المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌انتهاء ولاية الإمام

والجدير بالذكر في هذا الصدد أن واجبات الإمام وحقوقه التي ذكرها العلماء المسلمون تقرب مما يذكره القانونيون تحت مسمى "وظائف الدولة" فقد كان الخليفة أو الإمام في عصر الماوردي وغيره ممن كتبوا في الأحكام السلطانية كان الإمام هو الدولة أو يكاد أن يكون كذلك، أما الآن فإن وظائف الدولة هي من المرونة بحيث تتأثر بالزمان والمكان وأنواع النظم وفلسفة الحكم وظروف الناس.

وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن واجبات الإمام أو وظائف الإمام وعن حقوق الإمام.

‌انتهاء ولاية الإمام

عزل الإمام أو ورئيس الدولة عن منصبه:

فنقول: بقاء الإمام أو رئيس الدولة في منصبه منوط باستمرار صلاحيته لقيادة دولة مسلمة، وهذه الصلاحية متوافرة فيه ما دامت الشروط المطلوبة فيمن يصلح أن يشغل هذا المنصب موجودة فيه، وفقدان هذه الصلاحية موجب لترك منصب القيادة حتى يشغلها من هو صالح لها، وسنتناول في هذا مسألتين هما: عزل الإمام نفسه، وانعزاله لا عن طريق نفسه.

المسألة الأولى: عزل رئيس الدولة عن طريق نفسه:

نقول: بيّن الفقهاء المسلمون أن عزل الإمام نفسه إما أن يكون لعجز أو ضعف كمرض وهرم، وإما أن يكون لا لعجز ولا ضعف بل لإيثاره ترك هذا المنصب طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون لا لهذا ولا لذاك، ولكل من هذه الأحوال حكم خاصّ بها.

فأما الحال الأولى وهي: أن يعزل الإمام نفسه لعجزه عن القيام بما هو موكول إليه من أمور الناس لهرم أو مرض أو نحوهما -فإنه ينعزل إذا عزل نفسه لذلك؛ لأن العجز إذا تحقق وجب زوال ولايته لفوات المقصود منها، بل يجب عليه إذا أحس بذلك أن

ص: 577

يعزل نفسه حرصًا على مصلحة المسلمين، فسواء أكان هذا العجز ظاهرًا للناس أم استشعره هو من نفسه فهو موجب لتركه هذا المنصب.

وأما الحال الثانية وهي: أن يعزل نفسه لا لعجز ولا ضعف بل آثر الترك طلبًا لتخفيف العبء عنه في الدنيا حتى لا يشغل بالمهام العظام الموكولة إلى رئيس المسلمين، أو طلبًا لتخفيف العبء عنه في الآخرة حتى لا يتسع حسابه -فإن للفقهاء في ذلك رأيين: أولهما: أنه ينعزل بذلك؛ لأنه كما لم تلزمه الإجابة إلى المبايعة لا يلزمه الاستمرار في منصبه. ثانيهما: لا ينعزل؛ لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلب من المسلمين أن يقيلوه من منصب الخلافة، ولو كان عزل نفسه مؤثرًا لما طلب منهم الإقالة.

وأما الحالة الثلاثة وهي: أن يعزل الإمام نفسه من غير عذر من عجزه عن القيام بأمور المسلمين، أو إيثاره ترك هذا المنصب طلبًا للتخفيف في الدنيا والآخرة -فقد اختلف الفقهاء فيه إلى ثلاثة آراء:

الرأي الأول: لا ينعزل حينئذ، وحجة هذا الرأي أن الحق في ذلك للمسلمين لا له.

الرأي الثاني: أنه ينعزل؛ لأن إلزامه الاستمرار قد يلحق الضرر به في آخرته ودنياه.

الرأي الثالث: يُنظر، فإن لم يول الإمام غيره أو ولى من هو دونه لم ينعزل قطعًا، وإن ولى من هو أفضل منه أو من هو مثله فعلى رأيين: رأي يقول بالانعزال، ورأي يقول بعدم الانعزال.

