الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نُورٍ} (النور: 40) لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم:((إنما هي أعمالكم ترد عليكم)) وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم: من الآية: 7).
حكم نصب الإمام
موقف العلماء من نصب رئيس الدولة:
بيان آراء العلماء فيما إذا كان يجب أن تقام هذه الرياسة أو لا يجب، أي هل يجب عن ينصب المسلمون إمامًا لهم أم أن ذلك ليس من الأمور الواجبة؟
اختلف علماء الأمة في نصب الإمام الأعظم أو رئيس الدولة هل يجب أو لا يجب على أربعة مذاهب:
المذهب الأول: يرى وجوب نصب الإمام مطلقًا، أي سواء كان ذلك في حال الأمن والاستقرار، أم في حال ظهور الفتن والاضطرابات.
المذهب الثاني: يرى عدم وجوب نصبه مطلقًا.
المذهب الثالث: يرى وجوب نصبه في حال الفتن والاضطرابات، ولا يرى وجوب ذلك في حال الأمن والاستقرار.
المذهب الرابع: أنه يجب نصب الإمام في حال الأمن، ولا يرى وجوب ذلك في حال ظهور الفتن.
القائلون بوجوب نصب الرئيس الأعلى للدولة هم الجمهور الأكثر من علماء الأمة؛ إذ هو رأي أهل السنة جميعًا، ورأي المرجئة جميعًا، وأكثر المعتزلة والخوارج عدى النجدات منهم، ورأي الشيعة جميعًا، إلا أننا يجب أن ننبه إلى عدة أمور:
الأمر الأول: أن هؤلاء مع اتفاقهم جميعًا على القول بوجوب نصب الإمام مطلقًا -أي في كل حال- سواء كانت حال أمن وعدم اضطراب وفتنة، أم حال اضطراب وفتنة، إلا أنهم اختلفوا في الطريق الذي أدى إلى الوجوب: هل هو الشرع أم العقل؟
فأهل السنة قالوا: إن الأدلة السمعية هي التي دلّت على وجوب نصب الإمام، ولا مدخل للعقل في ذلك، انطلاقا من المبدأ الذي يلتزمون به، وهو أن الأحكام إنما تؤخذ من الشرع؛ ولأن الإمام مقصود به القيام بأمور شرعية، كإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وأما الزيدية، وأكثر المعتزلة، والاثنا عشريه، فقد قالوا: إن العقل هو الذي دلّ على وجوب نصب الإمام، ثم القائلون أن العقل هو الذي دل على وجوب نصب الإمام، ينقسمون من حيث توجه الوجوب: هل يتوجه إلى الناس أم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى؟
الأمر الثاني: أن الجماهير أو جمهور الفقهاء الذين قالوا: "إن معرفة وجوب نصب الإمام ليس لها طريق إلا الشرع" هؤلاء الجمهور قد بينوا أن مرادهم بالوجوب هنا هو الوجوب الكفائي لا الوجوب العيني، بمعنى أنه يجب على الأمة أن تنصب إمامًا لحراسة الدين وسياسة الدنيا، وهذا الوجوب متوجِّه إلى جميع أهل الحل والعقد متوجِّه إلى جميع أهل الحل والعقد والصالحين لتولي هذا المنصب، فإذا ما قام بعض أهل الحل والعقد بهذا الواجب سقط الوجوب عن باقيهم، أما إذا لم يقم أحدٌ بهذا الواجب فإن أهل الحل والعقد جميعًا آثمون، وليس يأثم غيرهم من أهل الأمة الذين لا تتوافر فيهم صفات أهل الحل والعقد، فليس مراد الجماهير هنا بالوجوب الواجب العيني؛ لأنهم لم يقولوا بأنه يجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يشترك في نصب الإمام؛ ولذلك قال القاضي أبو يعلى
-يتكلم عن الإمامة-: وهي فرضٌ على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس: أحداهما: أهل الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة. وليس على من عدى هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم.
