الناس عن عمل أبي بكر، وأظهروا السمع والطاعة لمن عهد إليه من غير إجبارٍ من أحدٍ؛ فإنه لما استقر رأيه على عمر أشرف على الناس وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا؟ فقالوا: سمعنا وأطعنا،
بل إن بعض الروايات التي وصفت ما حدث آنذاك تحكي أن الناس قبل أن يعرِفوا من هو المعهود إليه رضوا به لثقتهم التامة فيما يقوم به الصديق، وارتفع صوتٌ واحدٌ من كبار أهل الحل والعقد يطالب الخليفة بألا يعهد إلا إلى عمر. صحيحٌ أنه قد ثبت أن بعض الصحابة لِما يعلمونه من شدة عمر كانوا قد ناقشوا أبا بكر وعاتبوه عندما بلغهم اختيار عمر لهم، لكنهم رضوا بعد ذلك، فهذا معناه: أن أبا بكر -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- لم يعهد لعمر بن الخطاب إلا بعد أن استشار الناس، وأخذ رأي أهل الحل والعقد، ووافقوا على ذلك.
وأما بالنسبة إلى السابقة الثانية وهي: عهد عمر إلى أهل الشورى الستة، فإنه ثبت أن هؤلاء الستة كانوا حائزين رضا الأمة ولم يوجد غيرهم من يصلح للإمامة.
ننتهي من هذا كله إلى أن السابقتين اللتين يستدل بهما العلماء على انعقاد الإمامة، بالعهد من الخليفة تُفيدان في الواقع أن للإمام أن يرشح من سيخلفه في رئاسة الأمة، وهو موثوقٌ في حسن اختياره ما دام قد توافرت له الصفات المطلوبة في الإمام بعيدة عن التهم حتى لو رشح لها ابنه أو أباه، إلا أن هذا -كما قلنا- مجرد ترشيح ليس كافيًا وحده في انعقاد الإمامة للمعهود إليه، وإنما لا بد من رضا أهل الحل والعقد بهذا العهد، ومبايعتهم للمعهود إليه، فالمعهود إليه إذن لا تنعقد إمامته إلا بعد أن يبايعه أهل الحل والعقد، ولهم ألا يبايعوه وأن يختاروا غيره إذا لم يكن صالحًا في نظرهم لتولي هذا المنصب، وهذا هو ما كان يفهمه خلفاء بني أمية، فإنهم كانوا إذا عهدوا إلى قريبٍ لهم لم يكتفوا بالبيعة الصادرة من الخليفة، بل كانت البيعة تؤخذ من الناس للمعهود إليه والخليفة العاهد لا زال على قيد الحياة، ثم تجدد البيعة بعد موته، ولو كانوا