الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكريم، وعرفت باسم: الدنانير الدمشقية، كما أصدر أوامره للحجاج بن يوسف الثقفي في العراق بضرب دراهم إسلامية بدلًا من الدراهم الفارسية؛ وقد حدد الخليفة عيارًا ثابتًا لهذين النوعين من النقود، وذلك وفق الشرع.
ولقيت هذه العملة الإسلامية الجديدة احترام الناس في كل مكان؛ لسلامة أوزانها، وأقبلوا سريعًا على التعامل بها، دون أن يحدث خلل في النظام المالي للدولة الإسلامية، ودعم هذا التعامل النقدي الجديد أن الخليفة أصدر أوامره باعتبار دور الضرب التابعة للدولة هي الجهة المعتمدة لسك النقود؛ وتحريم أي نقد يضرب خارجها، وسَحَبَ النقود القديمة المتداولة من الأسواق.
واستفاد النظام المالي للدولة الأموية من هذا الاستقرار النقدي، حيث كفلت النقود الجديدة العدالة لكل من الرعية، والخراج الخاص بالدولة، وأجمع المؤرخون على أن الوزن الذي صُكت عليه تلك النقود كان هو الوزن الشرعي الذي ساد عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من العملات السليمة إذ ذاك، وهي: الدرهم الفارسي، ودينار الروم.
وروى ابن خلدون في وصف المعاصرين لهذه الجملة الجديدة قائلًا: وقد طلعت عملة عبد الملك مطابقة لهذه الأوزان، واستقر الإجماع أيضًا على أنها هي النقود الشرعية، وأطبق الكل على العمل بها، ووافق الفقهاء عليها، وعلى أنها هي التي تؤخذ بها الزكاة، وتؤدَّى بها كل الحقوق التي أوجبها الشرع، أو ندبها، وصار العمل بهذه الأوزان في العصور الإسلامية.
موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتكلم عن التنظيمات المالية للخليفة عمر بن عبد العزيز.
فنقول:
صاحب النظام المالي للأمويين وقوع عدد من المفارقات الشاذة، جاء بعضها نتيجة مشاكل التطبيق عند عمال الخراج في الولايات، وجاء بعضها الآخر نتيجة مشاكل التطور الذي شهدته الدولة الإسلامية واتساعها، وتمثلت مفارقات النوع الأول في شطط عمال الخراج في جباة الضرائب، ومعنى شططهم في جباية الضرائب: أنهم كانوا يأخذون أكثر من المقرر، ذلك فيه ظلم شديد للممولين، أو دافعي هذه الضرائب.
على حين حدثت مفارقات النوع الثاني بسبب سياسة الأمويين في إغداق الامتيازات المالية على أنصارهم، وآل بيتهم، ثم بسبب تخبط السلطات الأموية في مواجهة التطور الذي اقترن بدخول أهالي الولايات أفواجًا في الدين الإسلامي؛ وبلغت هذه المفارقات الشاذة أوجها عندما تربع الخليفة عمر بن العزيز على عرش الخلافة، وغدت إذ ذاك خطرًا يهدد الكيان المالي للدولة بالتقويض، والانهيار، وبادر الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى وضع تنظيمات مالية تعالج تلك المفارقات؛ لأنه كان على علم سابق بهذه الأمور وبأسبابها قبل توليه الخلافة، إذ عرف سوء أعمال نفر من ولاة الأمويين، وقال عنهم: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلمًا وجورًا، فأرح الناس.
وحاول رضي الله عنه قبل خلافته إسداء النصح إلى بعض أولئك الولاة، وعمال الخراج، ومنهم أسامة بن زيد صاحب خراج مصر، ولم يقبل عمر العذر الذي تعلل به الوالي وهو تنفيذ سياسة الخليفة سليمان، وقال له: إنه لا يغني عنك من الله شيئًا، وقال عمر بن عبد العزيز أيضًا عن يزيد بن المهلب وآل بيته: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم.
