الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ثم فإن الشورى تعد ضمانة من الضمانات الأساسية التي قررتها الشريعة للحيلولة دون مخالفة قواعدها الشرعية، أو الاستبداد بالسلطة والانحراف بها عن المصالح الأساسية التي ابتغتها، وهدفت إليها.
أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم
والسوابق التي توضح إعمال هذا المبدأ في عهد النبوة من ناحية، وفي عهد الخلفاء الراشدين الأول من ناحية أخرى، أوضحت بما لا يثير أدنى شك أن العمل بنتيجة الشورى حتمي لا يجوز مخالفته، وفي الحالات النادرة التي يعمل فيها برأي الأقلية كان يوجد سبب خطير وقوي، يبرر ذلك، كما حدث في عهد الخليفة الأول أبي بكر في محاربته لأهل الردة، فقد شاور الصحابة فيما يجب أن يتخذ، وكان رأي الأغلبية هو عدم محاربتهم، وكان رأيه رضي الله عنه على خلاف ذلك؛ لأنهم فقدوا صفة أساسية من الصفات التي لا يتوفر شرط الإسلام إلا بها، وهو إنكارهم للزكاة وعدم أدائهم لها، ولقد أدت الحوادث اللاحقة إلى تأييد وجهة نظره، وأكدت صحة قراره، وقد اعترف عمر بن الخطاب الذي كان من بين المعارضين لأبي بكر في محاربة هؤلاء أهل الردة، بخطأ الرأي المعارض.
فالخليفة وسائر أعضاء السلطة العامة يلتزمون كمبدأ عام باتباع نتيجة المشاورة التي يقدمها المسلمون طالما لا يوجد سبب خطير، وقوي يؤدي إلى العدول عن نتيجة هذه المشاورة، والخليفة هو الذي يقرر وجود سبب يؤدي إلى هذا العدول، كما أنه وحده الذي يتحمل نتيجة هذا القرار المخالف لرأي الأغلبية، كما أنه ليس ملزما من ناحية أخرى باتباع رأي الأقلية، إلا إذا توفرت لديه مبررات قوية بأن رأي الأقلية هو الرأي الذي يتفق مع المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي.
وإذا ما عمل الخليفة برأي الأقلية، فهو أيضا الذي يتحمل وحده مسئولية مخالفة رِأي الأغلبية، إذا تبين بعد ذلك أنه كان مخطئا في إتباع هذا الرأي، وإذا ما أقدم الخليفة على رأي الأغلبية، فإنه لا يكون مسئولا إذا تبين بعد ذلك أن هذا الرأي لم يكن صوابا؛ لأن الخطأ هنا لا يتحمله الخليفة، وإنما تتحمله الأمة كلها، فإذا أخطأ فهم -أي: أهل الشورى- المخطئون، وإذا أصاب فهم المصيبون، ولا يجوز من باب المنطق أن يتحمل الخليفة أو أي شخص ممن يمارسون السلطة العامة خطأ أغلبية أهل الشورى، وهم بطبيعة الشروط التي يجب أن تتوفر فيهم علماء الأمة وأخيارها.
ويرى القرطبي رأيًّا ينسبه لأحد العقلاء يقول فيه: قال: بعض العقلاء ما أخطأت قط إذا جذبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذين يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون، ويروي القرطبي في موقع آخر، وقال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم؛ ولذلك قيل: بأن الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب من الانفراد، والاستبداد إلى جانب أن التزام الخليفة بنتيجة الشورى، فإن ذلك إلى جانب أنه يرفع مسئولية الخليفة إلا أنه في ذات الوقت يؤدي إلى تربية الأمة التربية السياسية الصحيحة، ويجعلها تتدارك هذا الخطأ في المستقبل، وهو أفضل بكثير من العمل برأي الحاكم، وإن كان صوابا؛ لأن جعل الرأي للحاكم وحده مسوغ للاستبداد، والتسلط لا يعترف به الفقه الإسلامي، فوق أن خطأ الأمة في هذه الحالة من الأمور النادرة التي قلما أن يتحقق؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتبعوا السواد الأعظم)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالجماعة والعامة)).
ومن ثم فإن الالتزام برأي علماء الأمة وفقهائها يؤدي دوما، وأبدًا إلى الرأي الصحيح في معظم الأمور.
