المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

ثانيًا: استدلوا بالإجماع، وذلك أن الصحابة قد أجمعوا على أنه لا يجوز إلا إمام واحد، حتى إن المهاجرين لم يوافقوا الأنصار عندما نادوا أولًا بأن يكون منهم أمير، ومن المهاجرين أمير، ثم رضي الأنصار بما أبداه المهاجرون فصار إجماعًا.

الدليل الثالث أيضًا على منع التعدد: أن تعدد الأئمة يؤدي إلى وقوع المنازعات والمخاصمات، وهذه تؤدي إلى اختلال أمر الدين والدنيا، فتعدد الأئمة مؤد إلى اختلاف أمر الدين والدنيا، وذلك غير جائز.

أما أصحاب الرأي الآخر، وهم قلة من العلماء، فيقولون بجواز التعدد، واستدلوا على ذلك بأن الإمام جُعل لتحقيق مصالح الأمة، وإذا كان في كل ناحية إمام، كان كل واحد أقوم بما في يديه؛ لقلة المصالح حينئذ، وأضبط في متابعة من يوليهم من الولاة، والقضاة، وسائر الأعمال، وأيضًا استدلوا بأنه لما جاز أن يكون أكثر من نبي في عصر واحد، ولم يؤد إلى إبطال النبوة، جاز ذلك في الإمام من باب أولى؛ لأنها فرع النبوة.

لكن هؤلاء قد ناقشهم جمهور العلماء، وناقشوا هذه الأدلة، واتضح بطلان هذه الأدلة.

أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

2 -

انعقاد الإمامة عن طريق العهد والقهر

‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن شرط القرشية، وشرط تقديم الأفضل بالنسبة لاختيار الإمام وبالنسبة للشروط التي يجب توافرها فيه، وبدأنا الحديث عن الطرق التي تنعقد بها الإمامة العظمى، وتبين لنا أن الطريق الأول: هو اختيار أهل الحل والعقد، وتحدثنا فيه عن البيعة، وعن شروط البيعة، ونكمل الآن عن الحديث عن هذا الطريق فنتكلم عن أهل الحل والعقد، ثم نبين شروطهم، فنقول:

أهل الحل والعقد كما يسميهم غالب العلماء، أو أهل الاختيار كما يسميهم الإمام الماوردي، أو أهل الاجتهاد كما يسميهم البعض الآخر: هم جماعة معينة من فضلاء الأمة يُوكل إليهم النظر في مصالحها الدينية والدنيوية، ومنها اختيار رئيس الدولة أو الإمام الأعظم، فهم المسئولون عن تصفح أحوال الذين يمكن أن يكونوا صالحين لتولي هذا المنصب الخطير، والاجتهاد في ذلك، فمن رأوه صالحًا لتولي هذا المنصب بايعوه

ص: 535

رئيسًا للدولة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم طاعته في كلِّ أمرٍ ليس فيه معصية لله ورسوله، وقد بين العلماء الشروط التي يجب توافرها في هذه الجماعة؛ حتى تكون مميزة عن سائر أفراد الأمة، إذ أنها المكلفة -كما قلنا- باختيار الرئيس، فإذا ما قامت بهذا الغرض أو قام به بعض أفرادها سقط وجوب نصب الرئيس عنها، وعن باقي أفراد الأمة، وإذا لم تقم بهذا الواجب أثم أهل الحل والعقد كلهم كما هو الشأن في الفروض الكفائية.

وهذه الجماعة لا تقوم باختيار الإمام إلا نيابة عن الأمة جميعًا، فهم بمباشرتهم هذا الاختيار لا يمثلون أنفسهم، بل يمثلون الأمة كلها؛ ولهذا فإنه عند مبايعة أهل الحل والعقد الإمام تجب مبايعته والانقياد له على سائر أفراد الأمة، وقد بين العلماء أن أهل الحل والعقد هم العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم في أي وقتٍ من الأوقات.