واستهل عمر بن عبد العزيز خلافته بعزل أسامة بن زيد عن مصر، ويزيد بن المهلب عن خراسان، وعين بدلهم عمالًا أكثر عدلًا ورفقًا، ثم عمد إلى إزالة المفارقات الشاذة التي سبق أن وقعت في كل ولاية، وكانت مصر قد شهدت ضرائب إضافية مجحفة على الرهبان، الذين سبق أن أعفتهم السلطات من دفع أية ضرائب، وكانت بلاد اليمن تدفع ضرائب لم يسبق لها بها عهد؛ أما العراق فقد بلغت فيها المفارقات الشاذة عددًا كبيرًا تمثل في ما يلي:
1 -
فرض ضرائب موحدة على الأراضي المزروعة وغير المزروعة على حد سواء.
2 -
تحصيل ضرائب إضافية بعضها كان إحياء لرسوم تقليدية ساسانية اشتهرت باسم "الآبين" والأخرى اشتملت على أجور تدفع للعمال المشتغلين في دور ضرب النقود.
3 -
تحصيل ثمن الورق المستخدم في الطلبات الرسمية من الناس.
4 -
فرض ضرائب على البغايا.
5 -
فرض ضرائب على بعض البيوت.
6 -
اشتراط العمال تحصيل الضرائب بعملات ذات وزن معين، بدلًا من العملات المتوفرة لدى الأهالي، والاستيلاء على فروق النقد لأنفسهم.
وأخيرًا: زيادة الضرائب النوعية على نجرانية الكوفة؛ لاتهامهم بممالئة بعض الثائرين على الدولة.
وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على الكوفة يأمره بإبطال تلك الإجراءات الشاذة قائلًا: أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال سوء، وإن قوام الدين العدل
والإحسان، ثم قال له: لا تحملوا خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما طاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض؛ ولا تأخذ في الخراج: ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض.
وقرر الخليفة انقاص المقدار المفروض على نجرانية الكوفة من ألف وثلاثمائة حُلة على عهد الحجاج إلى مائتي حلة فقط، والحلة هي: نوع من الثياب، وهو يبلغ عشر ما كانوا يدفعونه قبلًا -يعني: قبل أن يتولى الخلافة.
وأمر في نفس الوقت بألا يؤخذ من أهل اليمن إلا المقدار الشرعي للخراج، وهو العشر أو النصف، قائلًا: والله لئلا تأتيني من اليمن غير حفنة كتم -وهو نوع من الحِناء- أحب إلي من إقرار هذه الوظيفة، وأسقط -أخيرًا- الضرائب المفروضة على رهبان مصر.
وواجه الخليفة عمر بن عبد العزيز أيضًا المفارقات الشاذة التي اقترنت بمشاكل التطور في الدولة الإسلامية؛ مواجهة كشفت عن إيمانه الصادق بالعدالة الإسلامية، وخبرته الواسعة بشئون الفقه الإسلامي، وكانت أولى المسائل التي عمد إلى حلها هي مشكلة الصوافي، التي نال أبناء البيت الأموي نصيب الأسد منها، دون مراعاة للنظام المالي الخاص بتلك الأراضي العامة للدولة، فقد كان هؤلاء الأمويون يأخذون ريع هذه الصوافي، لكنه كان يرى أنها تخضع للنظام العام للدولة الإسلامية، وينبغي أن تنفق في مصالح المسلمين.