ثم بعد ذلك نتحدث عن البراهين أو الأدلة على مذهب الوجوب، يعني مذهب القائلين بأنه يجب نصب الإمام -وهم كما قلنا: جماهير العلماء- نقول: لمّا كان وجوب نصب الإمام قد قال به جمهور الأمة الإسلامية من أهل السنة وغيرهم -كما بينا - ولمّا كان أهل السنة استدلوا على دعواهم ببراهين غير البراهين التي استدلّ بها غيرهم، ولمّا كان ثمة جماعة من القائلين بوجوب نصب الإمام ترى أن الوجوب هنا ليس متوجهًا إلي الخلق بل متوجه إلى الخالق -جل وعلا- كان لزامًا علينا أن نبيّن أدلة كل جماعة من الجماعات القائلة بوجوب نصب الإمام كل على حدة؛ حتى تظهر وجهة نظر الكل واضحةً جليةً إيذاء هذا المنصب الخطير:
البرهان الأول أو الدليل الأول من أدلة أهل السنة على أن نصب الإمام إنما هو من الأمور الواجبة:
استدل أصحاب هذا الرأي بالإجماع، والإجماع هنا من أقوى البراهين عند أهل السنة ومن وافقهم في مذهبهم، على وجوب نصب الإمام شرعًا، بل هو أقواها على الإطلاق، وهو إجماع الأمة الإسلامية على أنه يجب نصب رئيس أعلى للدولة؛ وذلك أنه قد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على وجوب نصب رئيس لهم ليخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية أمور الأمة، في القيام بحراسة الدين وسياسة الدنيا، فقاموا باختيار أبي بكر رضي الله عنه خليفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، بعد نقاشٍ وحوار حادٍّ بين المهاجرين والأنصار، انتهى هذا الأمر باقتناع الأنصار بأن الرياسة العليا يجب أن تكون في قريش، ووافقوا على اختيار أبي بكر خليفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم-
وفي اليوم التالي حاز هذا الإجراء الذي اتخذه المشركون في الصحيفة، حاز على موافقة الصحابة الذين لم يكونوا حاضري هذا الاجتماع، ثم إن الصحابة وإن كانوا قد اختلفوا بادئ الأمر في تعيين شخص الإمام، إلا أنّ هذا لا يقدح في اتفاقهم جميعًا على وجوب نصبه، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد خطب في الناس عقب موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل مبايعته خليفة قائلًا:"أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: من الآية: 144) ثم قال: "وإن محمدًا قد مضى لسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فانظروا وهاتوا آراءكم -رحمكم الله- فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر، ولكنا نصبح فننظر في هذا الأمر، ونختار من يقوم به، ولم يوجد من الصحابة من يقول: إن هذا الأمر يصلح من غير قائم به.
البرهان الثاني أو الدليل الثاني:
نصب الإمام فيه دفع الضرر المظنون، يقول أصحاب هذا الرأي: إن في نصب الإمام دفعًا للضرر المظنون بعدم نصبه، ودفع الضرر المظنون واجب إجماعًا؛ فالنتيجة أن نصب الإمام واجب. فأما بيان نصب الإمام فيه دفع ضرر مظنون، فإن الناس لا يستطيعون العيش منفردين؛ لأن الإنسان اجتماعي بالطبع، لا يستطيع الحياة الكاملة بعيدًا عن أفراد جنسه، وإذا كان الناس لا يستطيعون الحياة إلا مجتمعين، وهم -كما قال العلماء- مع اختلاف الأهواء، وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء، قلما ينقاد بعضهم لبعض، فيفضي ذلك إلى التنازع، وربما أدّى إلى هلاكهم جميعًا، ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة إلى موضعٍ آخر، بحيث لو تمادى لعطِّلت المعايش وصار كل واحد مشغول بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه؛ وذلك يؤدي إلى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين، ففي نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها.
وإما أن دفع الضرر واجبٌ؛ فهذا متفقٌ عليه بين العقلاء جميعًا، ونرى العلماء بعد أن يقرروا الدليل هكذا يجيبون على ما يمكن أن يَعترض به معترض، فيقول المعترض: إنكم تقولون: إن نصب الإمام فيه دفع الضرر المظنون، ونحن نقول: بل في نصب الإمام ضرر مظنون، وهو منفي بقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) وبيان أن في نصب الإمام أضرارًا من ثلاثة أوجه، أي أنهم يبيّنون أو أن جمهور الفقهاء يقولون بأن نصب الإمام فيه دفع للضرر المظنون؛ لأن الناس لا يستطيعون العيش في مجتمع إلا إذا وُجد من يقوم على أمرهم، ويمنع الظلم -أي ظلم بعضهم لبعض- ويؤدي الحقوق إلى أصحابها.
هناك اعتراض من الذين يقولون بأنه لا يجب نصب الإمام، وهذا الاعتراض ينصب على أنه قد يكون في نصب الإمام ضَرَرٌ، وبيّنوا ذلك من وجوه:
- قالوا أن الإنسان إذا وُلِّيَ غيره عليه في الأمور التي يهتدي إليها، والأمور التي لا يهتدي إليها، فيه من الإضرار ما هو ظاهر، يعني أن الإنسان بطبعه لا يريد الرياسة.
- أيضًا أن بعض الناس قد يستنكفون عن تولية غيرهم عليهم، كما هي عادة الناس، وهذا يؤدي إلى التنازع وحدوث الفتن بين أفراد الأمة.
- وأيضًا بما أن الإمام معرض للخطر فيمكن أن يحدث الفسق، بل من الممكن أن يحدث منه الكفر، فإن لم تقم الأمة بعزله أضر بها بفسقه وكفره، وإن عزل أدى ذلك إلى تهييج الفتن والاضطرابات.
نقول: هذا ما يمكن أن يعترض به المعترِض على هذا الدليل، لكنّ أصحاب الرأي الأول -وهم جمهور الفقهاء- يجيبون على هذا بأن الإضرار اللازم من ترك نصب الإمام أكثر بكثير من الإضرار الحاصل من نصبه؛ ولذلك يقال:"ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان" ولا شك أن دفع الضرر الأعظم واجب؛ فنصب الإمام واجب.