ونتحدث الآن عن شروط أهل الحل والعقد، فنقول: يوضح الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) الصفحة السادسة وما بعدها يوضح الشروط المطلوبة فيهم -أي: في أهل الحل والعقد- فيقول: فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبر فيهم ثلاثة:

أحدها: العدالة الجامعة لشروطها.

والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبر فيها.

والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.

ص: 536

فهذه الشروط التي يوضحها الماوردي تحدد الصورة التي يجب أن يكون عليها الواحد من جماعة أهل الحل والعقد، فأما العدالة فقد بينا المراد بها عند الكلام على شروط الرياسة، وأما الشرط الثاني فالمراد به أن يكون الشخص عالمًا بالشروط الواجبة في رئيس الدولة حتى يستطيع أن يميز بين من توافرت فيه شروط الرياسة العامة، ومن لم تتوافر فيه هذه الشروط، وأما الشرط الثالث فيقصد به توافر المقدرة على عدم الخلط بين من يستطيع القيام بأعباء الرياسة ومن لم يستطيع ذلك، وهو شرطٌ مغايرٌ للشرط الذي سبقه، إذ يمكن أن يوجد شخص توافر عنده العلم بالشروط المعتبرة في الرئيس، ولكن ليس عنده القدرة على التفريق بين من يصلح للرياسة وتدبير مصالح الأمة، وبين من لا يصلح لذلك.

هل لأهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة -أي: بلد الرئيس- مزية على من عاداهم؟

يقول الإمام الماوردي مجيبًا على هذا السؤال: وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية يُقدم بها عليه، وإنما صار من يحضر بلد الإمام متوليًا العقد للإمام عُرفًا لا شرعًا لسبوق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلدهم، وإذا كان الماوردي قد وضح أن الشرع لم يعط أهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة أي مزية، أو أولوية في القيام باختيار رئيس الدولة، وإنما جرى العرف على أنهم يقومون بذلك، فعلى ذلك إذا بادر جماعةٌ من أهل الحل والعقد من غير العاصمة باختيار الرئيس، فهو اختيارٌ صحيحٌ لا غبار عليه شرعًا، ويجب

ص: 537

على جميع أهل الحل والعقد الموجودين بالعاصمة وغيرها من النواحي الأخرى يجب عليهم الانقياد ومبايعة الرئيس الذي بايعته هذه الجماعة، وإذا كان العرف قد جرى في بعض العصور على أن أهل الحل والعقد الموجودين ببلد الرئيس هم الذي يبادرون بعقد الرياسة، فإن الأعراف غير ثابتةٍ وتتغير بتغير البيئات وتعاقب الأعصر، ووسائل الاتصال السريعة في هذا العصر الحديث، والتطور الهائل فيها لم يجعلا لمن كان ببلد الرئيس مزية السبق بالعلم بموت الرئيس، بل إن تعدد أجهزة الاتصال وسرعة نقلها للحوادث مما يجعل إذاعة خبر من الأخبار بين جموع الشعب، بل بين العالم بأسره عملًا هينًا يسيرًا يعلم به القاصي والداني ساعة إذاعته ونشره، ثم إنه لا يمكن الإدعاء بأن من يصلحون لرياسة الدولة في هذا العصر موجودين غالبًا في بلد الرئيس، إذ هم متفرقون في أنحاء البلاد، وليس وجودهم فقط في بلد رئيس الدولة.

عدد أهل الحل والعقد الذي تنعقد به الرياسة: اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد اختلافًا كبيرًا، وسنذكر ذلك:

الرأي الأول: ويقول بأن الإمام لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم؛ ليكون الرضا عامًا والتسليم لإمامته إجماعًا.

الرأي الثاني: أن الإمامة لا تنعقد إلا بمبايعة الجمهور من أهل الحل والعقد.

الرأي الثالث: ويرى أن أقل عدد تنعقد به الإمامة أربعون؛ لأن عقد الإمامة أعظم خطرًا من الجمعة، والجمعة لا تنعقد بأقل من أربعين؛ فبيعة الإمام أولى.

