المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌شروط الإمامة العظمى

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي عشر

1 -

تابع مسألة نصب الإمام، وشروط رئيس الدولة (1)

‌شروط الإمامة العظمى

وبعد أن انتهينا من هذا الموضوع -وهو مسألة نصب الإمام، وهل هذا أمر واجب أم غير واجب، كما بينا بالتفصيل- ننتقل الآن إلى موضوع آخر، وهو الشروط التي يجب توافرها في رئيس الدولة، نقول:

أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن منصب الرئيس الأعلى للدولة لا يورث، وأنه لا بدّ من وجوب صفاتٍ معينة فيمن يُرشح لتولي هذا المنصب الخطير، سوى فرقة الإمامية؛ فإنهم شذّوا على إجماع الأمة، وذهبوا إلى التوارث فيه، وهو الرأي الذي سنتعرض إليه عند الكلام عن طرق انعقاد الرئاسة، وأما من عداهم من جماهير الأمة الإسلامية فلا يُجيزون أن تكون الوارثة طريقًا إلى تولى هذا المنصب.

وثمّة أمر هامّ يجب أن نلاحظه، هو أن الشروط التي اشترطها العلماء فيمن يراد توليته رياسة الدولة الإسلامية، هي شروط يجب مراعاتها في الحال، التي تكون صفة الاختيار متوافرة للأمة فيها، فيجب عليها في هذه الحال ألا تولِّي أمورَها إلا من تحقّقت فيه هذه الشروط، وأما إذا انتفت حال الاختيار، وألجئت الأمة إلى حالٍ لا اختيار لها فيها، كتغلب البعض ممن لا يصلحون للإمامة العظمة بالانقلابات العسكرية، فالعلماء في هذا الحال يبيّنون أن التمسك بالشروط الواجب هنا قد يؤدي إلى فتنٍ يجب أن تصان الأمة عن الدخول في شرورها، وحينئذٍ يجوز شرعًا إقرار هذه الحال مؤقتًا إلى أن تحين فرصة التغير لمن هو مستوفٍ للشروط المطلوبة، وسنبيّن هذه الشروط ووجهة النظر في اشتراطها فيما يلي:

أول شرط من الشروط التي يجب توافرها في الإمام هو شرط: الإسلام:

يقول البعض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافرٍ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر -أي بعد تولى الخلافة- انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء

ص: 485

إليها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: من الآية: 141) وهل هناك من سبيل أعظم من ولاية الإمام الأعظم؟ وأيضا لأن الله سبحانه وتعالى أمر بقتال غير المسلمين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فكيف يمكن لغير المسلم أن يتزعّم، ويقود الحرب التي يشنّها المسلمون على غير المسلمين؛ وعلى هذا فلا يجوز أن تعقد رياسة الدولة لكافرٍ أصليٍّ أو مرتدٍّ؛ لان معنى إقامة دولة إسلامية هو أن تلتزم بالقانون الإسلامي، تطبقه، وتعيش حياتها على وفق تعاليمه، وهذا القانون الإسلامي لا يُتَصوّر تطبيقه إلا من أناسٍ يدينون بالولاء والخضوع التام لهذا القانون، إن أيّ نظام -مهما كان نوعه- لا يمكن أن يقبل أن يسند المركز الأول فيه -أو أي مركز هام- إلّا إلى شخص يؤمن تمام الإيمان بهذا النظام ويسعى جاهدًا لنصرته.

الشرط الثاني من الشروط التي يجب توافرها في الإمام أو رئيس الدولة، هو شرط أجمعت الأمة أيضًا عليه: وهو البلوغ، إلا الإمامية فإنهم شذُّوا عن هذا الإجماع، وجوّزوا أن يكون الإمام طفلًا، لكن هذا القول من الإمامية إنما هو قولٌ لا يعتدّ به، ويبقى الإجماع قائمًا على أنه لا يجوز تولية رياسة الدولة لغير البالغ.

