الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي
وننتقل الآن -أبنائي وبناتي طلاب الدراسات العليا- إلى ركن آخر، أو إلى قاعدة أخرى من القواعد التي قام عليها النظام السياسي في الإسلام، وهذه القاعدة هي الحقوق والحريات في النظام الإسلامي:
تسعى الدول الحديثة إلى حماية الأفراد من عسف السلطة واعتدائها على حقوقهم، وذلك بتقرير مجموعة من الحقوق والحريات الفردية، التي تعتبر بمثابة حواجز منيعة أمام سلطان الدولة، لا يجوز لها أن تقتحمها أو أن تتخطاها، وإلا كانت دولةً موصومةً بالاستبداد وعدم الشرعية أو الدستورية.
والجدير بالذكر أن الحديث عن الحقوق والحريات الفردية في الدول الحديثة، لم يعرف إلا منذ قامت الثورة الفرنسية، وأصدرت ما يسمى بوثيقة إعلان حقوق الإنسان، وأعلنت فيها اعترافها بالحقوق الطبيعية للإنسان، التي تثبت له بصفته إنسانًا، والتي وجدت معه قبل وجود الدولة؛ ومن ثمّ فلا يجوز للدول تخطي أو تجاوز هذه الحقوق -كما ذكرنا.
ولقد اختلف مفهوم الحقوق والحريات الفردية في الدول الحديثة، بحسب ما تدين به من أنظمة فردية أو جماعية؛ ولذلك تنقسم هذه الحقوق إلى:
- حقوق فردية تقليدية تتقرر للإنسان بوصفه كائنًا مجردًا.
- وحقوق أخرى اجتماعية واقتصادية تتقرر للأفراد بوصفهم أعضاء في جماعة منظمة، وعلى الدولة أن تلتزم إيجابيًّا في مواجهة الأفراد، بالحفاظ على هذه الحقوق، ولا تكتفي بالالتزام السلبي الذي يحصر نشاطها في مجرد حفظ الأمة، والدفاع عن الوطن، وحماية مصالح الأفراد من الاعتداء عليها.
ومفهوم الحرية في الفكر الفردي الذي نادى به مجموعة من الفلاسفة، مثل "جان جاك روسو" و"جون لوك" و"فولتير"
…
وغيرهم، هذا المفهوم يختلف عنه تمامًا في الفكر الاشتراكي، الذي رفع لواءه "كارل ماركس" ومن سار على دربه؛ لأن الحريات في نظر أصحاب الفكر الاشتراكي لا يمكن كفالتها إلا في ظل بيئة معينة، ومجتمع اشتراكي تقوم الدولة بتحقيقه؛ ومن هنا جاءت التجربة الشيوعية في روسيا لتطبيق تلك النظريات التي جاء بها رواد الفكر الاشتراكي.
وأما في النظام الإسلامي فالحقوق الفردية تتقرر على أساس رُوحي، قوامه: أن الآدميين جميعًا مكرمون من قبل الخالق سبحانه وتعالى يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70) وهم جميعًا حكامًا ومحكومين مخلوقون لعبادة الله سبحانه وتعالى يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) والعبادة تعني الخضوع الاختياري لسلطان الله المطلق، وتعريف شئون الفرد أو الجماعة على حسب ما فصل -سبحانه- في شرعه، فالحقوق والحريات الفردية أو الجماعية بالنظام الإسلامي أساسها العقيدة، ونظامها الشريعة، وهي منح إلهية من الخالق سبحانه وتعالى الذي كرّم الجنس، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلًا؛ وبهذا وحّد الإسلامُ الغايةَ بالنسبة لكل من الفرد والدولة، فهي عبادة الله والخضوع لسلطانه، بتنفيذ شرعه في الحقوق والحريات؛ ومن ثم لا نجد في النظام الإسلامي عدوانًا على حقٍّ مهما كانت طبيعته، فحقوق الأفراد وحرياتهم محميةٌ ومرعيةٌ، ولكن ليس على حساب الجماعة، وكذلك العكس، ولكن مع عدم الاستبداد أو الطغيان الذي يؤدي إلى وأد مصالح الأفراد، فهناك إذن توازنٌ بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بحيث لا تطغى مصلحة على الأخرى.
والذي يجب التنبيه عليه في هذا الصدد أن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي ليست مطلقةً عن كل قيد، فبالإضافة إلى ما ذكرنا من الموازنة بين المصلحتين الخاصة والعامة، يجب دائمًا أن يتحمل الضرر الأخف في سبيل رفع الضرر الأعلى -كما تقول بذلك القواعد الفقهية- فمثلًا إذا كان الشارع يقرر للأفراد الحق في التملك، فهو يقيده بضرورة أن يكون ناشئًا عن سبب شرعي، كالاستيلاء على المباحات، أو العقود والتصرفات: كالبيع، والهبة، والوصية، والإجارة، والشركة
…
ونحو ذلك، بشرط أن تكون هذه العقود مستوفيةً لأركانها وشرائطها على النحو الذي رسمه الشارع، وقد ينشأ الملك عن الإرث، وهو في هذه الحالة ملك قهري بحكم الشارع وليس بإرادة كل من الوارث أو المورث، كما رسم الإسلام سبل استثمار المال وتنميته، بطريقة تنفي عن المجتمع أن يكون متلطخًا بأدران الربا، أو منغمسًا في مباءة الكسب غير المشروع عن طريق الاتجار في المحرمات، كالمخدرات، والخمور
…
وأشباه ذلك، مما تعج به المجتمعات الحديثة التي تتشدق بالحرية بملء أفواهها وهي لا تمتّ لها بصلة.
وكذلك أذن الشارع في الانتفاع بالمال من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ، وأن يكون الإنفاق في الوجوه الشرعية المعتبرة.
ويجوز في النظام الإسلامي نزع الملكية الخاصة؛ لتوسعة طريق عام، أو شق مجرى نهر
…
ونحو ذلك من المنافع العامة.
كما يجوز بيع الملك جبرًا على صاحبه في تسديد ديونه، فتلك إذن كلّها قيود وردت على حق الفرد في التملك؛ ليكون الحق في نطاقه الفردي والجماعي الذي رسمه له الشارع، ولا يكون وسيلةً للاستبداد، أو الطغيان، أو الإضرار بالآخرين.