المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

الجزية هم من رعايا الدولة الإسلامية، فالمسلمون يدفعون الجزية فكان العدل يقتضي أن غير المسلمين يدفعون شيئًا آخر، وهو المتمثل في الجزية، المسلمون يؤدون الزكاة، وأما أهل الذمة فإنما يؤدون الجزية، وهذا نوع من المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية، فالمسلمون يستفيدون من المرافق العامة في الدولة الإسلامية، وغير المسلمين أيضًا يستفيدون من المرافق العامة في الدولة الإسلامية؛ لذلك كان العدل أن يتحمل كل فريق ما يناسبه من تكاليف هذه المرافق، فالمسلمون يدفعون الزكاة، فكان العدل يقتضي أن يدفع غير المسلمين -وهم أهل الذمة- الجزية.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

3 -

النظام المالي في عهد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما

‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتحدثنا عن اتجاه عمر بالنسبة لتوزيع العطاء؛ إذ كان يفاضل بين الناس في ذلك. ورأينا أيضًا الموقف الحازم الذي اتخذه عمر بن الخطاب بالنسبة للأرض التي غنمها المسلمون من سواد العراق؛ حيث أوقفها على المسلمين، ولم يقسمها على الغانمين، وفرض عليها الخراج؛ ليكون موردًا ماليًّا من الموارد المالية في الدولة الإسلامية.

ونكمل في هذه المحاضرة المعالم الرئيسية التي سار عليها عمر بن الخطاب في السياسة المالية للدولة الإسلامية فنقول:

استلزم تطبيق التشريع المالي الجديد الخاص بالأراضي المفتوحة خلق أداة تنفيذية تشرف على متطلبات هذا النظام الجديد؛ وذلك أن هذا التشريع نصّ على تعويض الجند بمنحهم أعطيات مقابل الأرض التي كانوا يتطلعون إلى قسمتها فيما بينهم، وجاء الإحصاء الخاص بمساحة تلك الأراضي المفتوحة ومن عليها من السكان مليئًا بأرقام هائلة وخيالية، وكانت السلطات الساسانية والبيزنطية -صاحبة السيادة على تلك الأراضي قبل الفتح الإسلامي- تفرض على الأرض خراجًا -وهي ضريبة عينية فادحة- وكانت تفرض على السكان جزيةً -وهي ضريبة مالية جائرة- ورأى الخليفة عمر بن الخطاب أن يبقي على كلٍّ من الخراج والجزية، ولكن بصورة تتفق مع عدالة الإسلام، ومراعاة الصالح العام للرعايا الجدد للدولة الإسلامية، فصار تقدير الخراج يراعى فيه واقع الأرض، وإنتاجها، وما يحفظ لها الازدهار والنماء، أما الجزية التي قررها الإسلام فلم تكن تحمل المعنى القديم الدال على القهر والذلة والاستغلال، وإنما كانت تؤدى في ظل الإسلام مقابل حماية الدولة لدفعها، ولحريتهم ومعابدهم، أي أنها كانت أشبه بضريبة الدفاع، وسبيلًا لخلق توازن بين دافعي الجزية من رعايا الدولة -الذين

ص: 112

صاروا يعرفون باسم أهل الذمة- وبين المسلمين من رعايا الدولة -الذين يؤدون الزكاة على أموالهم- أي أنه يتضح لنا من هذا أن عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- سار على نفس النظام الذي كان يسير عليه الذين يحكمون هذه البلاد قبل أن يدخلها الإسلام، فكانوا يسيرون على نظام الخراج وعلى نظام الجزية، ووجد سيدنا عمر بن الخطاب أن هذا أمر جيد، فأبقى الخراج وأبقى الجزية، لكنه راعى في ذلك عدالة الإسلام، فإذا كان هؤلاء الحكام -الذين يحكمون هذه البلاد قبل الفتح الإسلامي- يغالون في الجزية، ويغالون في الخراج، ويظلمون الناس، فإن ذلك لم يرضَ به عمر بن الخطاب؛ لأن عمر بن الخطاب إنما يطبق تعاليم الإسلام التي تطالبنا بتحقيق العدالة بين الناس؛ ولذلك أبقى الخراج لكنه جعله عادلًا، يختلف باختلاف الأراضي جودةً وخصوبةً، وكذلك أبقى الجزية، لكنه كان عادلًا في فرض هذه الجزية؛ إذ يختلف المبلغ المقدر على الناس باختلاف غناهم وفقرهم، وتتطلب تنظيم المال المتجمع من الخراج والجزية، وكذلك إنفاقه في الأوجه المقررة له، إدارةً جديدةً، أي أن هذه الموارد الجديدة التي سوف تأتي للدولة الإسلامية بالأموال -وهي المتمثلة في الجزية والخراج- تتطلب تنظيمًا يقوم بهذا الأمر، يقوم بجباية الخراج، وجباية الجزية، ثم يقوم بعد ذلك بإنفاقها في الوجوه المقررة لها في الفقه الإسلامي.

