الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الخامس في
الدعوى:
أن يكون موضوع الدعوى أمرًا يمكن إلزام المدعى عليه به -أي: أن يكون الطلب مشروعًا ملزمًا في مفهومنا الحاضر- فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيءٍ فلا تقبل الدعوى كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم عند القاضي في أمرٍ من أموره، أو يدعى على شخصٍ بطلب صدقة، أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لأن الوكالة عقد غير لازم فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال.
سادسًا: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت؛ لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخصٌ لمن هو أكبر سنًا منه: هذا ابني لا تسمع دعواه لاستحالة أن يكون الأكبر سنًا ابنا لمن هو أصغر منه سنًا، وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير هذا ابني لا تُسمع دعواه.
هذه هي شروط صحة الدعوى حتى تُسمع عند القاضي، نكتفي بهذا القدر، وأستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 -
الدعوى وتعارضها ووسائل الإثبات
الدعوى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فسوف نبدأ الحديث في هذه المحاضرة عن أنواع الدعوى القضائية، فنقول: الدعوى نوعان: صحيحة، وفاسدة.
فالدعوى الصحيحة هي التي استكملت شرائط الصحة، ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها، وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، ومطالبته بالجواب على دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به، ويثبت فيها حق المدعي إما بالبينة أو بنكول المدعى عليه عن اليمين.
والدعوى الفاسدة أو الباطلة هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة منها؛ كأن تكون الدعوى على
غائب، أو كان المدعى به مجهولًا؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول لا بالبينة، ولا بالنكول عن اليمين.
ونبحث الآن عن: من هو المدعي والمدعى عليه؟ فنقول: لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه، وهي من أهم ما تبتنى عليه الدعاوى، لاسيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما، كان من الضروري تعيين المتصف بصفة المدعي وتعيين المتصف بصفة المدعى عليه.
وفي تعيينه تعريفات شتى، منها: أن المدعي هو من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه مطالب، أو هو من خالف قوله الظاهر -أي: ظاهر الحال- والمدعى عليه هو من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب، أو هو من وافق قوله ظاهر الحال، والظاهر هو البراءة.
وقيل: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته، والمدعى عليه: هو من ينكر ذلك، وقيل: المدعى عليه هو المنكر والآخر هو المدعي.
ونتكلم الآن عن حكم الدعوى، أو ما يجب على المدعى عليه بعد الإدعاء، فنقول:
للقاضي الدور المهم في الدعوى، فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن موضوع الدعوى، فإذا كانت الدعوى صحيحة بأن كانت على خصم حاضر، واستوفت شروطها طلب
القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لأن قطع دابر الخصومة أمر واجب، فحكم الدعوى -إذن- وجوب الجواب على المدعي عليه بقوله لا أو نعم، حتى إنه لو سكت كان سكوته إنكارًا، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه، فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه، وإن أنكر طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة، وإن عجز المدعي عن تقديم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي:((ألك بينة؟ قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلك يمينه)) أي: يمين المدعى عليه، فإن قال المدعي: لي بينة حاضرة في البلد، وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي حنيفة؛ لأن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة كما في الحديث المذكور قريبًا.
وقال أبو يوسف: يستحلف لأن طلب اليمين حق المدعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)).
ثم نتكلم الآن عن حجج المتداعيين أو طرق إثبات الحق، فنقول:
طرق الإثبات التي يعتمد عليها في القضاء هي: الشهادة، واليمين، والنكول، والإقرار، أو الشهادة مع اليمين، أو القرائن في بعض الأحوال.
أما الشهادة: فهي حجة المدعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((البينة على المدعي)) ولأن المدعي يدعي أمرًا خفيًا؛ فيحتاج إلى إظهاره، وللبينة قوة الإظهار، والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه ضعيف؛ لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف
الحجة القوية وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي؛ لأنه متمسك بالأصل، وهو البراءة؛ فاكتفي منه بالحجة الضعيفة، وهي اليمين.
والبينة: إما شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربعة نسوة.
وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((واليمين على المدعى عليه)) فإن حلف المدعى عليه قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة، وإن نكل عن اليمين، أي إن نكل المدعى عليه عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضي عليه بمجرد النكول؟
فيه رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي:
فنقول: إذا أبى المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي؟ أو يقضى بنكول صاحبه عن اليمين؟ كما قلنا اختلف العلماء في الموضوع:
قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال، وما يؤول إليها فقط، وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ماعدا جنايات الدماء والحدود ويقضى له بما ادعاه، ولا يقضى بمجرد نكول المدعى عليه.
