الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو المرتب بالعمل وجودًا وعدمًا، ومستوًى ومقدارًا؛ تنفيذًا لقوله تعالى:{إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30) وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) إنها قاعدة الأجر المساوي للعمل التي يأخذ بها الفكر الإداري الغربي المعاصر؛ وتنبثق عنها نظرياته المختلفة في ربط الأجر بالإنتاج.
وما دام التدرج في الأعمال يستند إلى التفاوت في العلم بأوسع معاني كلمة العلم -أي: مطلق المعرفة- سواء كانت نظرية أو عملية، والتي تتفاوت في أنواعها ومُددها، فإنه يتعين توفير فرص العمل للجميع حسب القدرات والملكات الذاتية، سواء في المدارس، والمعاهد، أو مراكز وبرامج التدريب، على اختلاف مراحلها، وتخصصاتها، وأسلوبها.
ونكتفي بهذا القدر من المحاضرة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 -
توجيهات الفكر الإسلامي (2)
تابع طبيعة تكوين المنظمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن طبيعة تكوين المنظمة، أو الجماعة التي تقوم بعمل ما. وتبين لنا أن من توجيهات الفكر الإداري الإسلامي للمنظمة، وأن يكون هناك تدرج رئاسي بين أفراد هذه المنظمة؛ حتى يتم العمل على أكمل وجه.
ونواصل الحديث الآن عن توجيه آخر لهذه المنظمة وهو: السلطة والمسئولية:
فنقول: يرتبط بالتدرج الرئاسي تحديد مدى السلطة والمسئولية في مختلف مستويات هذا التدرج؛ وعلى امتداد ما يعرف في الإدارة بـ"خط السلطة" وتعني السلطة: مُكنة، وقدرة، اتخاذ القرار أو التصرف النهائي أي: الملزم للآخرين الذين يتعين عليهم تنفيذه؛ والعمل بموجبه، إطاعة لمصدره، وأصحاب السلطة هم أولي الأمر، الذين أوجب القرآن الكريم إطاعتهم؛ تبعًا لإطاعة الله، وإطاعة رسوله، إذ يقول سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية: 59).
وهو ما رددته السنة النبوية الشريفة على سبيل التأكيد، مهدرة كل تمييز عنصري، أو عِرقي، أو طبقي، قد يحتج به لتعطيل هذا الأمر الواجب، إذ يقول
الرسول الكريم: ((اسمعوا، وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه ذبيبة)) إنها المساواة في أسمى صورها الإنسانية، ولم يستخدم الإسلام في هذا الصدد لفظ السلطة؛ تجنبًا لما قد يوحي به من نزعة التحكم والتسلط، التي أخذت على الفكر الإداري العلمي، وحاول الفكر الإداري الإنساني التخفيف من وقعها السيئ.
وحسب الإسلام في هذا الخصوص أنه أمر -حرصًا على انتظام الجماعة وانضباط أعضائها، حفاظًا على كيانها- بإطاعة أولي الأمر في الجماعة، وهم أصحاب السلطة المخولون صلاحية اتخاذ قرارات وتصرفات ملزمة؛ وتقترن السلطة في الإدارة بالمسئولية أي: المحاسبة على ممارستها، فلا توجد إحداهما دون الأخرى أي: أن السلطة مسئولة فلا بد من المسئولية، ليس هناك سلطة بدون مسئولية.
والإسلام يأخذ بالعمل المسئول، والمسئولية هنا شخصية، فكل شخص محاسب على ما جنته يداه، ولا تتعدى مسئوليته إلى سواه، وهو ما بينته الآيات الكريمة إذ يقول سبحانه وتعالى:{وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: من الآية: 93) ويقول تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: من الآية: 21) ويقول تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} (المدثر: 38) ويقول تبارك وتعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: من الآية: 164) ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25).
والمسئولية في الإسلام لا تقتصر على النشاط البدني، بل تشمل أيضًا النشاط الذهني فيقول جل جلاله:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: من الآية: 36) فالإنسان مسئول فكرًا وسلوكًا.
ويربط الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بين السلطة والمسئولية على نحو إنساني اجتماعي، وحيث تأخذ السلطة مفهومها الفطري السليم الذي عرفته البشرية ابتداء في خلية المجتمع الأولى وهي الأسرة؛ إنها رعاية شئون الآخرين وخدمتهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، والخادم راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ((ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) إنها أسمى توجيهات الفكر الإسلامي في حقل الإدارة، والتي يتضاءل أمامها أي فكر آخر، مهما أضفينا عليه وعلى رواده من قداسة علمية.