وهنا قد يرد سؤال هو: ما الحكم إذا فرض الصبي في حال ضرورةٍ فعلًا؟ يعني: إذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يتولّى رياسة الدولة أو الإمامة العظمى طفلٌ غيرُ بالغٍ، فلو فرض أن هذا الطفل قد فرض عليهم ليكون إمامًا أعظم أو ليكون خليفةً

فما العمل في هذه الحالة؟ ما الحكم إذا فُرِض هذا الصبي في حال ضرورة؟ أي بأن لم يكن هناك رضًا من الشعب، ولكنه فرض عليهم قسرًا وقهرًا، كأن ألزم الشعب به حاشية أبيه الذين يملكون السلطة ووسائل قهر الأمة؟

والجواب: أن هذه فعلًا هي حال ضرورة، وعندئذٍ يجب على أهل الحل والعقد في الأمة إعلان أن هذا أمر غير شرعي، ويجب على الأمة أن تؤيّدهم في هذا، والمطالبة بتولي مستوفي الشروط، فإذا استمرّ فرضُ هذا الصغير على الأمّة

ص: 486

فعندئذٍ لا يُتصوّر تعطيلُ مصالح الأمة، فيجب نصب والٍ -كما يقول الحنفية- لهذا الصغير، ولكن يجب أن يكون مستوفيًا شروط الإمامة، فإن تمادى الذين لهم مقدرة فرض هذا الصغير ونصّبوا واليًا غير مستوفٍ للشروط، فيكون هذا أيضًا حال ضرورة تخضع لها الأمة مؤقتًا؛ حتى لا تتعطّل المصالح الدينية والدنيوية لأفراد الشعب، ولكن ليس للأمة أن ترضى بهذا الوضع باعتباره وضعًا يجب أن يستمر، بل على الأمة -وبخاصة أهل الحل والعقد- انتهاز كل فرصة يمكن أن تساعد على تغير هذا الوضع، وتوليه مستوفي الشروط، إذا لم تكن فتنة من محاولة التغيير هذه، أما أن ترضى الرعية وتتّفق على تولية ابنٍ صغيرٍ للإمام مكان والده بدون قسر ولا إكراه من السلطة، فهي ليست حال ضرورة، وهذا هو الخطأ الذي لا مبرِّر له.

ثم ننتقل الآن إلى الشرط الثالث من شروط الإمام: وهو العقل:

وهذا شرط بدهيٌّ، فلا تنعقد رياسة ذاهب العقل بجنون أن بغيره كالخبل؛ إذ أن ذاهب العقل يحتاج هو نفسه إلى وليٍّ ليصرف له أموره، فكيف توكل إليه أمور غيره؟! وإذا كان الصبي محروم من تولي هذا المنصب لهذا السبب فذاهب العقل من باب أولى.

وقد قسّم الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى سببين:

الأول: ما يُرجى زواله كالإغماء.

والثاني: ما لا يرجه زواله كالجنون.

فأما الأول -وهو ما يرجى زواله كالإغماء-: فهذا لا يمنع انعقاد الإمامة، وكذلك لا يمنع من استدامتها؛ لأنه مرض قليل اللّبث سريع الزوال.

ص: 487

وأما الثاني وهو اللازم -يعني الجنون اللازم الذي لا يرجى زواله كالجنون والخبل-: فهو على قسمين:

أحدهما: أن يكون مطبقًا لا تتخلله إفاقة، فهذا يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد توليه منصبه يعني إذا طرأ هذا الشيء أو هذا الجنون عليه بعد توليه منصبه، استحق العزل إذا تحققنا من وجوب هذا المرض وقطعنا به فيه.

