الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي عهد عمر فتحت سورية، وفلسطين، وسواد العراق، وأكثر أقاليم الفرس، كما فتحت مصر، وأفريقية من أقاليم الروم، فكتب أبو عبيدة من الشام، كما كتب من قبله سعد بن أبي وقاص من العراق إلى عمر بقسمة الأرض، والفيء، والمغانم بين المسلمين، إلا أن عمر -وبعد استشارة أهل الرأي في المدينة- أبقى الأرض المفتوحة بأيدي أهلها، وفرض عليهم الخراج، وهو ضريبة على الأرض، وأيضًا فرض عليهم الجزية وهي ضريبة الرءوس، وقد كان هذا سببًا أساسيًّا في إنشاء هذا الديوان، الذي أصبح موردًا رئيسيًّا من موارد بيت المال.
التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال
ومن أهم الأشياء التي نظمها، واهتم بأمرها عمر بن الخطاب، هو تنظيم الجيش الإسلامي، وجعْل التجنيد إجباريًّا، فلم يكن الجيش في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم منظمًا، وعندما أذن الله لرسوله، وأصحابه، بالقتال، كانت الدعوة للجهاد لمن أراد طواعية، وإنَّ وقائع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تشير إلى إلزامه نفرًا من أصحابه بالتجنيد، يعني كان لا يُلزم أحدًا بأن يقاتل مع المسلمين، فقد كان يكتفي بحض المؤمنين على القتال، وكان عليه السلام يؤثر أن يصحبه في المعركة من أقبل على القتال عن رضا وطواعية، فأما المتباطئ المتثاقل فكان يقول لصحبه إذا ذكروه: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، وكثيرا ما كان يقول للمؤمنين قبيل المعركة: لا يخرج معنا إلا راغب في الجهاد، ثم فتح الله لرسوله مكة فتحًا مبينًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأمسى عدد المؤمنين كبيرًا، وبات ممكنًا إعداد جماعة تعني بأمر القتال، إلا أنه لم تشكَّل جندية إلزامية، بل تمثلت في المسلمين ملامح التطوع في أغلب الحالات.
ولعل إمارة الجيش قد أصابت من التنظيم الرسمي أكبر من حظ التجنيد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر الرجل على القوم وفيهم من هو خير منه؛ لأنه أيقظ عينًا، وأبصر بالحرب، وبهذا نفسر اختياره حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأمثالهم، لقيادة السرايا سرًّا من أسرار الفوز في جل المعارك التي خاضها المسلمون في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أبو بكر فقد سار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في ندب الناس إلى القتال عند الحاجة إليهم، وظل يستنفر الراغبين، ولا يُكره المتخلفين.
لكن في ضوء هذه الحالة الاجتماعية التي سادت أطراف الجزيرة العربية، وما جاورها من دول حضارية، لم يكن بد من أن تتغير الحال في عهد عمر بن الخطاب، فنظر عمر بن الخطاب إلى نظام التجنيد نظرة جديدة، فيها ترغيب، وتشديد، أما عن نظرة الترغيب فقد ذكر الناس بجدب الجزيرة العربية، وما ينتظرهم من الفيء في إتمام فتوح العراق، فليست الحجاز لهم بدار فيها الرفاهية، والتقدم، وأما عن نظرة الشدة والترهيب، فقد أمر عمر عماله على الأقاليم بإحضار كل فارس ذي نجدة، أو رأي، أو فرَس، أو سلاح، فإن جاء طائعًا، وإلا حشروه حشرًا، وقادوه مقادًا، أي أمرهم بأن يحضروا إليه كل إنسان قادر على القتال، معه أدوات القتال، حتى ولو لم يرض، واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلًا: لا تدَعوا أحدًا إلا وجهتموه إليَّ، والعجل العجل، يعني أسرعوا في هذا.
لكن عمر كان يفكر بالتجنيد الإلزامي الموقوف للجهاد، فلم يكن ليرضيه تطوع المتطوعين، ولما دون الديوان، ورتب للمسلمين أرزاقهم السنوية، خرجت فكرته
إلى حيز الوجود، فاقترنت نشأة الديوان بنشأة التجنيد النظامي الرسمي، وحُددت للجنود النظاميين عطاياهم، ومرتباتهم من بيت مال المسلمين.