واستشار الخليفة عمر الصحابة في هذا الأمر أيضًا؛ إذ أنه -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- ما كان يتخذ أمرًا منفردًا، بل إذا كان هناك أمر من الأمور تهم المسلمين استشار الصحابة في هذا الأمر، استشارهم في هذا الأمر وقال لهم: هذا الخراج وتلك الجزية التي تأتينا كل سنة ماذا نفعل بها؟ هل نوزعها مرةً واحدةً أم على فترات؟ أم ماذا؟

ص: 113

فقال له علي بن أبي طالب: تقسِّم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تمسك منه شيئًا.

وقال له عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر.

فسيدنا علي بن أبي طالب قال له: كل مال يأتيك فوزعه في الحال. لكن سيدنا عثمان كان له وجهة نظر أخرى وقال له: لا بدّ من تدبير الأمر وإحكام الأمر؛ حتى نضمن أن المال وصل إلى مستحقه فعلًا.

وقال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد جئت الشام، فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا، وجندوا جندًا، فدون ديوانًا وجند جندًا.

الوليد بن هشام بن المغيرة أبدى رأيه في هذا الأمر وقال له: يا أمير المؤمنين، الأفضل في هذه الحالة أن يكون هناك ديوان. ومعنى ديوان أنه تثبت فيه أسماء الناس وأعطيات الناس، وهذا أمر كان معروفًا عند الملوك وعند الدول قبل أن يفتتح المسلمون هذه الأراضي.

ولذلك نال هذا الرأي الأخير إعجاب الخليفة عمر بن الخطاب، وقرر إنشاء الديوان الأول في الإسلام، مستفيدًا من نظم الروم والساسانيين في تلك السبيل.

غير أن القواعد التي قررها الخليفة لهذا الديوان كانت إسلاميةً خالصةً، ووفق مراتب تحفظ لكل ذي حق حقه، ولا تغمط فرضًا قدره أو جهده، وشرح الخليفة الأسس التي قررها قائلًا:"ما من أحد إلا وله في هذا المال حقه أعطيه أو منعه، وما أنا فيكم إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وتلاده في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام".

تلك كانت توجيهات عمر بن الخطاب عندما أراد وضع هذا الديوان الجديد، وعهد الخليفة عمر إلى عقيل بن أبي طالب، وابن نوفل، وجبير بن مطعم، عهد إليهم بتطبيق القواعد الجديدة التي قررها؛ إذ كان هذا النفر من كبار الصحابة من أوسع العرب علمًا بأنساب قريش، وقال لهم:"اكتبوا الناس على منازلهم" أي: على مقدار سابقتهم في الإسلام ومقدار قرابتهم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وذلك

ص: 114

ليكون التفاضل في العطاء قائمًا على هذين الأساسين، وهو الأساس الأول منزلة الناس في الإسلام، ثم قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتم بذلك وضع أول نظام مالي إسلامي اشتهر باسم العطاء، يستند إلى العدالة من حيث التقرير والتطبيق؛ إذ حاول نفر من الناس حمل الخليفة على أن يبدأ قائمة العطاء بنفسه، ولكنه رفض وقال: "أبدأ ببني هاشم، قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدأ ببني هاشم حسب الأقرب فالأقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان القوم إذا استووا في القرابة قدم أهل السابقة في الإسلام، وكان يفضل في العطاء أيضًا أهل المشاهد -وهم الذين شهدوا الغزوات والفتوحات الإسلامية.

وبلغ من دقة نظام العطاء أنه قرّر لكل مولود مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ عطاؤه مائتي درهم، ومن الطريف في هذه القاعدة أنه لم يكن يفرض للمولود في أول الأمر حتى يفطم -أي حتى ينتهي من الرضاع- فأمر عمر مناديه أن لا تعجلوا بفطام أولادكم، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، يعني يفرض له عطاء من بيت المال، وتجلت دقة نظام العطاء وسموه في الشريعة الإسلامية أن عمر بن الخطاب ساوى في العطاء بين العرب والموالي، وقرر للهرمزان الفارسي ألفي درهم، وكتب إلى أمراء الأجناد قائلًا:"ومن أعتقتكم من الحمراء -يعني: الموالي- فأسلموا فألحقوهم بمواليهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن أحبوا أن يكونوا قبيلةً وحدهم فاجعلوهم أسوتهم في العطاء".