ص: 538

الرأي الرابع: ويقول أن الإمام تنعقد بخمسةٍ يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، واستدل أصحاب هذا الرأي بأمرين:

الأمر الأول: بأن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسةٍ بايعوه، ثم تابعهم الناس فيها، وهؤلاء الخمسة هم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأُسيد بن حُضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم أجمعين.

والأمر الثاني: أن عمر رضي الله عنه لما أراد أن يعهد قبل موته عهد إلى ستة من الصحابة ليختاروا أحدهم برضا الخمسة.

الرأي الخامس ويقول: بأنه يكفي بانعقاد البيعة أن يقوم بها أربعة؛ لأن الأربعة أكثر نُصب الشهادة.

الرأي لسادس ويقول: بأن الإمامة تنعقد بمبايعة ثلاثة؛ لأنها جماعة.

الرأي السابع ويقول: بأن أقل عدد تنعقد به الإمامة رجلان من أهل الورع والاجتهاد كعقد الزواج لا يصح إلا إذا شهد عليه شاهدان.

الرأي الثامن ويقول: بأن الإمامة تنعقد بعلماء الأمة الذين يحضرون موضع الإمام، وليس لذلك عدد مخصوص.

الرأي التاسع ويقول: يكفي في انعقاد الإمامة أن يقوم بالبيعة واحدٌ فقط، لكن بشروط:

الشرط الأول: أن يكون من تولى العقد من العلماء المجتهدين.

الثاني: أن يكون هذا العاقد ممن يتصفون بالورع.

الشرط الثالث: أن يكون معدودًا من أهل الرأي والتدبير.

الشرط الرابع: أن يكون قد حاز الشهرة عند جماهير الأمة.

ص: 539

الشرط الخامس: أن يكون الذي عُقدت له البيعة أفضل الناس في الصفات، والشروط المطلوب توافرها في الإمام.

وبعد فهذه هي الآراء والأدلة التي اعتمد عليها الفقهاء بالنسبة للعدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد.

والآن ما هو الرأي الذي نميل إليه من هذه الآراء التي ذكرناها في مسالة العدد الذي تنعقد به رياسة الدولة؟ وقبل أن نبين الرأي الذي نميل إليه نحب أن نسأل كيف يمكن تصور ثبوت عقد الإمامة بمبايعة واحدٍ فقط مع أن مبايعة الواحد للإمام تعبر عن رأي ورغبة هذا الواحد فقط، وهذه الرغبة قد لا تدل على آراء ورغبات باقي أهل الحل والعقد، وأمر رياسة الدولة أكبر من رأي الواحد مهما عظم شأنه واشتهر فضله، فهو أمرٌ يحتاج بلا شك إلى الدرس، والبحث، والمشاورة، وهي أمورٌ تحتاج إلى الاتصال بأهل الحل والعقد لأخذ رأيهم فيمن يريدون توليته؛ ولذلك عد عمر بن الخطاب مبادرته بالبيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما قبل أخذ رأي أهل الحل والعقد، عد ذلك فلته، وقى الله المسلمين شرها، وقد رُوي عنه أنه خطب الناس، فقال: بلغني أن فلانًا قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانًا، فلا يغرن امرأً أن يقول: إن بيعة أبي بكرٍ كانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقّى شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين؛ فإنه لا بيعة له، هو ولا الذي بايعه.

فبان من هذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد التشاور مع أهل الحل والعقد، وأن عمر خالف بعمله هذا الأصل، فكان فلتة لظرفٍ خاص اقتضى ذلك هو:

