الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإدارة عند الأمويين
ظلت القواعد التي وضعها الخليفة عمر بن الخطاب تمثّل الأساس المتين للتنظيم الإداري طوال عهد الخلفاء الراشدين، وتمثل المقياس السليم الذي يلجأ إليه الناس لتقييم الولاة وسيرتهم، وبدأ هذا المقياس يسجل هزات عنيفة منذ أواخر خلافة عثمان بن عفان إذ انطلقت في ذلك الوقت مطامع أقرباءه من بني أمية، وعمدوا إلى استغلال صلة القربى بينهم وبين هذا الخليفة لتحقيق أمانيهم في السيطرة على أكبر مراكز الدولة، وأثار هذا العمل مشاعر الناس؛ لأنهم أحسّوا باختلال التنظيم الإداري الذي وضعه لهم عمر بن الخطاب، وكشف السخط الذي ساد ولايات الدولة الإسلامية أواخر عثمان بن عفان والذي اشتهر باسم الفتنة كشف هذا السخط عن الارتباط بين النظامين السياسي والإداري في الدولة الإسلامية ومدى تأثر كل منهما بالآخر، فعندما اضطرب حبل التنظيم الإداري انفرط عقد النظام السياسي ودفع الخليفة عثمان بن عفان حياته ثمنًا لهذا الاضطراب الإداري في الدولة، وعجز الخليفة الجديد وهو عليّ بن أبي طالب عن السيطرة على الموقف؛ لأنه لم يستطع إقرار التنظيم الإداري للدولة الإسلامية، فقد كانت وجهة نظر هذا الخليفة أن يعزل كافة عمال عثمان بن عفان ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان باعتبارهم سبب الفتنة التي سادت الدولة الإسلامية، واختار نفرُا آخر من العمال وبعث بهم إلى حواضر الولايات الإسلامية، غير أن العامل الذي بعث به إلى إقليم الشام عجز عن دخول هذا الإقليم حيث تصدى
له جند معاوية ونشبت الخلافات بذلك بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وهو الخلاف الذي انتهى بقيام الدولة الأموية.
واقتضى الوضع السياسي الجديد القائم على أساس نظام الخلافة الوراثية -اقتضى هذا الوضع تنظيمًا إداريًّا جديدًا اطلع بوضع أسسه معاوية بن أبي سفيان، وقد أثبت هذا الخليفة الأموي الأول أنه خبير بالتنسيق بين النظامين السياسي والإداري حين عمد إلى اتخاذ اللامركزية في الإدارة سبيلًا لإعادة الاستقرار في الدولة الإسلامية في ظلّ وضعها الجديد والعمل على توسيع رقعتها كذلك، ومن ثم صارت أعمال معاوية بن أبي سفيان تكوّن أسس النظام الإداري اللامركزي وما اتسم به من تقاليد سار على هديها من جاء بعده من خلفاء البيت الأموي.
وأول شيء عمد إليه معاوية في وضع أسس النظام الإداري اللامركزي هو حسن انتقاء وإعداد الهيئة التي ستتولى تنفيذ السياسة الإدارية الجديدة ومؤسساتها في الدولة الإسلامية، فجعل أساس هذه الهيئة الإدارية ليست الكفاءة فحسب، ولكن ضرورة العمل أيضًا على أن يكون رجالها من شيعته المخلصين أو ممن يربطهم بالبيت الأموي روابط مادية أو منافع يتطلبها التطور الجديد للدولة، وساعد معاوية على النجاح في وضع أسس النظام الإداري المركزي ثلاثة عوامل: أولها: اشتغاله بعد إسلامه مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ثانيًا: البيئة التي نشأ فيها وترعرع. ثالثًا: دراسته للتطورات الجديدة التي سادت أقاليم الدولة الإسلامية منذ نهاية عصر الخلفاء الراشدين،
وكان للبيئة التي نشأ فيها معاوية أثر كبير أيضًا في اختيار رجال إدارته اللامركزية عن ثقة ودراسة وعلم راسخ، فهو ابن أبي سفيان زعيم مكة وأعظم شخصياتها حنكة وتجربة وأوسعها اتصالًا وخبرة بالبيوتات الكبرى في مدن الحجاز وخارجها كذلك، فتلقن معاوية على يد هذا الوالد الخبير أصول الحكم وإدارته كما يفهمه أهل مكة، ووفق وجهة النظر التي آمن بها أبو سفيان من حيث تكوين الأنصار والأشياع واصطناع الرجال والعمال.