ومن مظاهر التنظيم التي أضفاها عمر على الجيش انه أخذ أصول طائفة منها، عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخل عليها بعض التعديلات، واقتبس طائفة أخرى عن الفرس، والروم؛ لتلائم حاجات الجيش الإسلامي، فقد استعمل عمر رتبي النقيب، والعريف، فالعرافة في كتاب عمر هذا تناولت الناس، فكأنهم المدنيون، في حين تناول التأمير، والتعبئة الجندَ، وهم العسكريون، وهذه أول ميزة من ميزات التنظيم العسكري عند عمر، فالعريف في عهد عمر بات ينوب عن قبيلته، على حين كان العريف في الجند ينوب عن عشرة من الأجناد، وتشير المصادر التاريخية الموثوقة أن الجيش الإسلامي في عهد عمر قد عرف رتبة الخليفة على خمسين جنديًّا، والقائد على مائة، وأمير الكردوس على ألف، وأمير الجيش على عشرة آلاف أو تزيد، وقد أنشأ عمر في المدينة معسكرًا للتدريب قبل الإمداد، وكان يشرف بنفسه على تدريب الجند، ولا سيما الفرسان في مكان اسمه الحم القريب من المدينة، فيشهد -إن صح التعبير- عرضًا عسكريًّا، أو مناورات حربية، وكان يصحب معه في تلك التمرينات اليومية نعاة الإبل، أي الخبراء بأدوائها، وأمراضها؛ ليشرفوا على بيطرتها.
وقد عين على خيل الجيش بالكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي، فسماه الناس سلمان الخيل؛ لخدمة أمرها، وخبرته بها، وأقام عمر الحصون، والمعسكرات
الدائمة، لراحة الجنود في أثناء الطريق، بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الخيل والإبل، ولا يرتاحون إلا في أكواخ مصنوعة من سعف النخل، ثم أنشأ لجنده المدن يسكنونها بعيدين عن أهل الأرض المفتوحة، وأقيمت الحاميات لصد هجمات الأعداء المفاجئة، ثم دون لهم ديوان الجند، وقرر لهم الأرزاق الدائمة، وهذه ميزة الميزات، ومفخرة من مفاخر عمر، وسبب في إنشاء الجيش النظامي.
ومن الأشياء التي أنشأها عمر أيضًا بيت المال:
فلم تكن الحاجة ماسة لوجود بيت المال في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحياة كانت بسيطة، فكانت الإيرادات من الغنائم، والزكاة، وغيرها، ترد للدولة الناشئة، وتوزع في الحال على المستحقين، الذين نزل فيهم قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60) وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الأنفال: من الآية 41) وقد سار أبو بكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصنع صنيعه، وجرى الأمر في العهد الأول من خلافة عمر، لكن اتساع رقعة الفتح، زاد في أموال الفيء، كما فتح موردًا آخر أغزر مادة وأبقى، ذلك مورد الخراج، والجزية، وقد بلغت غزارة هذا المال والمورد قبل أن يتم فتح فارس، وقبل أن يبدأ فتح مصر مبلغًا حمل الخليفة عمر في التفكير في إقامة نظام مالي للدولة الناشئة، فكان لا بد من التطوير في نظام الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب؛
لطول عهده، ولأن الله فتح للمسلمين في خلافته بلاد فارس، والشام، ومصر، فتشعبت أمور الدولة الإسلامية، وتفرعت مطالبها، وزادت ماليتها، وفي الوقت نفسه اتصلت الدولة الناشئة بحضارات عريقة في الدول المفتوحة، مما نبه عمر إلى الاستفادة بما في هذه الدول من نظم لحل المشكلات الإدارية، والتنظيمية، التي تواجهها الدولة الإسلامية، وللرقي بها خطوات إلى الأمام.
وهكذا أنشأ عمر الدواوين كما سبق، وكان لزامًا على عمر إنشاء بيت المال، وأن يضع أسسه، وينهض به، فقد وظَّف القضاة والولاة، ورتَّب الجند، وجعل الجندية عملًا دائمًا كما رأينا، وأصبح الجند يرابطون في الثغور، وكان لهم ديوان الجند، وقد حُددت لهم، ولذويهم، رواتب ونفقات منظمة، كما فرض العطاء للمسلين، وكان لهم ديوان العطاء، وأنشأ ديوان الجباية؛ لاستقبال الخراج، والجزية، فارتباط عمر بالعطاء، وصرف المرتبات على جنده وعماله، أحوجه للادخار؛ ليوفي بما ارتبط به، وبالتالي احتاج لبيت المال؛ ليضع فيه هذه المدخرات، وكشوف المستحقين، فبيت المال يشمل النظر في كل ما يتعلق بأموال الدولة من زكاة، وخراج وجزية، وفيء، وغير ذلك.
ويسمَّى بيت المال الديوان السامي، أو ديوان الأموال، وهو أصل الدواوين، ومرجعها، ووظيفته أن يثبت في جرائده جميع المستحقات لبيت المال على أصنافهم، من عين، وغلال، وحيوان، كما يثبت الأموال المستحقة على بيت المال كأرزاق الجيش، والقضاة، وأثمان ما يلزم من أسلحة، وغير ذلك مما ينفق في سبيل المصلحة العامة.
وقد أتاحت الشريعة الإسلامية بنظومها الفرصة لتنظيم الشئون المالية في الإسلام، فقد بيَّن الله مصارف الزكاة، وخُمس الغنائم، والفيء، وسكت عن