وكتب الخليفة أيضًا إلى أحد ولاته ممن أغفل شأن الموالي في العطاء قائلا: له فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، والسلام.

فكأن سيدنا عمر بن الخطاب بلغ من دقة نظره في هذا الأمر أنه جعل الموالي يعني الذين كانوا عبيدًا ثم أعتقوا جعلهم يتساوون مع المسلمين وحتى مع الذين أعتقوهم في هذا الأمر، ونال كل فرد إلى جانب العطاء المالي رزقًا عينيًّا،

ص: 115

وقرر الخليفة عمر بن الخطاب لكل فرد بعد تجربة عملية رزقًا شهريًّا، قدره جريبين من الطعام، والجريب هو كيل من المكيلات التي يكال بها الحبوب، وذلك للرجل، والمرأة، والمملوك، والطفل أيضًا، وصار من الطرائف في هذا الأمر أن المرء إذا أراد أن يدعو على صاحبه قال له:"قطع الله عنك جريبيك" يعني: الكمية من الطعام التي كانت تعطى له من بيت المال.

وحرص الخليفة عمر على أن يحمل بنفسه عطاء بعض القبائل ويوزعه عليهم، فلا يغيب عنه امرأة بكر ولا ثيب فيعطيهن في أيديهن، وصار العطاء خير نموذج عملي لقوة النظام المالي في الإسلام، وعدالة قواعده ودقتها في نفس الوقت.

واقتضى التطور في الموارد والعطاء على عهد عمر بن الخطاب الاهتمام بالتنظيم المالي للولايات، باعتبارها المصدر الرئيسي الذي استمد منه هذا التطور مقوماته ومعالمه، وتجلى في هذا التنظيم مدى ما اتسم به النظام المالي الإسلامي من مرونة، وقدرة على النهوض بأحوال الولايات؛ حتى صارت تكون الصرح الشامخ لما سماه الفقهاء "دار الإسلام" وكان لكل ولاية إدارتها المالية بعمالها الخبيرين بمرافقها القديمة، القادرين على بعث ماء الحياة فيها، بما يتفق والنظام الإسلامي وعدالته.

وتتضح تلك الحقيقة في الولايات الكبرى الثلاث للدولة الإسلامية إذ ذاك، وهي العراق، والشام، ومصر، فالنبسة لولاية العراق انقسم العراق من حيث التنظيم المالي قسمين:

أحدهما: هو الشطر الجنوبي الذي اشتهر باسم السواد، واشتمل على الأراضي الخصبة.

ص: 116

والآخر وهو الشطر الأعلى الذي اشتهر باسم أرض الجزيرة الفراتية، واشتملت على الأراضي الممتدة بين دجلة والفرات.

وبعث الخليفة عمر بن الخطاب خبيرين لمسح أرض السواد -أي: سواد العراق- وتقدير ما يجب أن تدفعه من الخراج عن الأرض الزراعية والجزية عن أهل الذمة بها، وقام بهذا العمل خبيران من خبراء المسلمين هما عثمان بن حنيف، وحذيفة بن اليمان، اللذان استعانا بأهل البلاد لمعرفة النظم التي سبق للساسانيين فرضها على تلك النواحي، وكان الساسانيون -أي الحكام السابقون لتلك البلاد قبل أن يفتحها المسلمون- يفرضون الخراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة -أي: القمح، والشعير، والأرز، والكرم أي: العنب، والرطاب أي: البلح، والزيتون- وكذلك على كل نخل حديقة -أي: البساتين- وكان مقدار هذا الخراج يقدر على أساس المساحة.

وتولى الدهّاقون -وهم رؤساء القرى- جمع هذا الخراج، بحيث جعلوا الغرم يقع على صغار الملاك دون الكبار، وفرض الساسانيون أيضًا جزية جعلوها على أربع درجات بحيث أعفي منها أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والكتاب، ومن كان في خدمة الملك، ووقع غرمها على العامة أصحاب الدخل البسيط، وهذا ظلم لا يرضاه الإسلام، فقد كفل هذا النظام الإسلامي العدالة في جمع الخراج، وإزالة الاستثناءات التي سبق أن فرضها الساسانيون على صغار الملاك، وتحققت المساواة في ظل النظام الإسلامي المالي، وتدعمت المساواة في ظل النظام المالي الإسلامي في تقرير الجزية على الذكور البالغين فقط، من دون النساء، والأطفال، والمسنين، وذلك بمقدار 48 درهمًا و 24 درهمًا و 12 درهمًَا في السنة حسب دخل الفرض وثرائه، ودون استثناء.

