الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظن بصدق الراوي حتى يترجح وجود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون من قبيل الاحتياط العمل بالراجح.
الإجماع
وننتقل الآن إلى مصدر آخر من مصادر الأحكام الدستورية في النظام الإسلامي، وهو الإجماع:
والإجماع في اللغة هو: الاتفاق، يقال: أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه، ويطلق بإزاء تصميم العزم، يقول: أجمع فلان رأيه على كذا إذا صمم عزمه، قال الله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (يونس: من الآية: 71).
ومعنى الإجماع في الشرع: اتفاق المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، والعلماء الذين يعتبر اتفاقهم في الإجماع هم المجتهدون الذين يملكون القدرة على استنباط الأحكام من مصادرها.
وعلى ذلك: فلا يدخل في هذا الصدد اتفاق عامة الناس؛ لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد، وأهل الاجتهاد معروفون مشتهرون في كل عصر، فيمكن تعرف أقوالهم من الأفاق، ولا يمكن أن ينعقد الإجماع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم إن وافقوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالحجة في قوله وفعله عليه الصلاة والسلام ويكون ذلك من قبيل السنة، وإن خالفوه فلا عبرة بخلافهم مادام صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يبين عن الله تعالى ما يوحى به إليه، ولا بد وأن يكون اتفاق المجتهدين على حكم من الأحكام الشرعية ليخرج الأحكام العقلية أو اللغوية أو العادية فلا يسمى الاتفاق بشأنها إجماعًا.
وهنا يرد سؤال: هل يمكن وقوع الإجماع في هذا الزمان؟
ذهب بعض العلماء إلى استحالة وقوع الإجماع، بمعنى: اتفاق جميع المجتهدين في عصر من العصور على حكم من الأحكام؛ نظرًا لتفرق المجتهدين في
الأمصار، وعدم التقاء الفقهاء مما يجعل من الصعب الوقوف على آرائهم، وعدم معرفة المجتهد من غير المجتهد؛ نظرًا لحصول الاختلاف بين فقهاء أهل كل بلد من الحواضر الإسلامية، وعلى ذلك فيستحيل أن يتفق جميع المجتهدين على حكم شرعي مختلف فيه، ولكن جماهير العلماء يرون: أن الإجماع ممكن عقلًا، ووجوده متصور؛ لأن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، وسائر أركان الإسلام، وكيف نمنع تصور الإجماع، والأمة كلها متعبدة بالنصوص، والأدلة القواطع معرضون للعقاب بمخالفتها، وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين.
وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم على باطل، فلمَ لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه؟ أي: على الحق، وقد وقع الإجماع بالفعل، وتحقق في عصر الصحابة كإجماعهم على: أن الجدة تأخذ السدس تنفرد به الواحدة وتشترك فيه الأكثر من واحدة، وإجماعهم على عدم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وإجماعهم على أن الأخوة والأخوات لأب يقومون مقام الأشقاء إن لم يكن أشقاء، وإجماعهم على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم وغير ذلك مما يطول حصره واستقصاؤه يراجع في ذلك الشيخ أبو زهر في (أصول الفقه) ص 159 وما بعدها.
والذي نراه في هذا المقام: أن انعقاد الإجماع بالمنظور الأصولي أمر يكاد لا يتحقق في الواقع، إنه إن أمكن تحقق هذا الإجماع في عصر الصحابة لقلة عددهم، وتجمعهم في المدينة، ومعرفتهم، وشهرتهم، مما يسهل الوقوف على آرائهم، وقد كان عمر رضي الله عنه يحرّم على كبار الصحابة وأهل الرأي مغادرة المدينة إلى البلاد المفتوحة إلا عند الضرورة.
نقول: إن أمكن هذا في عصر الصحابة، فهو غير ممكن في عصر التابعين ومن بعدهم بعد تفرق العلماء والمجتهدين في الأمصار والبلدان المفتوحة وإقامتهم بها،
وكثرة عددهم، واستقلال كل منهم باجتهاده في بلده، وهو ما جعل الاجتهاد يتسم بالصورة الفردية.
ومن هنا تعثر انعقاد الإجماع، ولم يكن ميسورًا ولا سهلًا وقوعه، وهو ما جعل ابن حنبل والشافعي أيضًا يؤثرون على تعبير الإجماع، أن يقال: لا نعلم في المسألة خلافًا يعني: الإمام الشافعي وابن حنبل كانوا يعني يفضلون أن يعبروا عن الإجماع بقولهم: لا نعلم في المسألة خلافًا، لكن لا يعبرون بالإجماع، لماذا؟ كأنهم يرون: عدم تحقق الإجماع.