والقسم الثاني من اللازم -يعني المرض اللازم الملازم للإنسان- الذي يرجى زواله، هو ألا يكون ذلك المرض ملازمًا له في كل أوقاته، بل تتخلّله أوقات إفاقة يعود بها إلى حال سلامته، وحينئذٍ ينظر؛ فإن كان زمن المرض أكثر من زمان الإفاقة، فهذا كالمرض الدائم يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على الإمام بعد انعقاد الإمامة له سليمًا استحق العزل به، وإن كان العكس وهو الذي يحدث، بمعنى أن يكون زمان الإفاقة أكثر من زمان المرض، فقد اتفق العلماء على انعقاد الإمامة معه، واختلفوا فيما إذا طرأ على الإمام هذا المرض بعد توليه منصبه: هل يمنع استدامتها أو لا يمنع؟

رأيان في المسألة:

الأول يقول: بأنه يمنع من استدامتها -أي استدامة الإمامة- كما يمنع من ابتدائها؛ لأن من واجب الإمام النظر في مصالح الأمة، وهذا المرض مع تكرّره يخل بهذا الواجب.

الرأي الثاني: يرى أنه لا يمنع من استدامة الإمامة، وإن كان يمنع انعقادها في الابتداء؛ لأن المطلوب وقت عقد الإمامة هو السلامة الكاملة، وعند الخروج منها هو النقص الكامل.

ونرى أن الرأي الأول هو الأولى بالاعتبار؛ إذ أنه يجوز أن تجيء نوبة المرض في وقت تحتاج الأمة فيه إلى رأي الإمام، وبَتِّه في مسائل هامة، كأمور الحرب مثلًا، ولا يتصور أن تتعطل أمثال هذه الأمور حتى يفيق الإمام،

ص: 488

وقد بيّن الإمام الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) عند الكلام على الشروط التي يجب توافرها فيمن يتولّى القضاء -ومنها العقل-: أنه لا بد من توافر الفطنة فيه، ولا يُكتفى فيه بالعقل الذي يتعلّق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية؛ حتى يكون صحيح التميز، جيد الفطنة، بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل، وفصل ما أعضل، وإذا كان هذا هو الشرط في الاعتداد بصفة العقل في القاضي فالإمام الأعظم من باب أولى. فالإمام الماوردي يبيّن لنا أنه لا يكتفى بمجرد العقل الذي يميّز به صاحبه بين الأشياء والنافع والضار، بل لا بدّ أن يكون جيد الفطنة، يعني عقل من نوع خاص، له فطنة، وله ذكاء. إذا كان الأمام الماوردي يشترط ذلك في القاضي؛ فينبغي اشتراطه في الإمام الأعظم من باب أولى.

والشرط الرابع من شروط الإمام: الحرية:

فلا تنعقد إمامة العبد، سواء أكان قنًّا -يعني لا شيبة فيه من الحرية- أو مُبَعّضًا -يعني بعضه حر وبعضه عبد- أو معلّقًا عتقه بصفة؛ لأن المفروض في العبد شرعًا أن يكون كل وقته وجهده في خدمة سيده، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الصادرة له من هذا السيد ما دامت في طاقته، وإذا كانت أموره تسير بأوامر غيره: فكيف يمكن أن توكّل إليه أمور الأمة؟ يقول البعض: لئلّا يشغله خدمة السيد عن وظائف الإمامة، ولئلّا يحتقر فيعصى، فإنّ الأحرار يستحقرون العبيد ويستنكفون عن طاعتهم. ويقول البعض مبررًا لماذا اشترطت الحرية في الإمامة العظمى، يبين ذلك بقوله: أن العبد لا ولاية له على نفسه، فيكيف تكون له الولاية على غيره؟ والولاية المتعدية فرع للولاية القائمة؟ هذا هو الشرط اشترطه -كما قلنا- جمهور العلماء.

ص: 489

الشرط الخامس من الشروط التي يجب توافرها في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة: الذكورة:

وقد اشترطها العلماء بالإجماع فيمن يرشّح لتولي منصب رياسة الدولة. يقول البعض: فلا تنعقد الإمامة لامرأة، وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشّح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء، ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات. وقد احتج العلماء على ذلك بما رواه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملّكوا بنت كسرى عليهم -أي جعلوها ملكةً- قال صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولّوْا أمرهم امرأة)) هذا حديث صحيح والمعنى في ذلك أو معنى الحديث أن الإمام لا يستغني على الاختلاط بالرجال والمشاورة معه في الأمور، يعني المعنى الذي من أجله أنه لا يجوز للمرأة أن تكون رئيسةً للدولة، المعنى في ذلك أن الإمام لا يستغني عن الاختلاط بالرجال والمشاورة في الأمور، والمرأة ممنوعة من ذلك؛ ولأن المرأة ناقصة في أمر نفسها، حتى لا تملك النكاح، فلا تُجعل إليها الولاية على غيرها.