ص: 117

وصار هذا المقدار لا يضر الفرض العادي على نحو ما قاله الخليفة عمر درهم في الشهر لا يعوز رجلًا، لا يؤثر في الرجل، وكان أساس التباين في دفع الجزية في ظل النظام المالي الإسلامي هو الحالة الاجتماعية، وما صاحبها من دخل، فكان على الدهاقين -أي: الذين يتختمون بالذهب- كان على الرجل ثمانية وأربعين درهمًا؛ لأنهم في فئة الأغنياء والأثرياء، وكان على أوساطهم من التجار على رأس كل رجل أربعة وعشرين درهمًا في السنة، وعلى الأكرة -وهم الفلاحون وسائر من بقي منهم- اثن عشر درهمًا، وهذا معناه أن الجزية كانت متفاوتة في مقدارها فالأثرياء جدًّ عليهم 48 درهمًا في السنة، والمتوسطون 24 درهمًا، والأقل ثراءً وتوسطً عليهم 12 درهمًا، فكان هذا يتمشى مع حالة الفرد أو حسب دخل الفرد وثرائه.

وتمّ التنظيم المالي لبلاد الجزيرة الفراتية على نفس الأسس التي تقررت في أرض السواد، من حيث مراعاة العدالة الإسلامية، وكذلك الأحوال المالية لتلك النواحي.

وفي ولايات الشام اتبع المسلمون في تقرير الجزية والخراج نفس الأسس التي اتبعوها في بلاد الجزيرة الفراتية؛ لتشابه الأحوال في كل منهما، من حيث تبادل سيادة الفرس والبيزنطيين عليهما.

وبالنسبة لمصر أو الولاية المصرية كانت جباية الجزية في مصر تختلف من مكان إلى آخر، حسب إمكانية كل فرض؛ ذلك أن صاحب "إخنا" جاء إلى عمرو بن العاص وطلب منه تقرير حدّ ثابت للجزية -يعني تقرير حدّ معين للجزية ومبلغ معين للجزية- ليصبح كل فرد ملتزمًا بها دون نظر إلى حالته المالية، ولكن عمرو بن العاص رفض ذلك بشدة، مبينًا أن هذا التحديد أمر غير عملي، وأن

ص: 118

الأوضاع قد تتغير، وأن الوالي صاحب الحق في تعديل ما على الفرد من جزية حسب مقتضيات تلك الأوضاع.

وكان لأبناء مصر قدر كبير من الحرية والمساهمة في الإدارة المالية لبلدهم، وذلك بما يحقق لهم العدالة، والتخلص من مساوئ الاستغلال الذي سبق أن عانوا منه الكثير زمن الروم.

وصار التنظيم المالي في مصر على هدي مراعاة مصالح البلاد وأهلها، وأنه لم يرسل إلى الخلافة في المدينة الخراج المطلوب إلا بعد اقتطاع ما تحتاج إليه البلاد من حفر خلجانها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها

وغير ذلك من الأمور التي تحتاجها الدولة، ثم إن الخراج لم يرسله عمرو بن العاص أيضًا إلا بعد أن يفرغ الناس من الزراعة وعصر كرومهم.

إن هذا الذي فعله عمر بن الخطاب إنما هو تقرير جديد وتنظيم جديد للسياسة المالية الإسلامية بالنسبة للبلاد التي افتتحها المسلمون، ولو نظرنا إلى الكتب التي تتحدث عن الإدارة في ظل العصر الإسلامي الأول، نجد أن هناك كتابًا يسمى الإدارة الإسلامية في عز العرب تأليف محمد كردي علي، جاء في هذا الكتاب في صفحة 43 قول عمر بن الخطاب:"ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله جعلني له خازنًا وقاسمًا" وكتب عمر الناس على قبائلهم أي: أحصاهم، ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة، أي السابقة في الإسلام، بدأ بالأقرب فالأقرب من الرسول، وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان، ثم لمن بعدهم، ولأهل القادسية واليرموك وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ورزق الصبيان والأئمة والمؤذنين والمعلمين والقضاة، وحلف على أيمان ثلاث، فقال: "والله ما

ص: 119

أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته".