ونتحدث الآن عن الشورى، ومبدأ سيادة الأمة، فنقول: يرى بعض العلماء من المحدثين أن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بمبدأ سيادة الأمة، وهم يستندون في رأيهم هذا إلى بعض الأسانيد كما يستندون إلى آيات من القرآن الكريم، يعتقدون أنه يمكن أن يستنبط من معناها ما يؤيد رأيهم، وسوف نورد فيما يلي الأسانيد المختلفة التي يعتمدون عليها، ثم نعقب ذلك بالرد عليها، ومناقشتها:
أولا: يقول أولئك العلماء أن الأمة في الإسلام تعد صاحبة الحق في تولية رئيس الدولة، ولها كذلك الحق في عزله عن منصبه إذا رأت المصلحة العامة في ذلك، وهذا يعني: أن رئيس الدولة إنما يستمد سلطته من الأمة، والأمة على هذا تعتبر مصدر السلطات، وصاحبة السيادة والعلاقة بين الأمة، وبين رئيس الدولة الذي تختاره هي علاقة تعاقدية أي: تقوم على أساس فكرة العقد الاجتماعي، وتبدو العلاقة التعاقدية هنا في نيابة أهل الحل، والعقد عن الأمة في مبايعة رئيس الدولة، فأهل الحل والعقد في الواقع إنما يمثلون الأمة صاحبة السيادة.
ثانيا: ويستدل هؤلاء العلماء ببعض آيات من القرآن الكريم، وببعض الأحاديث النبوية الشريفة يرون أنه يمكن أن يستنبط منها الدليل على أن الإسلام يأخذ بمبدأ سيادة الأمة، فمن تلك الآيات قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: من الآية: 135) فكأن الله تبارك وتعالى يخاطب الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَا شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية: 2) فهم يستنبطون من هذه الآيات أن الله تبارك وتعالى يخاطب جميع المسلمين، وهم يستنبطون من ذلك أن الأمة إنما هي أساس السلطات كما هم يقولون.
وبجانب هاتين الآيتين ففي القرآن الكريم آيات أخرى عديدة، نجدها كذلك يتجه الخطاب فيها مثلهما إلى الأمة الإسلامية، مما يمكن أن نستدل منه على أن تلك الأمة هي التي تحمل مسئولية إقامة شريعة الله تعالى، ورعاية المصالح العامة، وهي تعد بهذا مصدر السيادة وأساس السلطات من وجهة نظر الإسلام.
ويربط الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي بين مبدأ الشورى في الإسلام، وبين مبدأ سيادة الأمة ربطا تاما، فنراه يقول: ومبدأ سيادة الأمة الذي نص عليه الإسلام في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وفي قوله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} هو المبدأ الذي وصلت الإنسانية إلى إقراره بعد كفاح طويل؛ ولذلك يجب أن يستمر هذا المبدأ في ظل الدولة الإسلامية، ويقول الأستاذ المودودي أيضا: ووجود البرلمان كسلطة للرقابة إلى جانب أن الحاكم نفسه يتم انتخابه عن طريق الشعب في الدولة المسلمة، يكفلان سيادة الأمة.
وأما الأحاديث النبوية الشريفة، فيذكرون منها أي: هؤلاء الذين يربطون بين الشورى وبين مبدأ سيادة الأمة، نقول يذكرون من الأحاديث في هذا الصدد قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) فإن هذا الحديث الشريف يفيد فيما يرون أن الأمة الإسلامية متى اجتمعت على رأي معين، كان هو الصواب ويجب أن يؤخذ به؛ لأنه صدر من صاحب الحق في السيادة أي: من الأمة،
الرد على هذا الرأي الذي يربط الشورى بمبدأ سيادة الأمة، فنقول: إن تلك المحاولة للرد بين مبدأ الشورى كما جاء به الإسلام، وبين مبدأ أو نظرية سيادة الأمة بمفهومها المعروف في الفقه الدستوري الحديث، ليست إلا محاولة لخلق مشكلة فقهية بالغة التعقيد، وإنه ليبدو لنا أن الذي دعا أولئك العلماء إلى محاولة الربط بين المبدأين المذكورين، وهو الشورى وسيادة الأمة، هو محاولة التقليد، ونزعة التأثر بآراء العلماء والفقهاء الغربيين، وكذلك خشية أولئك العلماء أن يعاب على التفكير الفقهي الإسلامي أنه لا يوجد به مكان لكل نظرية سياسية أو دستورية قديمة أو حديثة، فكأنهم بذلك يجارون المصطلحات التي تأتي لنا من فقهاء القانون الغربيون.