ص: 578

المسألة الثانية: انعزال رئيس الدولة لا عن طريق نفسه:

أجمع المسلمون على أن رئيس الدولة إذا لم يحدث أمرًا يخل بعدالته أو يتغير حاله فلا يجوز للأمة أن تعزله، يقول البعض: ولا يجوز خلع الإمام من غير حدث ولا تغير أمر، وهذا مجمع عليه؛ وذلك لان المسلمين أيام الفتنة التي اشتعلت في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه قد اختلفوا على قولين لا ثالث لهما، فمنهم من قال: إنه أحدث أمورًا أخلت بواجبات منصبه فيجب عزله، ومنهم من قال: إنه لم يحدث حدثًا يخلّ بواجباته فلا يجوز عزله، فما خرج عن هذين القولين فهو باطل بالاتفاق؛ وأيضًا لأن الإمام لم يكلف هذا المنصب إلا بعد أن توافرت فيه شروط خاصة، فإذا ما فقد هذه الشروط بعد توليته كان هناك سبب مقتض لعزله، وأما إذا ظلّ سليم الحال لا يأخذ عليه من ينكر من إخلال بأمور الدين أو بسياسة الشعب -فإن الإقدام على عزله آن ذاك ما هو إلا اتباع للأهواء وتلاعب بمنصب هو أخطر مناصب القيادة وهو ما يؤدي إلى الفساد، وأما إذا تغير حاله فوُجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين أو انتكاس أمور الدين فقد خرج حينئذ عن سمت الإمامة وأصبح مستحق الإقصاء عن هذا المنصب. هذا وقد بين العلماء الأمور التي بها يتغير حاله، فمنها ما هو راجع إلى خلقه وتصرفاته، ومنها ما هو راجع إلى بدنه، وسنتكلم عن هذه الأمور مبينين خلاف العلماء إن وجد عند الكلام عن كل أمر منها فنقول:

أول الأمور التي تخل بعقد الإمامة فينعزل الإمام بسببها هو: الردة، فإذا ما ارتد رئيس الدولة عن الإسلام فقد انعزل في نفس اللحظة عن الرياسة، يقول المولى سبحانه وتعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: من الآية 141)

ص: 579

وأي سبيل أعظم من سبيل الإمام، وأيضا لأن الإمام لم يكلف هذا المنصب إلا لحراسة الدين وسياسة الدنيا، فإذا ما ارتد عن الإسلام فكيف تتحقق منه حراسة الدين، إن ارتداده عن الدين يزول به مقصود الإمامة، وكل ما يزول به مقصود الإمامة مؤد إلى انحلال عقدها، فالردة مؤدية إلى انحلال عقد الإمامة وهذا أمر واضح لم يخالف فيه أحد من المسلمين.

وثاني الأمور التي ينعزل بها رئيس الدولة: زوال العقل، وقد بيّن العلماء أحوال زوال العقل، وبيّنوا لكل حال حكمها الخاص بها فقالوا: إن زوال العقل إما أن يكون عارضًا يُرجى زواله كالإغماء، أو لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل، فإن كان عارضًا مرجوًّا زواله كالإغماء فهذا لا يُبطل الرياسة، فلا يجوز لهم عزله؛ لأنه مرض قليل اللبث، وإن كان لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل فإما أن يكون مهبطًا لا يتخلله إفاقة أو يتخلله إفاقة، فإن كان مهبطًا لا يتخلله إفاقة فهذا يبطل عقد الإمامة؛ لأنه يمنع المقصود من الإمامة، وهو إقامة الحقوق واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين؛ ولأن المجنون يجب إقامة الولاية عليه فكيف يتصور أن يكون هو واليًا على الأمة، وأما إن كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة فإما أن يكون أكثر زمانه الخبل أو أن يكون أكثر زمانه الإفاقة، فإن كان أكثر زمانه الخبل فالحكم فيه كما لو كان مهبطًا فيبطل به عقد الإمامة، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد اختلف فيه العلماء على رأيين: رأي يقول بأن ذلك يبطل عقد الإمامة كما يمنع ذلك من عقده له في الابتداء؛ لأن في ذلك إخلال بالنظر المستحق فيه، ورأي يقول لا يبطل عقد الإمامة وإن كان ذلك يمنع من عقدها له ابتداء؛ لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل.

ص: 580

الأمر الثالث الذي ينعزل به رئيس الدولة أو الإمام الأعظم: ذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل، والكلام في هذه الناحية يتناول ثلاثة نقائص هي: العمى، والصمم، والخرس.

فأما العمى: فإنه إذا أصيب به الرئيس بعد توليته أبطل رياسته كما يبطل ولاية القضاء وتردّ به الشهادة، وأما إذا ضعف بصره فينظر، فإن كان يستطيع معه معرفة الأشخاص التي يراها لم يقبح ذلك في رياسته، وإلا فتبطل رياسته، وأما العشاء وهو عدم الإبصار ليلًا فكما أنه لا يكون مانعًا عن عقد الرياسة له ابتداء لا يكون ذلك قادحًا في استدامة الرياسة من باب أولى.