ثم يقول عمر: "والله لئن بقيت لهم ليأتيني الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه" فكأن هذا دليلًا على تصميم عمر بن الخطاب -رضوان الله تبارك وتعالى عليه- أن هذه الأموال التي تأتي لبيت المال عن طريق الجزية أو عن طريق الخراج، أنه لا بد وأن يكون لكل مسلم نصيب في هذه الأموال حتى ولو كان إنسانا عاديًّا، راعي يرعى في صنعاء، في اليمنن، فكان يقسم أنه لا بدّ وأن يصل له نصيبه من هذا العطاء؛ لأنه كما قلنا قال:"والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد" يعني: كل واحد له في هذا المال.

جمع عمر المسلمين لأول عهده وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ سألهم عمر عندما تولى الخلافة، وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ أي المال الذي يأتي إلى بيت المال من الجزية والخراج

وغير ذلك، فقالوا جميعًا أما لخاصته فقوته وقوت عياله لا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده، وحوائجه، وصلاته، وحجه، وعمره، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاد على قدر بلائهم، ويتعاهدهم عن الشدائد والنوازل حتى تنكشف، ويبدأ بأهل الفيء.

وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه يعني: جاء إلى صاحب بيت المال فاستقرضه يعني: طلب منه القرض، فاستقرضه فربما عثر، فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، أي: أن عمر كان إذا احتاج إلى أموال لينفقها في مصالح المسلمين، يأتي إلى صاحب بيت المال، وهو ما

ص: 120

نطلق عليه وزير الخزانة في الوقت الحاضر، ويطلب منه قرضًا كأنه يطلب القرض لنفسه هو، ويقول له: يا صاحب بيت المال، عندما يحل وفاء الأجل ائت إلي لتأخذ نصيبك، فهذا قرض خاص لي، وكان هذا حرصًّا منه -أي من سيدنا عمر بن الخطاب- على أن يذهب المال إلى المكان المحدد له، وربما خرج عطاؤه فقضاه وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه مالًا، فقال له: يا عمر، ما يمنعك أن تقترض من بيت المال؟ فأجابه عمر: إنه إذا مات، وله مدين، ربما غفلوا عن تقاضي ما اقترض، أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه وتبرأ ذمة عمر.

هكذا كان حرص عمر بن الخطاب على الأموال التي كانت في بيت المال، إذا أراد المال للإنفاق على مصالح المسلمين يذهب إلى أحد أصحابه ليقترض منه، وعندما سئل لماذا لا تقترض من بيت المال؟ يقول: أخاف أن أموت. القائم على بيت المال أو صاحب المال ربما يتكاسل ولا يطالب بهذا المال؛ لأنه ليس ماله هو وإنما هو مال المسلمين فربما يتكاسل، لكن عندما أخذه من صاحبي فإذا مت فإنه حريص على أمواله وسوف يذهب إلى الورثة فيعطونه هذا المال.

هذه هي سياسية سيدنا عمر بن الخطاب بالنسبة للأموال، ومما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح، فهو أول من حمل الدرة، عصا بسيطة، وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم دونها له عقيل بن أبي طالب وابن نوفل وجبير بن مطعم -كما قلنا- وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب، وأيام الناس، والديوان الذي نقصده هو الدفتر أو مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وعرفوا الديوان أنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن

ص: 121

يقوم بها من الجيوش والعمال، وأطلق لفظ الديوان بعد ذلك على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات.

هكذا كان عمر وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق، والبصرة، والكوفة، على النحو الذي كان عليه قبله. وقيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء. وداوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، وداوين مصر بالقبطية يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين. والسبب في تدوين الدواوين أن عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف درهم فاستعظمها، وقال: هي كثيرة جعل عليها حراسًا في المسجد. فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها الأسماء، وما لكل واحد وجعل الأرزاق مشاهرة، يعني: كل شهر، وجعل عمر تابوتًا أي صندوقًا لجمع صكوكه ومعاهداته، وجند الأجناد أي: ألف الفيالق فكان هناك جنود في فلسطين، وفي الجزيرة والموصل وغير ذلك.

ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرًا ومعلمًا مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق، وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود، وآثرتكم به على نفسي، وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب، ويسميه أميرًا، وعاملًا على القضاء وبيت المال، ويسميه معلمًا ووزيرًا، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر، وتقسيم العمالات في الشام يختلف عن اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسًا لمساحة الأرض، وأناسًا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له:"توليا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها" قال لهما: "أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطبيقه، لئن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق لا

ص: 122