بيد أن تلك المحاولة للربط بين المبدأين، وإيجاد علاقة بينهما هي في الحقيقة محاولة لا تستند إلى أساس علمي سليم، ويمكن الرد على تلك الأسانيد التي سبقت لتبريرها بما يأتي:
أولا: أن مبدأ سيادة الأمة هو ثمرة نظرية حديثة المنشأ، فرنسية المنبت فقد كان فيلبو الفرنسي هو أول مفكر تكلم عن فكرة سيادة الأمة، وذلك في عام 1414 ميلادية، حين قرر أمام الهيئة النيابية التي كانت تمثل الطبقات في فترة ما قبل الثورة الفرنسية، وذلك عند بحث موضوع الوصاية على الملك القاصر شارل الثامن، يقرر أن الشعب الفرنسي هو وحده صاحب السيادة، وهو الذي يهب الملك هذا الحق، فطالما أن الملك قاصر، فإنه يكون للشعب الفرنسي أو الجمعية النيابية التي تمثله الحق في الوصاية عليه هذا مع ملاحظة أن الأمراء الفرنسيين كانوا يرون في ذلك الحين أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في تنظيم الوصاية على
الملك القاصر، دون الشعب الفرنسي، ولما جاءت الثورة الفرنسية، قررت أن السيادة للأمة وحدها، فليس من صواب الرأي إذا أن نحاول إرجاع جذور تلك النظرية إلى أحكام الإسلام، وإلى التفكير الإسلامي القديم، فنحن لا نجد في كتابات الفقهاء، والمفكرين المسلمين القدامى أية إشارة إلى نظرية سيادة الأمة، أو الاعتماد على مفهومها أو نتائجها كما أننا لا نجد عندهم هذه المحاولة للربط بين مبدأ الشورى، وبين مبدأ سيادة الأمة، كما فعل ذلك أولئك العلماء المحدثون في عصرنا الحاضر.
والواقع أننا نجد أن المفهوم الحديث لمبدأ سيادة الأمة لم يتضح إلا في إعلان حقوق الإنسان الفرنسي، وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية الوطنية في 26 أغسطس 1789 ونصت المادة الثالثة منه على أن الأمة هي صاحبة السيادة، ومستقرها، وقد تكرر النص على مبدأ سيادة الأمة في دستور 1791 ثم نص عليه بعد ذلك في دستور السنة الثالثة عام 1795 وهكذا جعلت الثورة الفرنسية من نظرية سيادة الأمة قاعدة دستورية عامة أخذت في الذيوع والانتشار في معظم الدول.
ثانيا: أن مفهوم الأمة في الإسلام يختلف كثيرًا عن مفهوم الأمة في الفقه الدستوري الحديث، فبينما يعرفها هذا الفقه بأنها جماعة من الناس مستقرة على بقعة معينة من الأرض، وتجمع بين أفرادها الرغبة المشتركة في العيش معا، إذ بنا نجد أن الأمة في الإسلام لها مدلول آخر يختلف عن ذلك المفهوم، فأحيانا قد يقصد بلفظ الأمة بعض أفرادها فحسب، وليس كل الأفراد، وذلك يتضح من قول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فهنا نجد أن قول الله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} يستفاد منه أن المقصود بالأمة ليس كل أفراد المسلمين، وإنما يتجه الخطاب إلى قسم منهم، فحسب بدليل وجود لفظ {مِنْكُمْ} .
والراجح لدى علماء التفسير أن تلك الجماعة من الأمة التي يريدها الله أن تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، هي جماعة المؤمنين، وظاهر أن الأمة بهذا المعنى أي: باعتبارها جزءا فحسب من جماعة الناس هو أمر لا يتفق مع مفهوم الأمة الذي تعرفه نظرية سيادة الأمة في القانون الوضعي بمعناها الفقهي الحديث، وحتى بالنسبة للآية التي استند إليها نفر من العلماء كدليل على أن الإسلام يأخذ طبقا لمبدأ الشورى بمبدأ سيادة الأمة، وهي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: من الآية: 135) فإننا نجد أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى الذين آمنوا، وهم قليل من المسلمين وليس كل أفراد الأمة بمعناها المعروف.