ص: 540

خوف وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وليس هذا العمل أصلًا شرعيًا يُعمل به دائمًا، فمن بايع واحدًا من غير مشورة من أهل الحل والعقد فلا يصح أن يكون هو ولا من بايعه أهلًا للمبايعة، وقد رأينا أبا بكر رضي الله عنه عندما أراد ترشيح عمر بن الخطاب ليلي أمر الناس من بعده أطال التشاور مع كبار الصحابة، وعندما أخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الترشيح للخلافة ووكل إليه أمر اختيار الخليفة بقي ثلاثًا لا تكتحل عينه بكثير نومٍ، وهو يشاور كبار المهاجرين والأنصار فيمن يصلح للإمامة، ولو كان بيعة الواحد كافية في انعقاد الإمامة لما بذل عبد الرحمن بن عوف هذا الجهد كله، ولا خلا إلى نفسه وقتًا يفكر في من يصلح في نظره لتولي هذا المنصب، ثم بايعه بعد أن يقتنع بصلاحيته للإمامة، وما على باقي أهل الحل والعقد، وسائر أفراد الأمة بعد ذلك إلا الانقياد للخليفة الجديد، والرضا ببيعة عبد الرحمن بن عوف، فعبد الرحمن بن عوف لو كان يرى أن الإمامة تنعقد بواحد من أهل الحل والعقد لفعل ذلك، لكنه يرى أن الإمامة لا تنعقد بواحدٍ من أهل الحل والعقد؛ ولذلك أتعب نفسه في المشاورة -في مشاورة المسلمين- فيمن يصلح أن يكون إمامًا، وأما الاحتجاج بأن عمر لما بايع أبا بكر رضي الله عنهما تبعه الصحابة ووافقوه على ذلك فلا يصح؛ لأن سبب اتباع الصحابة عمر في هذه المبايعة وموافقتهم عليها هو رضاؤهم بأن يكون أبو بكرٍ هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذن يتبين مما سبق أن القول بأن الإمامة تنعقد بالواحد غير مُسَلمٍ، ومثل ذلك القول بانعقادها بالعدد القليل كالاثنين، والثلاثية، والأربعة، والخمسة؛ لأن أمر الإمامة -كما قلنا- لا يصح فيه انفراد فردًا أو أفراد قليلين بالبت فيما هو يهم

ص: 541

الأمة كلها اللهم إلا إذا قل عدد أفراد جماعة أهل الحل والعقد؛ فحينئذ تكون الضرورة هي الملجئة إلى القول بانعقاد الإمامة بالعدد القليل، إلا أن هذا لا يعني أن نقول -كما قال البعض- أنه لا تصح البيعة إلا بالإجماع من فضلاء الأمة في أقطار البلاد؛ لأنه لو صح أن الإمامة لا تنعقد إلا بالإجماع من أهل الحل والعقد لما صحت إمامة أبا بكر، فإن الثابت أن سعد بن عُبادة لم يبايع أبا بكر إمامًا، وإنما ترك اجتماع السقيفة وهو حانقٌ ثائرٌ غير راضٍ عن مبايعة أي من المهاجرين، وعلي بن أبي طالب ظل ممتنعًا عن مبايعة أبي بكر ستة أشهر كما تقول بعض كتب التاريخ، ولو قلنا بذلك أيضًا لكان هذا -كما يقول ابن حزم- تكليف ما لا يطاق، وما ليس في الوسع، وما هو أعظم من الحرج والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنما نقول في هذا الأمر بوجوب مبايعة الأكثرية من أهل الحل والعقد.

والخلاصة في هذا: أن الرأي الراجح من هذه الآراء التي اختلفت بالنسبة للعدد الذي تنعقد به الإمامة من أهل الحل والعقد هو: الرأي الذي يقول بانعقادها بالأكثرية من أهل الحل والعقد؛ لأن أهل الحل والعقد مهما كان فيه من صفات الكمال فهم بشر غير معصومين، فلا نأمن من جانب الهوى والنفس أمارة بالسوء، فمن الجائز أن تميل القلة إلى شخصٍ غير مستحقًا للرياسة فيبايعوه، فحتى نأمن ذلك أو حتى نظن أمان ذلك يجب اشتراط الأكثرية المطلقة عند مبايعة رئيس الدولة، ولا يصح النظر إلى البلاد الذي ينتمي إليها هؤلاء الأكثرية، فالبيعة من الأغلبية المطلقة من أهل الحل والعقد صحيحة حتى ولو لم يكن فيهم واحد من أهل العاصمة؛ لأن القول بأنه لا بد في صحة عقد الإمامة من أن يكون الذين بايعوه هم أهل الحل والعقد الموجودين ببلد الإمام تحَكْمٌ لا برهان عليه.

ص: 542