الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما أثر اليمين في الدعوى: فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم المطالبة بالحق في الحال لا مطلقًا، وإنما مؤقتًا إلا وقت إقامة البينة، فلا تفيد اليمين براءة ذمة المدعى عليه عند جمهور الفقهاء.
تعارض الدعويين مع تعارض البينتين
ونتحدث الآن عن حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في الملك، فنقول:
لذلك احتمالات ثلاثة، أي: حال التعارض الدعويين مع تعارض البينتين في الملك في هذا الأمر احتمالات ثلاثة، وهي: التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، بمعنى: أن يكون التعارض بين الدعويين بين إنسان يضع يده على شيء مدعى به، وإنسان آخر لا يضع يده عليه، والذي لا يضع يده عليه نسميه الخارج، التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، هذا احتمال.
وأيضا التعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد، بمعنى: أن يكون الشيء المدعى به في يد طرف ثالث، أما الخصوم فهم لا يضعون أيديهم أو أيديهما على هذا الشيء، ويأتي كل منهما بدعوى تعارض الأخرى، وهذا هو الاحتمال الثاني.
الاحتمال الثالث: هو التعارض في الدعويين بين ذوي اليد، بمعنى: أن يكون الشيء في يد الإنسان الاثنين معًا، ويدعي كل منهما أن الشيء ملك له وحده دون صاحبه.
وسوف نبحث هذه الاحتمالات الثلاثة:
الأول: تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد، يعني: تعارض الدعويين بين من يضع يده على الشيء وبين إنسان آخر لا يضع يده على شيء، وفي هذه الحالة: اختلف الفقهاء.
فذهب الحنفية والحنابلة إلى التفصيل الآتي:
1 -
إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ، ففي هذه الحالة بينة المدعي، وتسمى بينة الخارج أولى بالقبول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) فجعل جنس البينة على المدعي فلا يأبه لبينة ذي اليد، يعني: الحائز؛ لأنه ليس بمدعٍ فلا تكون البينة حجته، والدليل على أنه ليس بمدعٍ عدم انطباق وصف المدعى عليه؛ لأن المدعي هو من يخبر عما في يد غيره لنفسه والموصوف بهذه الصفة هو الخارج وليس ذو اليد؛ لأنه يخبر عما في يد نفسه لنفسه، فلم يكن مدعيًا وإنما هو مدعى عليه، فلا تكون البينة حجة له، فتعد بينته لاغية، ولا يعتد بها، وأيضًا لأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل، ودليل كثيرة فائدتها أنها تثبت شيئًا لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت أمرًا ظاهرًا تدل اليد عليه، فلم تكن مفيدة، أي: أن بينته لا تفيد أكثر مما تفيد اليد أي الحيازة فقط.
2 -
إذا كانت البنيتان مؤرختين وتاريخهما سواء، يعني: اتفقتا في التاريخ، ففي هذه الحالة يقضي للمدعي الخارج، يعني: غير الحائز؛ لأنه لم يثبت صدق ملك أحدهما، إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي الحال حال دعوى ملك المطلق كالصورة الأولى.
3 -
إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، أي: إذا كان تاريخ أحد الدعويين أسبق من الآخر، ففي هذه الحالة يقضي للأسبق، يقضى للأسبق وقتًا أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد؛ لأن بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد؛ فيثبت له الحق في موضوع النزاع، إلا أن يثبت الآخر سببًا لنقل الملكية له.
4 -
إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، أي: إذا أرخ أحدهما دعوته، ولم يؤرخ الآخر دعوته، ففي هذه الحالة يقضى للخارج، يعني: غير الحائز عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الملك المطلق يحتمل التأخير والسبق؛ لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقت بينته كان وقتها أسبق فوقع الاحتمال في سبق الملك المؤقت، وإذا حصل الاحتمال في شيء سقط اعتباره فيسقط اعتبار الوقت، وتبقى الدعوى دعوى ملك المطلق فيقضي للخارج.
وقال أبو يوسف يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لأن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت معين خاص به، لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين، بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها، والمعارضة لا تثبت بالشك، فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة، فيقضى له.
هذا هو التفصيل الذي ذهب إليه الأحناف والحنابلة.
