الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي
ثم نتكلم الآن عن الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي فنقول:
بعد أن قامت الثورة الصناعية في أوربا في نهاية القرن الثامن عشر، وظهرت الرأسماليات الضخمة، وقامت المشروعات الكبرى، وبرز التفاوت بين طبقة الملاك وطبقة الأجراء، كان من اللازم أن تتدخل الدولة الحديثة؛ لتحمي العمال والضعفاء اقتصاديًّا تجاه الملاك وأرباب العمل، بما يضمن تحقيق مستوى معيشي كريم لهؤلاء العمال، وخصوصًا في فترات مرضهم، وعجزهم، وبطالتهم، وتطلق الدساتير الحديثة على هذه المجموعة من الحقوق اسم "الحقوق الاجتماعية" وقد حظيت هذه المجموعة من الحقوق بعناية الشارع الإسلامي منذ نشأة الإسلام، وقبل أن تعرفها الدساتير الحديثة بمئات السنين؛ وذلك لأن التشريع الإسلامي تشريعٌ متكاملٌ، يواكب الأحداث والمستجدات، فهو يشرع منذ ما يقرب من قرن ونصف من الزمان ما تهتدي إليه البشرية اليوم، وتتأسس قائمة الحقوق الاجتماعية في النظام الإسلامي على اعتبار أن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد، فيجب لذلك أن يكون مجتمعهم متآخيًا، متعاطفًا، متحابًّا، متراحمًا، تسوده العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويتعامل بالأخلاق والمثل، ويسوده الرباط الإيماني بين أفراده، ويكون مسئولًا أفرادًا ودولةً عن كل فرد فيه: يمرض، أو يجوع، أو يعرى، أو يعجز عن العمل، أو يقع عليه أي شيء من ظلم اقتصادي أو اجتماعي، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، ما دام آدميًّا يقيم في دولة المسلمين.
وسوف نذكر فيما يلي بعض النماذج التي تحقق مجالات العدالة الاجتماعية في لنظام الإسلامي:
1 -
كفالة الدولة للأفراد:
بمعنى أن يجد الفرد ضمانًا عامًّا من الدولة عند الفقر أو المرض، فلا يهلك فرد في دولة المسلمين، وهم ينظرون إليه ويعرفون حاجته وعوزه؛ لأن ذلك يتنافى مع غرض الشارع الذي يجعل المؤمنين كالجسد الواحد -كما ذكرنا- والذي يحث على التعاون على البر والتقوى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: من الآية: 2).
وقد ذكر الله تعالى في "سورة البقرة" تفسيرًا لمعنى البر فقال -عز من قائل-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} (البقرة: الآية: 77).
وفي ذكر الله سبحانه وتعالى للزكاة بعد ما سبقها؛ ما يدل على أن الإيتاء الذي قبلها هو من باب التطوع؛ لأنه من المعلوم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفيها ما فيها من سد حاجة المحتاجين، وعوز المعوزين، فلو أن الناس جميعًا أدوا ما عليهم من الزكاة؛ فإنه لا يكون في مجتمع المسلمين من يتضرر من الجوع، أو يكتوي بنيران العوز والحاجة، فما بالك لو تطوعوا وعملوا في تحقيق البر؟!.
وفي السنة أيضًا نصوص كثيرة تؤكد على هذا المعنى، وتحث المسلمين على التعاطف والتراحم فيما بينهم، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)).
وإذا كان هذا هو قصد الشارع الإسلامي في مجتمع المسلمين، فإن الأمة أفرادًا ودولةً مسئولة أمام الله عن تحقيق هذا القصد؛ إذ أن الدولة في الإسلام إنما تمثّل الأمة وتنوب عنها؛ فيجب عليها القيام بما أرشدت إليه الشريعة، من وجوب التراحم والتعاطف بين أبناء المجتمع، الذي يجب أن يكون كالجسد الواحد.
غير أنه تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الدولة وهي تكفل هذا الحق للأفراد، يجب دائمًا ألا تشجع على التسكع، أو البطالة، أو التسول، بل يجب عليها دائمًا أن توفّر فرص العمل للقادرين عليه؛ فذلك أفضل من إعاشتهم، وجعلهم عالةً على بيت المال إذا كانوا قادرين على العمل، ولكن إذا تعذّر على الفرد سدّ حاجاته بنفسه، بسبب من الشيخوخة، أو العجز، أو المرض؛ فإنه في هذه الحالة تجب إعانته والإنفاق عليه، سواء من أقاربه الذين تلزمهم نفقته شرعًا، أو من بيت مال المسلمين، ويجوز الإنفاق على الفقراء من مال الزكاة، فإذا لم يفِ كل ذلك بحاجات الفقراء، فقد نصّ بعض الفقهاء على أنه يجب على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن لباس للشتاء والصيف في مثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف، والشمس، وعيون المرض.
فمن كل ما تقدم يمكننا أن نرى: كيف أن الإسلام عمل على تمكين الأفراد من التمتع بحقهم الاجتماعي في كفالة الدولة لهم، ولاسيما في حالات العجز والعوز؛ وبذلك يسمو هذا الحق في النظام الإسلامي على ما هو مقرّر في القوانين الوضعية، من مجرد كفالة الدولة لحق العمل، الذي يشكل قمّة الحقوق الاجتماعية في فقه القانون الدستوري.