وأما الصمم: فقد اخْتَلَف العلماء في طروئه على رئيس الدولة: هل يكون ذلك قادحًا في رياسته أم لا على ثلاثة مذاهب:

الأول وهو أصحّها: أنه ينعزل بذلك كانعزاله بالعمى لتأثيره في التدبير والعمل.

والثاني: لا ينعزل؛ لأن الإشارة تقوم مقام السمع والخروج من الرياسة لا يكون إلا بنقص كامل.

والرأي الثالث: يفرق بينما إذا كان يحسن الكتابة وما إذا لم يكن يحسنها فقال: إن كان يحسن الكتابة لم تبطل رياسته بالصمم، وإن كان لا يحسنها بطلت رياسته به؛ لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة، وأما إذا ثقل سمعه بأن كان لا يسمع إلا الصوت العالي فإن ذلك بالاتفاق لا يقدح في رياسته، وأما الخرس فقد اختلف في طروئه على الرئيس كالخلاف السابق في الصمم والأصحّ كما سبق في الصمم أنه ينعزل به.

هذا ما يتصل بذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل، وأما ما لا يؤثر ذهابه في الرأي والعمل كذهاب حاسة الشم وفقدان الذوق الذي يدرك به الطعام فباتفاق العلماء لا ينعزل الرئيس به.

ص: 581

الأمر الرابع الذي يؤدي إلى انعزال رئيس الدولة: فقد الأعضاء التي يخلّ فقدها بالعمل أو النهوض كانقطاع اليدين جميعًا أو الرجلين جميعًا، فإذا حدث للرئيس شيء من ذلك انعزل به لعجزه عن كمال القيام بحقوق الأمة، وأما إذا حدث له ما يؤثر في بعض العمل أو في بعض النهوض دون بعض كبتر إحدى اليدين أو إحدى الرجلين فقد اختلف العلماء في ذلك على رأيين:

أولهما وهو الأصح: أنه لا ينعزل به وإن كان ذلك يمنع انعقاده له ابتداء؛ لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة فيعتبر في الخروج منها كمال النقص.

والرأي الثاني: أنه ينعزل بذلك؛ لأن الرئيس أصبح به ناقص الحركة، وأما إذا فقد الرئيس ما لا يؤثر فقده في عمل ولا نهوض كقطع الذكر والأنثيين وجدع الأنف وثمل إحدى العينين فلا يخلّ ذلك برياسته.

الأمر الخامس الذي ينعزل به رئيس الدولة: بطلان تصرف رئيس الدولة، ويندرج تحت هذا عدة صور:

الصورة الأولى: أن يحجر عليه ويقهره من يستبد من أعوانه بالتصرف في أمور الأمة من غير تظاهر بمعصية ولا خروج عن طاعة، فإذا حدث هذا فإن العلماء ينظرون في مقام بيان الحكم فيه إلى ناحيتين: الناحية الأولى: هل صلاحيته للرياسة لا زالت موجودة أم أنه بوقوعه تحت قهر هذا المستبد قد فقد صلاحيته لهذا المنصب. والناحية الثانية: هل يجوز إقرار هذا المستبد على أفعاله وتصرفاته التي سلبها من رئيس الدولة أم أنه لا يجوز إقراره عليها،

ص: 582

أما فيما يختص بالناحية الأولى وهي: هل صلاحيته للرئاسة مازالت موجودة أم لا -فالعلماء يقولون: إن هذا لا يقدح في رياسته فلا ينعزل بهذا القهر عن منصبه، وأما فيما يختصّ بالناحية الثانية وهي: هل يجوز إقرار هذا المستبد على أفعاله أم لا -فينظر في تصرفات من استولى على أموره، فإما أن تكون جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل أو لا، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها؛ لأن في عدم إقرارها إيقافًا لبعض المصالح، وهذا يعود بالفساد على الأمة فأصبح الحال حينئذ كما لو استولى على نفس منصب الرياسة بالقهر، وأما إن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل فإنه لا يجوز إقراره عليها ويجب على الرئيس أن يستنصر بالشعب حتى يزول تغلّب هذا المتغلب وتسلطه.