ثم نتحدث الآن عن الترابط الاجتماعي بين أفراد هذه المنظمة:
فنقول: يدعو الإسلام إلى الترابط الأخوي بين أعضاء الجماعة؛ إنماءً لوحدة الشعور بينهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) ويذكر المسلمين بنعمة التآلف فيقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: من الآية: 103) ويأمرنا -جل وعلا- بوحدة الصف، وينهى عن الفرقة فيقول:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية: 103) ويحذرنا سبحانه وتعالى من سوء مغبة التنازع فيقول تبارك وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: من الآية: 46) ويشير سبحانه إلى أنه ليس من العقل تدابر الجماعة، واختلاف أعضائها فيقول:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (الحشر: من الآية: 14).
وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة مبينة مظاهر هذا التماسك الاجتماعي وأساليبه؛ إذ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) ويقول أيضًا: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى ها هنا -وأشار إلى قلبه- بحسب امرئ من الشر أن يحقِّر أخاه المسلم)) هكذا يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم.
ويشبه -صلوات الله وسلامه عليه- هذا التماسك الاجتماعي وقوته بالجسد تارة، وبالبنيان تارة أخرى، فيقول:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) كما يقول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا -وشبك بين أصابعه-)).
ويعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج على الجماعة ومفارقتها رِدة جاهلية؛ فيقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية)) كما يقول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيء يكرهه فليصبرْ، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية)).
وأيضًا من الأمور أو التوجيهات التي وضعها الإسلام لأعضاء هذه المنظمة أو الجماعة التي تقوم بعمل معين هو: تبادل المشورة بين أفراد هذه الجماعة؛ فالإسلام لا يقتصر في الدعوة إلى التماسك الاجتماعي على الجانب السلوكي فقط، بل يمتد إلى الجانب الفكري، وذلك بدعوته أعضاء الجماعة إلى تبادل المشورة فيما بينهم، فيقول جل جلاله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38) كما
يقول سبحانه وتعالى في أخطر شئون الأسرة وهو فصل رابطة الزوجية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: من الآية: 223) وهو ما يحقق الترابط الفكري في العلاقات الأفقية بين أعضاء الجماعة بعضهم وبعض، وبينهم وبين أعضاء الجماعات الأخرى في سائر ما يمسهم من شئون.
ويحقق الإسلام هذا الترابط الفكري في العلاقات الرأسية أيضًا، إذ يأمر بتبادل المشورة بين الرؤساء والمرءوسين في مختلف مستويات التدرج الرئاسي بالجماعة -أي: المنظمة- إذ يقول سبحانه مخاطبًا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وكتوجيه عام لسائر القيادات والرئاسات: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} (آل عمران: من الآية: 159).
فالإسلام لو أنه بَنى الإسلام المجتمعات في إدارتها وتنظيم شئونها، مع تعيين مصدر القوامة فيها بنى هذه المجتمعات على أساس من الشورى، وتبادل الرأي، يشاور الرئيس المرءوس، والحاكم المحكوم، ويكون العزم في الفعل على ما يتم على طريق المشورة؛ قرر الإسلام هذا، وجعله شأنًا من شئون المسلمين في مجتمعاتهم، والواقع أن تبادل المشورة بين مختلف العاملين في المنظمة لا يُدعم جماعية الفكر والتفاهم المشترك بينهم فحسب؛ بل ينمي شخصية كل فرد، ويرفع معنوياته، ويزكي شعوره بالانتماء والولاء للمنظمة، إذ يشارك بالرأي فيما يجد من شئونها.
ويأمرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بإبداء الرأي عند طلبه، وأن يكون ذلك بأمانة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:((إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)) ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن)).
وهكذا يضع لنا الإسلام دعائم التكوين الهيكلي للمنظمة، ويرشدنا إلى الأساليب الفعالة؛ لتحقيق تماسك أفراد الجماعة سلوكيًّا وفكريًّا، في نهج منضبط سوي، لم يرق إليه الفكر الإداري المعاصر في اتجاهيه العلمي والإنساني المتطرفين.