الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
النظر فيما يقع بين المواطنين، والإدارة، من منازعات.
وهكذا نرى أن الرقابة بكافة صورها، وأشكالها التي تلائم المجتمعات الإسلامية، قد أخذ بها النظام الإسلامي فكرًا، وعملًا، وكانوا يعتبرونها واجبًا عليهم يحاسَبون عليه أمام الله سبحانه وتعالى مصداقًا لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم:((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع)).
ويتضح ذلك أكثر فيما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأل الناس: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: لا، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته به أم لا؟.
الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ننتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر وهو: التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي.
بعدما ذكرنا توجيهات الفكر الإداري الإسلامي في الإدارة، والمنهج الإسلامي في الإدارة، نريد أن ننظر إلى الواقع، ونطبق هذه الأمور النظرية التي درسناها على الواقع، فندرس الآن التنظيم الإداري في مجال التطبيق، وخير تطبيق لذلك هو ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه الراشدين، فنبدأ -إن شاء الله- في الحديث عن هذا الموضوع، وهو التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي.
ونبدأ الآن في التنظيم الإداري في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم فنقول:
يعتبر التنظيم الإداري للدولة الإسلامية صورة صادقة للفكر السياسي، وتطوره عند المسلمين، والأداة الفعالة التي صاحبت بناء هذه الدولة منذ فجر تاريخها، ويرجع السبب في ذلك إلى أن التنظيم الإداري للدولة الإسلامية استند إلى تقاليد رفيعة، وأسس راسخة الأوتاد، وضعها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ إذ أدرك
-عليه الصلاة والسلام منذ جهر بالدعوة إلى الإسلام، أدرك أهمية التنظيم الإداري لأبناء المجتمع الإسلامي الجديد، وضرورة تنسيق العمل بينه عليه الصلاة والسلام وبين القائمين على هذا التنظيم الهام؛ من أجل تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة، وظهرت طلائع هذا التنظيم الجديد منذ بيعة العقبة الثانية، التي حضر فيها وفد من أهل يثرب إلى مكة، في العام السابق من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولمَّا كان هذا الوفد يتألف من مجموعة كبيرة عددها ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة وضع نظام لهم باعتبارهم نواة المجتمع الجديد، وليحافظ على سلامة هذا المجتمع وتنسيق العمل بين أفراده في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وشرَح الرسول الكريم لأعضاء وفد يثرب نظامه، وأهميته، حيث قال لهم قبل عودتهم إلى يثرب:((أخرجوا إليًّ منكم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم)) فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وعندئذ خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم أولئك النقباء، أو رجال النظام الإداري الأول في الإسلام، موضحًا لهم أسلوب العمل قائلًا: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.
وحقق هذا التنظيم الإداري المبكر أولى ثماره الرائعة، في إعداد العدة لهجر الرسول إلى يثرب، ثم تهيئة الجو لنجاحها، برغم كيد الكفار، وسعة تدبيرهم، وبدأت بانتقال الرسول الكريم إلى يثرب مرحلة جديدة للتنظيم الإداري، من أجل التفرغ لأداء رسالته الدينية، ورفع قواعد المجتمع الإسلامي الوليد، ودولته الناشئة، وتجلت معامل هذا التنظيم الإداري في الصحيفة التي عقدها الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ويهود يثرب، والتي صارت تمثل النظام السياسي لجماعة المسلمين في المدينة، والدستور الدائم للدولة الإسلامية الوليدة، إذ رسمت هذه الصحيفة إلى جانب الشروط السياسية، وما ارتبط بها من حقوق وواجبات، أقول: رسمت هذه الصحيفة أسلوب العمل بين جميع الفئات المدنية، بما يجعل التنظيم الإداري ترجمة فورية، وعملية، لما تضمنته تلك الصحيفة من نظام سياسي، ويلمس الباحث في تلك الصحيفة الارتباط الوثيق بين النظامين السياسي، والإداري، وهي الحقيقة التي غدت سمة مميزة لنظم الدولة الإسلامية كلها، وقاعدة أساسية التزم بها الخلف عن السلف طوال عصر هذه الدولة الزاهر.
وتتضح القواعد الأساسية لهذا الترابط في النص على أن المؤمنين أمة من دون الناس، وأن أفراد هذه الأمة عليها تنظيم العمل فيما بينها إداريًّا؛ من أجل السهر على الأمن، والضرب على يد المفسدين، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، واختار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من جماعة الصحابة رجال إدارته، كل حسب مواهبه، واستعداده، وتزويدهم أيضًا بالتدريب الكافي، والإرشادات التي تتفق مع تطور الدولة، واتساع سلطانها، وكانت القدرة على نشر الدعوة هي الأساس الأول للعمل في الميدان الإداري، وجاء في مقدمة العاملين في هذا الميدان الإداري سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار، منهم حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وسليمان، وعمار، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، واشتهروا جميعًا باسم النقباء؛ لأنهم ضمنوا للرسول إسلام قومهم، وأن النقيب هو الضمين لما يتولاه من أمور، واستطاع نظام النقباء أن يحافظ على
الاتصال بين النبي باعتباره رأس الدولة الجديدة، وبين جماعة المسلمين، وذلك على هدي القاعدة التي سبق أن تقررت إداريًّا في بيعة العقبة الثانية.
وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم في رجال إدارته خصائصهم، وحث الناس بالتالي على أمثل السبل للإفادة من نشاطهم، فقال عليه الصلاة والسلام:((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم (يعني أعلمهم بالفرائض) زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيد بن الجراح)) وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا:((خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى حذيفة)) واشتهر بحفظ القرآن كله من الأنصار: أبي، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وانتقى من هذا النفر من علماء الصحابة كتبةً له، يدونون القرآن عقب نزول الوحي به مباشرة، وغير ذلك مما تتطلبه شئون الإدارية في الدولة الإسلامية الوليدة، وكان أولئك الصحابة من الكتبة، وهم في الجاهلية، وصدر الإسلام، ممن اشتهروا بالمقدرة على الكتابة باللغة العربية، وإجادة صنائع كثيرة، ويبلغ عدد كتبة النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأربعين رجلًا.
وبدأ بعد عام الوفود، أي منذ السنة التاسعة للهجرة ظهور طبقة العمال الإداريين؛ نظرًا لنمو الدولة الإسلامية الوليدة، واتساع سلطانها على جميع أرجاء شبه الجزيرة العربية، واقتضى الأمر تقسيم تلك البلاد إلى وحدات كبرى، تسهل تنظيم شئون أهلها، وربطها مباشرة مع العاصمة الجديدة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة،
وكانت العاصمة، وما حولها من مناطق تخضع للإدارة المباشرة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى حين صار لمكة وال يتلقى منه عليه الصلاة والسلام التوجيه، وكل ما تقتضيه شئون الإدارة الجديدة.
وانقسمت بلاد العرب إلى جانب هاتين المدينتين المقدستين على مقاطعات هي: تيماء، والجند، وبني كندة، ونجران، وحضرموت، وعمان، والبحرين، وجرت عادة الرسول الكريم منذ عام الوفود على أن يختار من بين الوافدين عليه أصلحهم لتولي شئون الإمارة في المقاطعة التي ينتمي إليها ذلك الوفد، وذلك بما يتوافر لهذا الأمير من مؤهلات، دون نظر للسن، ومن ذلك أنه حين وفد عليه وفد ثقيف أمَّر عليهم الرسول عثمانَ بن أبي العاص، وكان أحدثهم سنًّا؛ وذلك لأنه كان أعلمهم، ثم زوده الرسول الكريم بتعليماته عند عودته إلى مقر إمارته قائلًا له: يا عثمان تجاوز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم؛ فإن فيهم الكبير، والصغير، والضعيف، وذا الحاجة، وقام إلى جانب كل أمير عامل آخر عيَّنه النبي من قِبله لجمع الزكاة، والصدقات، فضلًا عن تعليم الناس القرآن، وما يتصل بشئون الدين من معاملات، ودرب النبي بنفسه هذا النفر من العمال، حتى صاروا مثالًا عاليًا للشرف، والنزاهة، والإخلاص في العمل.
ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول الكريم حين بعث معاذًا إلى اليمن، إذ قال له:((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله تعالى، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))
وكان الرسول الكريم يكتب إلى بعض عماله بما يقتضيه الأمر، على نحو ما كتبه لعمرو بن حريث، عامله على نجران، يشرح له الفرائض، والسنن، وما يفعله في الصدقات، والديات.
واشتهر عمال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالنزاهة، والإخلاص في العمل، ومن أمثلة ذلك عبد الله بن رواحة الذي عهد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تقدير ثمار أهل خيبر من اليهود؛ إذ حاول اليهود تقديم رشوة له من حليٍّ قائلين له: هذا لك، وخفف عنا، وتجاوز في القسم، فقال لهم عبد الله: يا معشر اليهود: إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، أما ما عرضتم علي من الرشوة، فإنها السحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
ودأب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع ذلك على محاسبة العمال، وبخاصة فيما يتعلق بالشئون المالية، وقد استعمل رجلًا على الصدقات، وحين حاسبه عليه الصلاة والسلام قال الرجل: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:((ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولَّانا الله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، أفلا قعد في بيت أبيه، وأمه، فنظر أيهدى إليه أم لا؟)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((من استعملناه على عمل ورزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) أي خيانة.
واستمع الرسول أيضًا إلى كل شكوى تأتيه عن أي عامل من عماله، من ذلك أنه عزل العلاء بن الحضرمي، عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد القيس شكاه -أي شكاه للنبي صلى الله عليه وسلم فعزله النبي صلى الله عليه وسلم وولى بدلًا منه أبان بن سعيد، وقال له: استوص بعبد القيس خيرًا.