الصورة الثانية من صور بطلان تصرف رئيس الدولة: أن يقع رئيس الدولة في الأسر، وذلك الأسر إما أن يكون من المشركين أو من بغاة المسلمين، فإن أسره المشركون فإما أن يكون مرجوّ الخلاص أو ميئوسًا منه، فإن كان مرجوّ الخلاص بقتال أو بفداء فهو على رياسته ويجب على كافة الأمة استنقاذه من أيديهم، أما إن كان ميئوسًا من خلاصه بأن غلب على الظن عدم خلاصه إلى موته فقد خرج بهذا الأمر عن الرياسة وعلى أهل الحلّ والعقد أن يختاروا غيره من الصالحين لرياسة الأمة فيبايعوه رئيسًا عليها، وأما إن أسره بغاة المسلمين فينظر أيضًا في ذلك فإما أن يكون مرجوًّا خلاصه من أيديهم أو من ميئوسًا منهم، فإن كان مرجوّ الخلاص فهو باق على رياسته ويجب أيضًا على كافة الأمة استنقاذه من هذا الأسر، وإن كان ميئوسًا من خلاصه فينظر في حال البغاة، فإن لم يكونوا قد اختاروا رئيسًا للدولة غيره فالرئيس المأسور في

ص: 583

أيديهم على رياسته؛ لأن بيعته لازمة لهم وطاعته عليهم واجبة فصار معهم كما لو كان مع أهل العدل حال وقوعه تحت الحجر ممن استبد به من أعوان وحينئذ يجب استنابة آخر مكانه ليقوم بتصريف أمور الدولة بصفته نائبًا عن الرئيس لا بصفته رئيسًا؛ حتى لا تتعرض مصالح الأمة للتعطيل، والرئيس المأسور أحقّ باختيار من ينوب عنه ما دام قادرًا على الاستنابة، فإن لم يقدر عليها فعلى الأمة ممثلة في أهل الحلّ والعقد أن تختار هي النائب الذي سيقوم بتصريف الأمة حتى يفعل الله ما يشاء من خلاص الرئيس من الأسر أو وفاته، فإذا تحقق الميئوس منه فخلص الرئيس من الأسر انعزل نائبه وأصبحت أمور الدولة راجعة إلى يد الرئيس، وأما إذا عزل الرئيس المأمور نفسه أو مات في الأسر فإن نائبه لا يصير رئيسًا للدولة إلا بمبايعة أهل الحلّ والعقد؛ لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده، وإن كان البغاة قد نصبوا عليهم رئيسًا للدولة يخضعون له فالرئيس المأسور في أيديهم خارج عن رياسة الدولة؛ لأنهم قد انحازوا بدار انعزل حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة، ويجب على الأمة ممثلة في أهل الحلّ والعقد أن تختار لنفسها رئيسًا غيره، فإن استطاع الرئيس المأسور أن يتخلص من أسره لم يعد إلى الرياسة؛ لأنه قد خرج عنها.

الصورة الثالثة من صور بطلان تصرف رئيس الدولة: أن يخرج عليه من يستولى على منصب الرياسة بالقوة وهو ما يعرف في عصرنا بالانقلاب في الحكم، وهو أحد الطرق التي تنعقد بها الرياسة كما بيّنا ذلك، وقد بينا أن العلماء قالوا بانعزال الرئيس وانعقاد الرياسة للمتغلب حتى لا يقع الناس في فوضى الحرب الأهلية ويعمّ الفساد،

ص: 584

وصفوة القول: أن الرئيس ينعزل عن منصبه إذا بطل تصرفه باستيلاء آخر على هذا المنصب بالقوة، سواء أكان الرئيس المقهور قد جاء إلى الحكم عن طريق اختيار أهل الحلّ والعقد أم كان هو الآخر قد قهره من سبقه.

الأمر السادس من الأمور التي ينعزل بها رئيس الدولة: جور الرئيس أي: ظلمه عباد الله تعالى، وفسقه أي: خروجه عن طاعته سبحانه وتعالى، فنقول: اختلف العلماء في جور رئيس الدولة وفسقه يعني: إذا أصبح ظالما وغير عادل: هل ينعزل بسببهما؟ أي: هل ينعزل بسبب الظلم وبسبب الفسق الذي طرأ عليه بعد أن تولى الرئاسة أم لا؟

نقول: فأما الخوارج فإنهم لما كانوا يقولون بأن الفسق يُخرج مرتكبه عن الإمام قالوا بانعزال الإمام إذا فسق؛ لأنه حينئذ ليس مؤمنًا وغير المؤمن لا يصلح أن يكون إمامًا، وكذلك يرى المعتزلة انعزاله بالجور والفسق؛ لأنه إذا وجب انعزال القاضي وأمير الإقليم بظهور الفسق عليهما فإنه يجب انعزال الإمام من باب أولى إذا ارتكب ذلك، ويرى البعض أيضًا أنه لا ينعزل بذلك؛ لأن في انعزال الإمام ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة لما له من الشوكة.