ويقول البعض مبررًا لماذا لا تصلح النساء للإمامة العظمى أو لرئاسة الدولة، يبرر ذلك بقوله: بأن النساء أمرن بالقرار في البيوت، فكان مبنى حالهن على الستر، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:((كيف يفلح قوم تملِكهم امرأة)) واشتراط الذكورة لبيان أن إمامة المرأة لا تصح؛ إذ النساء ناقصات عقل ودين، كما ثبت به الحديث الصحيح، ممنوعاتٌ إلى الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب. ومع أن العلماء قد اختلفوا في جواز تولي المرأة القضاء، فبعضهم منعها بإطلاق، وبعضهم أباح لها القضاء في الأمور التي تشهد فيها، وبعضهم أباح لها القضاء

ص: 490

بإطلاق، نقول: مع أن العلماء قد اختلفوا في هذا -وهو موضوع تولية المرأة القضاء- إلا أنّهم قد أجمعوا على عدم جواز توليتها منصب رياسة الدولة، وليس هذا تعصبًا من أئمة الفقه الإسلامي؛ بل لأن طبيعة المرأة وتكوينها الجسماني يتنافى مع قيامها بأعباء هذا المنصب الخطير؛ لأنه قد يُطلب من الرئيس أن يتولّى قيادةَ الجيوش بنفسه، والاشتراك في الحرب، وتحمل أهوالها

وغير ذلك من الأعمال التي تتطلب قدرةً خاصّةً، وكفاءةً جسمانيّةً معيّنةً، وهو ما لا يتّفق مع طبيعة المرأة. والملاحظ أن هذا الرأي هو المتفق -يعني الرأي القائل بأنه لا يجوز أنه لا يجوز تولى المرأة رياسة الدولة- متفق مع طبيعة المرأة الجسمي، والنفسي، والعقلي، ولا أدلّ على ذلك من استقراء حال الناس في كافّة الأعصر قديمها وحديثها. وملاحظة أن النابغين في تولي القيادة العامّة في كافة الشعوب، كانت الغالبية العظمى منهم من الرجال، ولم يظهر نبوغ النساء في قيادة الشعوب إلا في ظروف نادرة، ولأسباب لا تتكرّر كثيرًا، ولا يصحّ إرجاع ذلك إلى أن الرّجل كان متفوِّقًا على المرأة في هذا الميدان باستعمال قوته التي يفوق المرأة فيها؛ مما أتاح له الفرص التي حُرمت المرأة منها، أو لأنه منعها من التعليم سنوات طويلة مما جعلها تقنع بدور التابع للرجل، لا يصح أن يقال هذا؛ لأن استعمال الرجل قوته في إبراز جانب التفوق، إن كان طريقًا عاديًّا متبعًا في العصور الماضية، فقد انعدم هذا الطريق -أو كاد أن ينعدم- في العصر الحديث، ومع ذلك فالقيادات ما زالت في أيدي الرجال إلا ما ندر، في الوقت الذي أتيحت للمرأة فرصة التعلم المتاحة للرجل. وكذلك لا يصحّ إرجاع قيادات أكثر للرجل إلى الكثرة العددية في لرجال دون النساء؛ إذ أنه في بعض البلاد التي تدل في إحصاءات على الكثرة العددية في

ص: 491

اجانب النساء، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية، فإن عدد الرجال كان قليلًا بالنسبة إلى عدد النساء؛ لأن الحرب أفنت من الرجال أكثر، ومع ذلك، ومع كون الفرصة متاحة للمرأة لإثبات تفوقها على الرجل، فالنبوغ القياديّ والفكريّ والعلميّ في جميع المجالات كان متحققًا في جانب الرجل أكثر منه في جانب المرأة، مع أن المرأة في ألمانيا بعد الحرب لم يقم أيّ مانع في سبيل تفتحها على جميع آفاق المعرفة، والتعليل الوحيد لتفوّق الرجل على المرأة في مجالات القيادة، والسياسة، والعلوم، والفنون، والآداب، إنما هو تكوين طبيعة كلٍّ من الرجل والمرأة، وليس عيبًا أن يطالب الإنسان بالأمور المتفقة مع طبيعته واستعداده، وإنما العيب أن يطالب بما يتعارض مع ذلك.