فأطلق على تلك الأراضي المنتصبة لدى الأمويين اسم: المظالم، اعتبرها مظالم، ومعنى ذلك أن المظالم لا بد وأن ترد إلى أصحابها، وبدأ بما عنده، وبما عند آل بيته
وردها إلى الدولة، بدأ يطبق ذلك على نفسه أولًا، فهذه الأشياء أو الأموال التي كانت تأتي من هذه الأرض التي يطلق عليها الصوافي، كانت توزع على بني أمية؛ ولذلك اعتبر أن ذلك نوع من المظالم، والمظالم ينبغي أن ترد إلى أصحابها. وغضب بنو أمية من تلك السياسة، وما ترتب عليها من قلة دخولهم، وبعثوا إليه عمته فاطمة بنت مروان؛ لتثنيه عن ذلك، يعني: تثنيه وتمنعه من رد هذه المظالم، فقال لها:"إن الله تعالى بعث محمدًا رحمة، لم يبعثه عذابًا، إن الله تعالى بعث محمدًا رحمة إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده، فترك لهم نهرًا، شُربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل على عمل صاحبه، فلما ولي عثمان اشتق من ذلك النهر نهرًا، ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار، ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد، ومروان، وعبد الملك، وسليمان، حتى أُفضي الأمر إلي، وقد يبس النهر الأعظم، ولن يُروى أصحاب النهر حتى يعود إليه من نهره الأعظم إلى ما كان عليه".
ولعله يريد بذلك النهر: هذه الأموال، الموارد الإسلامية التي كانت تأتي عن طريق الزكاة، الجزية، العشور، الخراج، هذا هو نهر، كان الكل يستفيد منه، وكان نهرًا واحدًا، لكن بعد ذلك أصبح له روافد، ولذلك هو لم يرض بذلك.
ولن يروى أصحاب النهر يعني: يقصد المسلمين جميعًا، ويأخذون حقوقهم من هذا النهر، ومعنى ذلك أن هذا النهر يقصد به -كما قلنا- الأموال التي تمتلكها الدولة الإسلامية؛ ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليه من نهره الأعظم إلى ما كان عليه يعني: إلى ما كان عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
ولم يخش في رد تلك المظالم قول قائل، أو رد فعل من جانب أهله، قائلًا: كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وََقَيتُه، يعني: كان لا يخاف من رد الفعل من
الأمويين، الذين أراد أن يأخذ منهم هذه الأموال التي أخذوها بدون وجه حق، ويردها إلى أصحابها، لم يخف منهم في يوم من الأيام، قال: اليوم الذي أخاف منه فعلًا إنما هو يوم القيامة؛ أما إذا خفت من يوم آخر غير يوم القيامة فأنا لا حق لي في ذلك.
واستطاع أن يحفظ للدولة بذلك موردًا هامًّا سبق أن ضاع منها؛ لأن الصوافي -كانت طبقًا للنظام المالي- تدفع الخراج.
أما في يد بني أمية فكانت لا تدفع إلا العشر فقط، يعني: أرض الصوافي هذه الأصل فيها أنه يًفرض عليها الخراج، لكن في أيام بني أمية لم يفرضوا عليها الخراج، وإنما لم يدفعوا عليها إلا العشر فقط.
هذا ما حاول سيدنا عمر بن عبد العزيز أن يتفاداه، ونجح في ذلك.
وأظهر الخليفة أيضًا إزاء مشاكل التطور المالي قدرة هائلة في حلها، ساعدته عليها سعة علمه بشئون الدين، وحرصه على احترام المبادئ الإسلامية، وكان أخطر تلك المشاكل كثرة دخول أهل الذمة في الولايات في الدين الإسلامي، مما ترتب عليه طبقًا للتشريع الإسلامي إسقاط الجزية عنهم، ونقص هائل بالتالي في موارد الدولة، هذه بعض المشكلات التي قد يراها البعض مشكلة، فموارد الدولة كانت تأتي من الخراج، وكانت تأتي من الجزية، لكن الجزية إنما كانت توضع على غير المسلمين، فإذا أسلم غير المسلم فتسقط عنه الجزية حينئذٍ، ومعنى إسقاط الجزية عنه أن هذا المورد الذي كان يأتي منه المال للدولة الإسلامية -وهو الجزية- قد يقل كثيرًا عما كان عليه.
أقول هذه مشكلة من المشاكل التي قابلت الخليفة عمر بن العزيز، واستطاع عمر بن عبد العزيز أن يحل هذه المفارقة حلًّا يحفظ للنظام المالي مقوماته؛ وللمبادئ الإسلامية قدسيتها في نفس الوقت.
والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.