ولو رجعنا إلى الجماعة الأحناف فإنهم لما كانوا لا يرون العدالة شرطًا في صحة الولاية حيث يصحّ عندهم تقليد الفاسق رياسة الدولة لكن مع الكراهة كما بينا ذلك عند كلامنا على شروط رئيس الدولة -نقول: لما كانت العدالة ليست شرطًا عندهم في صحة رياسة الدولة فإنهم قالوا: إذا اختارت الأمة إمامًا توافرت فيه صفات العدالة ثم جار أو فسق فإنه لا ينعزل عن منصب الإمامة ولكنه يستحق أن يعزله أهل الحلّ والعقد إذا أمنوا وقوع الفتنة، وإن لم يؤمن وقوعها فلا ينعزل.

ص: 585

أي أن الأحناف يقولون بأنه إذا فسق ففي هذه الحالة لا يكون واجب العزل أو لا ينعزل بمجرد هذا الفسق، وإنما الأمر يكون متروكًا لأهل الحلّ والعقد، فإن رأوا عزله عزلوه وإن رأوا إبقائه أبقوه، لكن في حالة ما إذا رأوا عزله عليهم أن يلاحظوا ما يترتب على عزله من فتن، فإن ترتب على عزله فتن فعليهم ألا يعزلوه في هذه الحالة. وقد استند الحنفية في رأيهم هذا إلى أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا خلف بعض بني أمية وقبلوا ولايتهم، فقد صلى غير واحد منهم خلف مروان بن الحكم قالوا: وروى البخاري في تاريخه "أدركت عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور".

وعدم انعزال الرئيس بالفسق هو ما يراه أكثر العلماء؛ لأن السلف كانوا يرون الفسق ظاهرًا والجور واقعًا من الأئمة بعد الخلفاء الراشدين، وكانوا مع ذلك ينقادون لهم، وكان الصحابة والتابعون ومن بعدهم يرون خلافة بني أمية وبني العباس مع أن أكثر بني أمية وأكثر بني العباس كانوا فساقًا.

وبعد فهذه هي آراء العلماء في انعزال رئيس الدولة بالفسق والجور، وأننا نرى أن الرأي القائل بوجوب عزل رئيس الدولة بالجور والفسق إذا لم تكن فتنة هو الأولى بالقبول، فيجب على أهل الحلّ والعقد في الدولة إذا رأوا جور رئيس الدولة أو فسقه أن يعلنوا عزله عن منصبه إذا أمنوا وقوع الفتن وأن يقوموا باختيار من هو أهل للرياسة بعد ذلك، وأما إذا لم يأمنوا وقوع الفتن فلا يجوز لهم عزله، وإنما قلنا بوجوب عزله إذا جار أو فسق بشرط عدم الفتنة؛ لأنه إذا كنا شرطنا العدالة فيمن يولى رئيسًا على

ص: 586

المسلمين فإن فقدان هذا الشرط إذا كان قادحًا في استحقاق تولي منصب الإمامة ابتداء، فإنه يجب أن يكون قادحًا في استمرار الإمامة أيضًا؛ لأن علة اشتراط هذا الشرط لا تزول بمجرد تولية هذا المنصب والإمامة قيادة لأمة مسلمة، وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة لكل المسلمين حكّامًا ومحكومين في جميع الأعصر فإن رئيسهم يجب أن يكون مثلهم في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لأحكام الدين الذي اختير لحراسته؛ لأن الناس على دين ملوكهم فإذا فسق الرئيس أو جار وهو القائم على قمة السلطة التنفيذية في الدولة -فإن إيمان الناس بالفضيلة والعدل قد يهن، وقد يتخذه من لم يتمكن الإسلام من نفوسهم في سلوكهم مثلًا وقدوة، وفي هذا أعظم الضرر على الدين وعلى الأمة.

وأما ما استند إليه القائلون بعدم الانعزال من أن الصحابة كانوا يصلّون خلف بعض بني أمية مع ظهور فسقهم، وأن التابعين كانوا يعترفون بخلافة بني العباس مع أن أكثر هؤلاء كانوا فساقًا فلا نسلم بهذا الاستدلال؛ إذ أن هؤلاء الحكام كانوا ملوكًا تغلبوا على الأمر، والمتغلب تصحّ إمامته للضرورة؛ حتى لا تتعطل مصالح المسلمين من فصل قضاياهم، وزواج من لا ولي لها، وجهاد الكفار وغير ذلك مما سبق بيانه، وليس بشرط في صحة الصلاة خلف الإمام أن يكون عدلًا فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا وإن عمل الكبائر)).

وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن نظام الحكم في الإسلام.

أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 587