ومن الردود أيضا على هذه النظرية التي تربط بين الشورى، وبين مبدأ سيادة الأمة، نقول: وحتى بالنسبة للنتائج التي تترتب على مبدأ سيادة الأمة، فإننا نجد اختلافا كبيرا بين الفكر الإسلامي، والفكر الدستوري حول هذا الموضوع، فإحدى نتائج هذا المبدأ أن يكون لإرادة الأمة السلطة العامة أو السيادة التي لا توجد سلطة عليا أخرى أعلى منها، ومظهر تلك السلطة هو القانون الذي يعبر عن سيادة الأمة، ولكن كيف نطبق ذلك بالنسبة للإسلام، وهل يمكن أن يكون التشريع في الإسلام هو التعبير عن إرادة الأمة التي نجد غالبية أفرادها مسلمين اسما فحسب، أم أن التشريع على عكس ذلك؟ إنما يعبر أولا بالنسبة للإسلام عن أحكام الشريعة الإسلامية، وأن هذه الأحكام هي التي يجب أن يكون لها السيادة أو السلطة العليا؛
ولذلك نجد أنه يبدو غريبا حقا أن بعض علمائنا ومفكرينا يحاولون أن يدخلوا أو أن يدخلوا تحت راية الإسلام نظرية غريبة عليه في الوقت الذي نجد فيه بعض كبار الفقهاء الدستوريين هنا، وفي الغرب يهاجمون تلك النظرية أي: نظرية سيادة الأمة، ويرون أن تلك الظروف التاريخية التي أدت إلى استنباطها قد أصبحت في ذمة التاريخ أي: أنه لم تعد بنا حاجة إليها في عصرنا الحاضر ذلك فضلا عن أنها تعد خلافا لما يعتقده الكثيرون خطرًا على الحريات.
والخلاصة إذا أنه لا يصح الربط بين مبدأ الشورى في الإسلام، وبين مبدأ أو نظرية سيادة الأمة، فإن الإسلام ليس بحاجة إلى إثارة تلك المسألة أو المشكلة التي لا تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من المشكلات في التفكير الإسلامي، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة ما أغنى ذلك التفكير عنها.
ونتحدث الآن أيضا عن مبدأ الشورى ونظام الانتخاب، هناك رأي يقول بأن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بنظام الانتخاب العام، أي: أن هذا الرأي يرى أن مبدأ الشورى يترتب عليه وجوب الأخذ بنظام الانتخاب العام، ويذهب بعض العلماء إلى القول بأن مبدأ الشورى في الإسلام ينطوي على الأخذ بنظام الانتخاب العام، وهم في هذا يستندون إلى بعض الحجج والأسانيد، وإلى آيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السنة الشريفة، وسوف نرد على هذا الرأي بعد أن نعرضه أولا بأدلته وأسانيده.
فالأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي يفرق بين حق الانتخاب، وبين الحق في الترشيح.
أما الأهلية لممارسة حق الانتخاب، فيرى أنه يحوزها كل واحد من أهالي البلاد البالغ عددهم إلى الملايين، ومئات الملايين، وهو لا يشترط لهذه الأهلية ما يحول دون تطبيق مبدأ الانتخاب العام، ويذكر أن بعض مواد الدستور العملية تكفي لبيان مقاييس وشروط تلك الأهلية.
ويرى بعض العلماء أن أمر الله تعالى بالشورى في القرآن الكريم في آيتي {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} (الشورى: من الآية: 38) وكذلك ما أمر الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في هذه الآية:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110) ثم في قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) يرون أن هذه الآيات كلها يمكن أن يؤخذ منها الدليل على أن الإسلام حين قرر مبدأ الشورى، فقد رتب على هذا المبدأ الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإن خطاب الله تعالى في هذه الآيات الأخرى التي تماثلها إنما هو موجه إلى الأمة كلها، فالشورى بين كل أفرادها؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختص به الأمة بكل أفرادها، ولكن نرد على هذا الرأي، ونقول وفي رأينا أن ذلك رأي قد جانبه التوفيق، وذلك لأسباب:
أولا: لقد سبق أن ذكرنا أن أمر الله تعالى بالشورى لا يؤدي بالضرورة إلى أن تكون المشاورة لكل أفراد الأمة، أو لكافة المسلمين، وقد رأينا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده يستشيرون عناصر، وفئات معينة، فإن المرء لا يستشير عادة إلا من كان أهلًا لإبداء رأي سليم، والقرآن الكريم نجد أنه قد تكررت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي، والفضل والعلم ليست من صفات أكثر الناس
على التعميم، فليس من الصواب إذا أن تكون المشورة لأكثرية الناس، وإنما يجب أن نرجع في الشورى إلى أهل الرأي والحكمة بدليل قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: من الآية: 83) ويقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: من الآية: 9).