الشرط السادس من الشروط الواجب توافرها في الإمام الأعظم: هو الاجتهاد:

نقول: جمهور العلماء على أن هذا الشرط لا بدّ توافره فيمن يرشّح للإمامة العظمى، الجمهور على أن أهل الإمامة ومستحقها من هو مجتهد في الأصول والفروع؛ ليقوم بأمور الدين، متمكنًا من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية، مستقلًّا بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصًّا واستنباطًا؛ لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد، وفصل الحكومات، ورفع المخاصمات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا الشرط، وهو الاجتهاد.

وقد ذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الاجتهاد في الإمام، فنراهم عندما يبيّنون شروط الإمامة العظمى لا يعدّون منها شرط الاجتهاد، وهذا هو الرأي الذي يمثّل المذهب الحنفي، وإن كان بعض علماء الأحناف -مثل الكمال بن الهمام، وهو من أئمة الحنفية- عدّ العلم، يعني جعل العلم شرطًا من الشروط الواجبة في

ص: 492

الإمامة العظمى، لكنه لم يُرِدْ به علم المجتهد كما هو المراد به عند أكثر العلماء، عندما يعبرون عن شرط الاجتهاد بالعلم، فإن جمهور العلماء إذا ذكروا العلم من بين الشروط الواجب توافرها في الإمامة، يبيّنون أن مرادهم بذلك هو علم المجتهد، فسواء عبروا بالمجتهد أو عبّروا بالعلم سيان عندهم، فكلمة العلم تساوي المجتهد، وهذا بخلاف الأحناف الذين يجعلون العلم شيئًا والاجتهاد شيئًا آخر؛ ولذلك قلنا: الرأي المعمول به عندهم أنهم لا يشترطون في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة أن يكون مجتهدًا. نقول فالعلماء الذين يعدون الاجتهاد شرطًا من شروط الإمامة، تارةً يعبّرون عن هذا الشرط بالاجتهاد، وتارةً يذكرون العلم ويريدون به علم المجتهد -كما بينا- وأما الكمال بن الهمام -وهو من أئمة الفقه الحنفي- فلم يرد به علم المجتهد، بل أراد به علم المقنت في الأصول والفروع، وهذا فرقٌ بين العلم والاجتهاد عندهم.

ثم أن جمهور العلماء باشتراطهم الاجتهاد في الإمام، فإنما يعنون بذلك أن يتحقّق فيه الأمور الآتية بعد توافر شرط الإسلام، يعني لا بد من توافر الأمور الآتية حتى نقول على الإمام أنه مجتهد:

أَوّلًا: أن يكون عارفًا باللغة العربية المقدار الذي يستطيع بواسطته فَهم آيات الأحكام وأحاديثها؛ وذلك لأن القرآن والسنة -وهما المصدران الأولان للأحكام الشرعية- عربيان -أي باللغة العربية- ولا يستطيع المجتهدُ أن يفهم الأدلّة إلّا إذا كان على علمٍ باللّغة العربية.

ثانيًا: أن يكون على علم بآيات الأحكام، فيعرف معناها، وما يتعلق بها من عموم وخصوص، وإجمال وتفصيل، وإطلاق وتقييد، وحقيقة ومجاز، وناسخ ومنسوخ

إلى غير ذلك، لا بدّ وأن يكونَ على علم بهذه الآيات.

ص: 493

وقد بيّن العلماء أن ليس المراد من علمه بآيات الأحكام أن يكون حافظًا لها عن ظهر قلب، وإنما مرادهم بذلك أن يكون على معرفة بكيفية الرجوع إليها عندما يريد أن يستنبط حكمًا من الأحكام.