ويعتبر اليمين المقرورة إقرارًا حكمًا، وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد.
وعلى هذا: يكون رأي الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، هو القول برد اليمين على المدعي؛ لكن المحتار عند الحنابلة القول بعدم رد اليمين.
واستدل الجمهور القائلون برد اليمين على المدعي في حالة نقول المدعى عليه، استدلوا بما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق، ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طُلِبت منه ظهر صدق المدعي وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، وقال تعالى:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (المائدة: من الآية 108) أي: بعد
الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل ذلك على نقل الأيمان من جهة إلى أخرى، ولا يقضى عند الجمهور بمجرد النكول لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعًا وتحرزًا عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعًا عن اليمين الصادقة، فلا يقضي للمدعى مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلًا عند عدم ما هو أقوى منها.
وقال الحنفية والحنابلة -في المشهور عندهم-: لا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي على المدعى عليه بمجرد النكول عن اليمين، ويلزم بما ادعي عليه به.
والنكول إما أن يكون حقيقة، كقوله: لا أحلف، أو حكمًا، كأن يسكت، وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة، ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبداء العذر، ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين عليه ثلاث مرات، بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثًا، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((البنية على المدعي واليمين على من أنكر)) فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين كما جعل جنس البينة على المدعين، واستدل الحنفية أيضا بأن النكول دليل على كون المدعى عليه مقر بهذا الحق المدعى به عليه، ولولا ذلك لأقدم على اليمين دفعًا لضرر الدعوى عن نفسه، وقيامًا بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:((واليمين على من أنكر)) وكلمة على تدل على الوجوب.
وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي، فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بمجرد نكوله.
كيفية اليمين، وأثرها في الدعوى:
لليمين كيفية معينة، سواء كانت يمينًا مردودة أم مع الشاهد أم يمينًا من المدعى عليه، فقد اتفق العلماء على: أن اليمين تكون بالله عز وجل دون غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم:((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر)).
واتفقوا أيضًا على: أن اليمين المشروعة في الحقوق التي هي براء بها المدين هي اليمين بالله.
وقال الشافعية: يندب تغليظ اليمين، وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال، ولا يقصد به مال، كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة وفي مال يبلغ نصاب زكاة لا فيما دونه، والتغليظ يكون مثلًا: بزيادة أسماء وصفات الله عز وجل كأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلانية، أو بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى.
وقال الحنابلة: اليمين التي هي براء بها المدين هي اليمين بالله، وإن كان الحالف كافرًا، لقوله تعالى:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: من الآية: 107) وقوله سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (النور: من الآية: 53).
قال بعض المفسرين: من أقسم بالله فقد أقسم جهد اليمين.
وقال الحنفية: للقاضي أن يحلف المسلم من غير تغليظ مثل: بالله أو والله، وله أن يغلظ أن يؤكد اليمين بذكر أوصاف الله تعالى، مثل قوله قل: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما
يعلم من العلانية ما لفلان هذا علي، ولا قبل هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا، ولا شيء منه، وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها.
والحلف ينبغي أن تكون على البت أو على نفي العلم، فيحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الأربعة على البت، وهو القطع والجزم في فعله إثباتًا كان أو نفيًا؛ لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها؛ فيكون في البيع والشراء حالة الإثبات،: والله لقد بعت بكذا، أو اشتريت بكذا، وفي حالة النفي يقول: والله ما بعت بكذا، ولا اشتريت بكذا.
وكذلك يحلف الشخص على البت على فعل غيره إن كان الأمر إثباتًا كبيع وإتلاف وغصب؛ لأنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به، وإن كان نفيًا فيحلف على نفي العلم أي: لا يعلم أنه كذلك لعدم علمه بما فعل غيره فيقول: والله ما علمت أنه فعل كذا.
والعبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف، فيلاحظ أن: النية في الحلف بنية القاضي المستحلف للخصم، أي: الذي يقوم بتحليف الخصم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اليمين على نية المستحلف)) وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف لبطلت فائدة الأيمان، وضاعت الحقوق، إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فلو ورى الحالف في يمينه بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول، أي: اعتقد خلاف نية القاضي أو استثنى الحالف كقوله عقب يمينه -إن شاء الله-، أو وصل باللفظ شرطًا مثل: إن دخلت الدار، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر اسم اليمين الفاجرة، أي: أنه لا تنفعه هذه الأمور، ولا هذه التأويلات؛ لأنه لو فعلنا ذلك لضاع المقصود من اليمين، وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.