وأن من ادعى الإجماع يرون ذلك، فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، وقد يكون من المفيد أن ننادي مع البعض في هذا الصدد بضرورة الاعتناء بالمجامع الفقهية في هذه الأيام التي تضم جميع الفقهاء في العالم الإسلامي، حيث يكون لهذه المجامع أماكنها المعروفة، وتتهيأ لهذه الفرص المناسبة والإمكانيات اللازمة، ويسهل الاتصال فيما بينها، وتجتمع في أوقات معينة دورية ثم تعرض عليها المسائل والوقائع الجديدة لدراستها، وإظهار حكم الشرع فيها، ثم تنشر هذه الأحكام بواسطة الإذاعات أو المجلات أو الكتب الدورية؛ ليطلع الناس عليها ويبدي أهل العلم منهم رأيهم فيها؛ لاحتمال ألا يتيسر انضمام جميع الفقهاء إلى هذه المجامع، ثم تلاحظ المجامع الفقهية هذه الآراء المختلفة من أعضائها النظاميين، وممن هم خارجها، وإذا اتفقت أراء هذه المجامع على حكم -فيما بعد- كان من الممكن أن يكون هذا مثالًا لما يمكن تسميته بالاجتهاد الجماعي الذي يقرب من الإجماع الذي تحدث عنه الأصوليون، وإننا لنجد في هيئة كبار العلماء في مصر قبل إلغائها وفي مجمع البحوث الإسلامية الآن ما يمثل النواة لتحقيق هذه الفكرة التي ندعو إليها.
حجية الإجماع:
يستدل على حجية الإجماع بنحو قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115) فهذا يوجب إتباع سبيل المؤمنين، ويحرّم مخالفتهم، ولا يقال في هذا الصدد: بأنه إنما توعد على مشاقة الرسول، وترك إتباع سبيل المؤمنين معه، فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد، لا يقال: مثل ذلك؛ لأن التوعد على شيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل واحد منهما منفردًا أو بهما معًا، ولا يجوز أن يختص الوعيد بأحدهما دون الآخر.
وفي السنة ما يشهد لحجية الإجماع كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وفي رواية: ((لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح)) وقال أيضًا: ((من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) وقال أيضًا: ((من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية)).
فهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحيحة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف وهي وإن لم يتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري: أن النبي صلى الله عليه وسلم عظّم شأن هذه الأمة وبين عصمتها من الخطأ، ومن وجه آخر أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر فيه أحد خلافًا.
قد يرد سؤال هنا، وهو: هل يكون الإجماع مصدرًا للأحكام الدستورية والسياسية؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكاد تبدو بدهية لا صعوبة فيها، إذا ما عرفنا -كما قلنا غير مرة-: أن هذه الأحكام هي جزء من الأحكام الشرعية بصفة عامة، ومصادر الشريعة التي من بينها الإجماع تستقى منها الأحكام الشرعية مطلقًا، سواء كانت هذه الأحكام من قبيل التشريعات العادية بلغة أهل القانون أم كانت من قبيل التشريعات السياسية والدستورية، فليس في الشريعة مجال لتصنيف الأحكام على النحو المقرر في القانون إلى: أحكام القانون الخاص التي تكون منظمة لعلاقات الأفراد فيهما بينهم، وأحكام القانون العام التي تنظم علاقة الأفراد بالدولة التي تحكمهم، وبطبيعة الحال يكون للنوع الأخير بعض الأهمية من حيث خطورة المسائل التي يعالجها، وهو ما أوقع البعض على أن يقول بأن الإجماع لا يكون مصدرًا من المصادر التي تستقى منها الأحكام الدستورية والسياسية.
لكن الإجماع باعتباره مصدرًا شرعيًا يصلح لإثبات كافة الأحكام الشرعية به، وقد أجمع الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب الإمامة، وتلك مسألة من أخص خصائص القانون الدستوري والسياسي، فقد ذكر ابن خلدون في (المقدمة) أن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا على وجوب نصب الإمام.
وحتى ولو سلمنا بصعوبة انعقاد الإجماع بعد عصر الصحابة -كما ذكرنا سلفًا- فقد ذكر العلماء أن الإمامة مادامت تحصل بالاختيار والبيعة؛ فإنها لا تفتقر إلى إجماع من جميع أهل الحل والعقد، بل يأتي أو يكفي في ذلك رأي واحد أو