ثالثًا: أن يكون على علمٍ بأحاديث الأحكام، فيعرف سندها من: تواترٍ، وآحاد، ومشهور، وأن يكون على معرفة بحال راوي الحديث من الجرح والتعديل؛ حتى يمكنه من معرفة الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولما كانت المدة الزمنية الفاصلة بيننا الآن وبين هؤلاء الرواة طويلة، فقد اكتفى العلماء بتعديل الأئمة الكبار الذين توافرت فيهم الثقة بالنسبة لعلم الحديث، كالبخاري ومسلم

وغيرهما من علماء الحديث، يعني أنه يكفي هذا المجتهد أن يرجع إلى هذه الكتب، فإذا ذهب إلى صحيح البخاري وقال له: الراوي فلان عدل، فيكتفي بذلك، وليس مطلوبًا منه أن يبحث في تاريخ هذا الراوي، فينبغي علينا أن نقتصر؛ حتى لا تكون هناك مشقة، يعنى لو اقتصرنا على هذه الكتب الصحاح في تعديلها للرواة فهذا كافٍ ولا شيء في ذلك. وأيضًا ويجب كذلك أن يكون المجتهد على معرفةٍ بمتن أحاديث الأحكام، من النواحي التي سبقت، من عموم وخصوص، وإجمال وتفصيل

وغير ذلك.

رابعًا: نظرًا إلى أن استنباط الأحكام محتاج إلى معرفة القواعد الأصولية التي يمكن بواسطتها استنباط هذه الأحكام؛ فإنه يجب أن يكون عالمًا بقواعد أصول الفقه.

خامسًا: يجب أن يكون عالمًا بالمسائل التي أجمع الفقهاء عليها؛ كي لا يخالف باجتهاده ما أجمع عليه العلماء في إحدى المسائل، فيؤدي ذلك إلى ارتكابه فعلًا محرمًا؛ لأن مخالفة إجماعه العلماء أمرٌ محرمٌ شرعًا.

ص: 494

ويجب أن نعلم أنه إذا ما توافرت صفة في الإمام، ثم أُصيب بعد تولّيه منصبه بمرضٍ أفقده هذه الصفة، فإنه في هذه الحال مستحقٌّ للعزل عند من يرون اشتراط صفة العلم في الإمام.

استدلال الجمهور ومخالفيهم على ما ذهبوا إليه: قلنا أن جمهور الفقهاء يشترطون في الإمام أن يكون مجتهدًا، وعلمنا الأمور التي يكون بها مجتهدًا، وهو معرفته باللغة العربية، وبآيات الأحكام، وبأحاديث الأحكام، وبعلم أصول الفقه، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرناها، لكن ما هي الأدلة التي استدلّ بها جمهور الفقهاء على أنه يجب أن يكون الإمام مجتهدًا؟ أو ما هي أدلّتهم على شرط الاجتهاد في الإمام؟

نقول: يعتمد جمهور العلماء فيما يذهبون إليه في وجوب تحقق الاجتهاد في الإمام الأعظم، على ناحيتين: الأولى: القياس، والثانية: طبيعة العمل الموكول إلى الإمام الأعظم، وما يستلزمه من أوصافٍ خاصّة حتى يؤدى على الوجه الذي أوجبه الشارع. أما فيما يختصّ بالناحية الأولى -وهو القياس- فقد قاسوا منصب الإمامة العظمى على منصب القضاء، فإذا كان القاضي يشترط فيه أن يكون مجتهدًا فكذلك الإمام من باب أولى، ليقول البعض بعد أن عدّ الاجتهاد شرطًا من الشروط الواجبة في الإمام: لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك فالإمام أولى. يعني كأنّ جمهور الفقهاء يقيسون الإمام على القاضي، فإذا كان يشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا فمن باب أولى يشترط في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا، لأن الإمام الأعظم هو الذي يولي القاضي، ويُشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا، فمن باب أولى يجب في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا.

ص: 495