الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسائل الإثبات
وننتقل الآن إلى الحديث عن القرائن، ودورها في الإثبات: فنقول:
القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع، وذلك سواء في حال وجود البينة أو الإقرار أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات.
قد تمنع القرينة سماع الدعوى، كإدعاء فقير معسر إقراض غني موسر، وقد ترد البينة أو الإقرار حال وجود التهمة مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلًا مرجحًا أثناء تعارض البينات، مثل: وضع اليد ونحوه كما عرفنا، وقد تعتبر القرينة دليلًا وحيدًا مستقلًا إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها في رأي المالكية والحنابلة، قال ابن القيم: ومن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية فقد عطل كثيرًا من الأحكام، ووضع كثيرًا من الحقوق.
تعريف القرينة:
القرينة لغة: هي العلامة الدالة على شيء مطلوب، واصطلاحًا: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا، فتدل عليه.
ويفهم من هذا التعريف: أنه لا بد في القرينة من أمرين، الأول: أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساسًا للاعتماد عليه، الثاني: أن توجد صلة مؤثرة بين الأمر الظاهر، والأمر الخفي، وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين، قرائن قوية، وقرائن ضعيفة، وللفقهاء والقضاء دور ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن.
ومن القرائن الفقهية: اعتبار ما يصلح للرجال من متاع البيت عند اختلاف الزوجين في ملكيته هو للرجل، كالعمامة والسيف، وما يصلح للنساء فقط، كالحلي للمرأة بشهادة الظاهر، وملاحظة العرف، والعدل.
ومن القرائن القضائية: الحكم بالشيء لمن كان في يده، باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب الظاهر، وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين، مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشًا ملطخًا بالدم، ومعه سكين بجوار مدرج بدمائه في مكان، فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء.
أما إذا كانت القرينة غير قطعية، ولكنها ظنية أغلبية، كالقرائن العرفية أو المستنبطة من وقائع الدعوى وتصرفات الأطراف المتخاصمين، فإنها تعد دليلًا مرجحًا لجانب أحد الخصوم متى اقتنع بها القاضي ولم يوجد دليل سواها، أو لم يثبت خلافها بطريق أقوى. ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا يحكم بها أيضًا في القصاص إلا في القسامة؛ للاحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس، ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها.
إلا أن المالكية أثبتوا شرب الخمر بالرائحة، وأثبتوا الزنا بالحمل لغير المتزوجة، ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا بالحمل، وفصل الحنابلة فقالوا: تحد الحامل بالزنا وزوجها بعيد عنها، إذا لم تدعِ شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها.
قال ابن القيم: نظر جمهور الفقهاء -كمالك وأحمد وأبي حنيفة - إلى القرائن الظاهرة، والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منهما بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد، أي: وضع اليد والبراءة، والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين فيثير ذلك ظنًا تترجح به الدعوى، ومعلوم أن الظن الحاصل ها هنا، يعني الحاصل من القرائن، أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه، وتبينه، ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -من بعده- اعتبروا العلامات في الأحكام، أي: القرائن في الأحكام وأخذوا بها، وجعلوها مبينة لهذه الأحكام، كما اعتبر العلامات في اللقطة وجعلوا صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له، وجعل الصحابة الحبل علامة ودليلًا على الزنا فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها بمنزلة الإقرار والشاهدين.
واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إنبات الشعر حول القبل في البلوغ وجعله آية وعلامة له، فكان يقتل من الأسري يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقى من لم تكن فيه، وأيضًا جعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل.
وهكذا يبين لنا ابن القيم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- أخذوا بالقرائن، ولذلك لا مانع من الأخذ بها؛ حتى لا تضيع الحقوق.