يقول فخر الدين الرازي مجيبًا إلى أن هذه الأضرار وأمثالها قد تحصل: لا نزاع أن هذه المحظورات فد تحصل، لكن كلّ عاقلٍ يعلم أنه إذا قوبلت المفاسد الحاصلة
من عدم الرئيس المطاع بالمفاسد الحاصلة من وجوده، فالمفاسد الحاصلة من عدمه أزيد بكثير من المفاسد الحاصلة من وجوده، وعند وقوع التعارض تكون العبرة بالرجحان، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، يعني معنى ذلك يتحمل الضرر الأقل في سبيل دفع الضرر الأعظم.
ومن الأدلة أيضًا على وجوب نصب الإمام:
أن نصب الإمام لا يتمّ الواجبُ إلا به، وبيان ذلك أنه من المعلوم أن الشارع تبارك وتعالى أمر بإقامة الحدود على مستحقّيها، وتجهيز الجيوش للجهاد، وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام، وذلك لا يقوم به فرد أو الأفراد، وإنما يقوم به سلطة عليا لها من الإمكانات الواسعة، وحق الطاعة على مجموع الأمة، ولها من قدرة التوجيه، ما يعينها على تنفيذ هذه الواجبات، وهذه السلطة العليا تتمثّل في الإمامة العظمى، فبها يُستطاع القيام بكل هذه الواجبات، وما يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، فنصب الإمام واجب؛ ولذلك يقول البعض: والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، تجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم
…
كل ذلك يحتاج إلى إمام، إذا لم يوجد إمام فقد تعطّلت كل هذه الأشياء.
البرهان الرابع أو الدليل الرابع:
على وجوب نصب الإمام: أن الصحابة بادروا بنصب إمام قبل قيامهم بدفن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني أصحاب هذا الرأي القائلون بوجوب نصب الإمام يقولون بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتموا بأمر الخلافة، وحتى قبل أن يُوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثرى -قبل أن يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صحابة بادوار بنصب إمام قبل قيامهم بدفن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن الصحابة قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى اجتماعهم إلى اختيار أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك عقب موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يقوموا بدفنه؛ مما يدل على أنهم اعتبروا نصب الإمام أهم الواجبات، وإلا لما رضوا بدفن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وتقديم نصب الإمامة عليه.
هذه هي أدلة أصحاب الرأي الأول، وهم جمهور الفقهاء وجمهور أهل السنة القائلون: أنه يجب نصب الإمام، واستدلوا بالأدلة الأربعة التي ذكرناها، ولكن هذه الأدلة لم تسلم من الاعتراض عليها، ولم تسلم من المناقشة، فمن هذا المنطلق نقول:
على الرغم من أن الإجماع -هذا هو الإجماع الدليل الأول الذي استدل به جمهور الفقهاء على وجوب نصب الإمام -يعتبر أقوى دليل من الأدلة التي استدل بها أهل السنة ومن وافقهم فيما يرونه من وجوب نصب الرئيس الأعلى على الأمة، إلا أنّنا نجد أن البعض قد أثار الجدل حول هذا الدليل، محاولًا إيجاد احتمال أن يكون الصحابة قد بادروا بنصب الإمام عند موت كل رئيس، نظرًا إلى ظرف خاصٍّ اقتضى مبادرتهم هذه. فيقول بعض المعترضين: إن ذلك يدل -إن كان دالًّا- على حسن إقامة الإمام، وجواز نصبه، ولا يدل على وجوب ذلك في كل عصر وزمان؛ لأنه لا يُمتنع أن يكون العاقدون لأبي بكر والمجتمعون للشورى، إنما بادروا إلى ما بادروا إليه وحرصوا عليه؛ لأن الحال اقتضته -يعني هو الظروف اقتضت ذلك، وربما إذا لم توجد هذه الظروف لم يفعلوا ذلك- ولأنه غلب في ظنونهم أن إهمال العقد فيه فساد وانتشار، وليس فيمن يخالف في وجوب الإمامة على كل حال من ينفي حسنها، ويدفع أن يقتضي بعض الأحوال الفزع إليها؛ ولذلك يقول هذا المعترض: إن الإمام قد يجوز أن يُستغنى عنه في بعض الأحوال، التي تغلب في الظن أن الناس فيها يلزمون فيها الصلاح والسداد في الأكثر، هذا الاعتراض ينصب على أنّ الإجماع الذي استدل به أهل السنة، أو غالبية الفقهاء، وجمهور العلماء، على وجوب نصب الإمام، وهو الإجماع، وهو أن الصحابة قد أجمعوا على خلافة أبي بكر، المعترض يرد على ذلك ويقول: ربما الذي دفع المسلمين إلى ذلك ظروف معينة، لكن إذا لم توجد ظروف في بعض الأوقات فإن ذلك ليس معناه وجوب نصب الإمام. فهذا النوع تشكيك في الإجماع.
لكن الفقهاء ردوا على ذلك، فنقول ردًّا على هذا: بأن الظاهر من فعل الصحابة من إقامتهم إمامًا جديدًا عند موت كل إمام، وتكرّر ذلك منهم في أحوالٍ عديدةٍ، أن ذلك لوجود الداعي في كل حال إلى إقامة هذا الإمام. فالرد عليه أو