ثانيا: ومن الرد عليهم أيضا نقول لهم: وأما عن استدلال الأستاذ المودودي، وغيره بقول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} على أنها توجب الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإنه استدلال قد جانبه التوفيق والحكم في ذلك هو تفسير هذه الآية، وما ترمي إليه كما ذكره المفسرون؛ ولذلك نقول لأصحاب ذلك الاستدلال إن مذهب المعتزلة قد قام على خمسة مبادئ أساسية معروفة أحدها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورغم ذلك فإننا لا نجد أولئك المعتزلة يفسرون هذه الآية بما يجعل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبا على كل الناس، بدليل أننا نجد عالما كبيرا من علمائهم المفسرين، وهو الإمام الزمخشري يفسر هذه الآية تفسيرا يبعد تماما عن المعنى الذي يستند إليه من يستدل بها على إيجاب الإسلام لنظام الانتخاب العام، فهو يقول: إن النهي عن المنكر من فروض الكفايات لا فرض عين؛ لأنه لا يصلح له إلا من علم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، ثم إن النظر في هذه الآية لا يعطي دلالة على العموم، والإطلاق فمن يقومون بالمعروف والنهي عن المنكر فهي تقول:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} ومنكم تعني البعض، وليس كل الأمة، أو كل الناس، ولو أراد الله تعالى أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا على كل الناس لذكره.
وإذا كان الكل سوف يأمرون بالمعروف، وسوف ينهون عن المنكر، فمن إذا سيأمرون، ومن إذا سينتهون، ونجد مثل هذا الرأي كذلك عند ابن كثير الدمشقي، فهو يقول في تفسير نفس هذه الآية: إن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعد واجبا على كل فرد بحسبه أي: بحسب مقدرته، إلا أن من يقصدون بهذه الآية هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة أي: المجتهدين والعلماء.
ومما تقدم نرى خطأ ما يراه بعض رجال العلم من أن الإسلام يفرض الأخذ بنظام الانتخاب العام، باعتباره من مقتضيات أو نتائج مبدأ الشورى الذي فرضه الإسلام على أنه مما تجدر ملاحظته أنه، إذا لم يكن في القرآن ولا في السنة ما يفرض الأخذ بنظام الانتخاب العام، فإنه ليس ثمة ما يحول في بلد إسلامي دون الأخذ بهذا النظام إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ لأن تفصيل النظم الدستورية، والطرق التي تكون بها الشورى، هو من الأمور التي تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية فمن الحكمة، واليسر بالناس أن نجد الإسلام بعد أن قرر الشورى قد ترك لكل أمة أن تضع نظمها التفصيلية بما يلائم حالها، ويتوافق مع مصلحتها.
ففرق كبير إذا بين الرأي الذي نعارضه، وهو القائل بفرض نظام الانتخاب العام في كل زمان، ومكان وبين هذا الرأي الذي ذكرناه من أنه ليس ثمة ما يحول بين المسلمين، وبين الأخذ بنظام الانتخاب العام، إذا رأوا مصلحتهم فيه.
فإن الرأي الذي عرضناه يجعل من نظام الانتخاب العام مسألة دينية واجبة، أما ما نؤيده فهو اعتبار هذا النظام مسألة اجتماعية سياسية وبذلك تنتفي عن الشريعة الإسلامية صفة الجمود، ويستبين جوهرها الذي يتسم فيما يتعلق بالمعاملات بسمات المرونة، ومسايرة التطور ومراعاة المصلحة.
وأخيرا فإننا إذا توخينا الحقيقة والصواب، فإننا سوف نجد أن النظام الأقرب إلى مبدأ الشورى في الإسلام هو نظام الانتخاب الذي يطلق عليه اسم الانتخاب المقيد، وليس نظام الانتخاب العام، وهذا الاتجاه يؤيده عدد من العلماء والباحثين في المسائل الدستورية والإسلامية، فالأستاذ الكبير بارت لملي يرى أن إسناد الأمر في الأمة للنخبة الممتازة من أبنائها لا ينافي مبدأ المساواة بين المواطنين بل إن ذلك يتفق مع التعريف المأثور عن أرسطو فهو يقول: المساواة هي: ألا نضع على قدم المساواة شيئين غير متساويين.
وقد رأينا في كلامنا عن الشورى في الإسلام أن العبرة في تحديد أهل الشورى، كانت بصفاتهم لا بعددهم، وأن الكثرة والأغلبية لا تعني الأفضلية تماما، وكما يقول الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي: إن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانا للحق وللباطل، يقول تعالى:{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: من الآية: 100) بل إننا على العكس نجد أن القرآن الكريم يحذرنا دائما من رأي الكثرة، فإنه ليس صوابا دائما بل إنه قد يؤدي إلى الضلال والبوار، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} (المائدة: 116).
بيد أنه يلاحظ أن القيد الوحيد الذي يقره الإسلام فيما يتعلق بممارسة الحقوق السياسية كالانتخاب هو قيد الكفاءة وحدها، بغض النظر تماما عن أي قيد آخر كالأصل أو المهنة أو المال.
نكتفي بهذا القدر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.