وننظر الآن إلى ما ذهب إليه المالكية والشافعية في هذا الموضوع، فنقول: ذهب المالكية والشافعية في هذه الصور المتعددة إلى: أنه تقدم بينة صاحب اليد -أي: الحائز- وتسمى بينة الداخل، قال: تقدم بينته على الإطلاق دون نظر إلى ما إذا كانت هذه الدعوى مؤرخة أو غير مؤرخة، وما إذا كانت مؤرخة، وأحدها سبق الآخر أم لا، قالوا: تقدم بينة صاحب اليد، وتسمى بينة الداخل على الإطلاق؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، فتعارضت البينتان، وترجحت بينة صاحب اليد بيده، أي: بحيازته، كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس، فيقضى بالشيء لصاحب اليد، وأيضًا: لأن بينة المدعى عليه تفيد معنًى زائدًا على كون الشيء المدعي فيه موجودًا بيده، ولأن جانب المدعى عليه أقوى استصحابًا للأصل، فالأصل معه، وهو بقاء ما كان على ما كان، ويمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان وجب إيفاء أو إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت عليه، ويقدم هو كما لو لم تكن بينة لأحد المتنازعين، ويؤيد هذا
حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الرجلين في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده.
وننتقل الآن إلى الحديث عن الاحتمال الثاني في التعارض بين البينتين، وهو حال التعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك المطلق، يعني: أن الشيء في يد إنسان، ويأتي اثنان آخران يتنازعان في ملكيته، وأيديهما بعيدة عن هذا الشيء، تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك المطلق، فنقول: إذا تنازع اثنان عينًا وهي في يد شخص ثالث، وهو منكر لها، وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات حقه فيها، فاختلف الفقهاء في: من يقضى له بهذه العين؟
فقال الشافعية في الأرجح تهاترت البينتان، أي: تساقطتا وبطلتا لتناقضهما، سواء أكانت البينتان مطلقتي التاريخ أم متفقتين في التاريخ أم إحداهما مطلقة عن التاريخ، والأخرى مؤرخة، فأشبه ذلك تعارض الدليلين ولا مرجح بينهما، فكأنه لا بينة ويصار إلى الحكم في القضية كما لو تداعيا، ولا بينة لواحد منهما، فيحلف كل واحد منهما يمينًا ويقضى بالشيء بينهما نصفين.
وكذلك قال المالكية: تسقط البينتان، ويقضى كأنه لا بينة، فيحلف كل منهما يمينًا، ويقسم الشيء بينهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضي له.
والراجح عند الحنابلة: أن البينتان تسقطتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة فمن خرجت له قرعة حلف وأخذ العين.
أما بالنسبة للأحناف فقد كان لهم تفصيل في هذه الصورة:
قالوا: إذا كانت الدعوى من الخارجيين، وقامت البينتان على ملك المطلق بلا تاريخ أو كان تاريخهما متفق، والشيء في يد ثالث، ففي هذه الحالة يقضى به بينهما نصفين،
عملًا بالبينتين بقدر الإمكان صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن، ويؤيد ذلك: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم به بينهما نصفين.
وقالوا أيضًا: إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق أولى؛ لأن كلا من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتهما مسموعتين مقبولتين قضاءً، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق ما.
وقالوا أيضًا: إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، ففي هذه الحالة يقضى بينهما نصفين، كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، ولا عبرة للتاريخ.
ثم ننتقل الآن إلى الاحتمال الثالث: وهو تعارض الدعويين في ملك المطلق بين ذوي اليد، يعني: الشيء في يد شخصين معًا، وأقام كل منهما بينة أنه حق خالص له، وتعارضت البينتان، نقول: إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي: تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لها منفردًا.
اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعية على الصحيح عندهم: تهاترت البينتان، أي: تساقطتا وبطلتا؛ لتعارضهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما كما كانت، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر.
وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى رضي الله عنه:((أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين)).
وبالنسبة للأحناف، ومسلكهم في هذا الطريق فهو كمسلكهم في الاحتمالين السابقين وهو التفصيل، فقالوا:
إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له بدون تاريخ، فإنه يقضى بالشيء بينهما نصفين، أما إن أرخ كل واحد منهما بينته، وكان التاريخ واحدًا ففي هذه الحالة -أيضًا- يقضى بالشيء بينهما نصفين كما في الصورة الأولى، أما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق، فالأسبق الأولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد، فيكون الشيء بينهما نصفين.
وأيضًا إن أرخ أحدهما دون الآخر فإنه يقضي بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد، ولا عبرة للوقت؛ لأنه ساقط الاعتبار لوجود الاحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الآخر وتأخره.
وقال أبو يوسف: هو لصاحب التاريخ، أي: للأسبق تاريخًا، أو للذي أرخ دون الذي لم يؤرخ.
وهنا نتساءل: هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟
نقول: في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالات تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء: أنه لا ترجح إحدى البينتين بكثرة عدد الشهود، ولا اشتهار العدالة؛ لأن كلًا من البينتين حجة كاملة من الطرفين بالتقدير الشرع، فلا تتقوى بالزيادة، كما هو الشأن في الديات لا يختلف مقدارها باختلاف الأشخاص. قال الإمام مالك: يرجح بزيادة العدالة.
وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن تعارض الدعويين والبينتين، وكيف يحل هذا التعارض عند فقهاء المذاهب كما بينا.