ووقع اختيار معاوية على أبناء ثقيف من أهل الطائف لتشكيل إدارته الجديدة، ونبغ من بني ثقيف على عهد معاوية المغيرة بن شعبة الذي تولى إمرة الكوفة، وزياد بن أبيه الذي تولى إمرة البصرة، إذ حمل هذان الرجلان في إخلاص عميق ومثالية رائعة لواء النظام الإداري اللامركزي في شرق الدولة، وأسهما مع معاوية في وضع أسس هذا النظام الجديد وإقراره، وأخيرًا عزز معاوية هذه الطبقة من رجال إدارته بمجموعة اختارها من ذوي التجارب الواسعة وكذلك ممن لهم مطامح يمكن استغلالهم عن طريقها؛ لتحقيق أهداف نظامه اللامركزي، ومن ثم ظهرت طبقة جديدة من الرجال استفاد منها معاوية لخلق توازن داخل الإدارة اللامركزية والهيئات المختلفة العاملة فيها، وتكونت هذه المجموعة من أبناء الطبقة الوسطى من قريش الذين لا يخشى الأمويون منهم بأسًا أو ضررًا، وصار من الممكن الاعتماد عليهم في إدارة المناطق النائية أو الولايات المليئة بأسباب الفتن والقلاقل.
ووضع معاوية بن أبي سفيان قاعدتين أخريين لضمان سير النظام اللامركزي سيرًا سليمًا وللحيلولة دون أي انحراف قد يطرأ على عماله، وتمثلت القاعدة الأولى في فصل الإدارة المالية للولاية عن التبعية للأمير وجعلها تابعة مباشرة للخلافة في دمشق، واشتهر رأس تلك الإدارة باسم صاحب الخراج الذي صار قوة يعمل أمير الولاية له كل حساب ولا سيما أن شئون المال كلها في يده، غير أن الالتزام بهذه القاعدة لم يكن مطلقًا إذ عهد الأمويون إلى نفر من ولاتهم المشهود لهم بالتفاني والإخلاص التام بإدارة الشئون المالية أو تعيين صاحب الخراج من قبلهم، وصار أولئك الولاية أصحاب سلطان عريض وخير نموذج لثقة الأمويين في سلامة نظامهم الإداري اللامركزي.
وتمثلت القاعدة الثانية التي وضعها الأمويون في تعيين عمال لإدارة الولايات مهمتهم مراسلة الخلافة مباشرة وإحاطتها علمًا بكل ما يجري في الولاية، سواء ما يختصّ بالأمير أو بالأهالي، ولكن هذه القاعدة بدورها لم تكن قيدًا على أمراء الولايات وإنما كانت سبيلًا للمشاركة في التوجيه بما يحفظ لنظامهم الإداري الاستقرار وتجنب المزالق التي تخفى على الأمراء أنفسهم، إذ ظل الأمويون حريصون على منح أمراء الولايات كل حرية مطلقة إيمانًا منهم بأن الشاهد أقدر من الخليفة المقيم في دمشق على إدراك حقيقة الأمور وعلى البت بالتالي دون إضرار بمصالح الرعية، واحترام خلفاء بني أمية هذه الحرية التي تمتع بها أمراء الولايات ولا سيما أولئك الخلفاء الذين عُرف عنهم الحرص الشديد على الصالح العام،
ومن أمثلة ذلك ما قام به الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي اشتهر لعدالته بأنه خامس الخلفاء الراشدين الحريص على إعادة سيرة عمر بن الخطاب في إدارة الدولة الإسلامية، إذ ظل هذا الخليفة متمسكًا بالقاعدة الأساسية للنظام الإداري اللامركزي للدولة الأموية والتأكيد على حرية الأمراء، وتوجيه كل منهم إلى العمل مع حرية التصرف ودون الرجوع إليه في بعض المسائل التي قد يضرّ تأخير البت فيها بمصالح أهالي ولايته.
وعرّف فقهاء المسلمين هذا اللون من الإدارة اللامركزية للولايات بأنها إمارة استكفاء، وهي التي يعقدها الخليفة لمن يختاره من رجاله الأكفاء مفوضين إليهم إمارة الإقليم على جميع أهله، ويجعله عامّ النظر في كل أموره، فصارت إمارة الاستكفاء لون من الامتياز يخصّ به الخليفة بعض الرجال ذوي القدرة العظيمة أو أصحاب الفضل الكبير على الدولة، فكان الخليفة يولي الفرد منهم ولاية كاملة على ناحية بعينها أو على بضع نواح أي: كان يستكفي بهذا النفر عمّن عداهم وبيدهم السلطات كلها على ما بأيديهم فهم مسئولون عن الأموال والقضاء وإمامة الناس.
واقتضى الحكم اللامركزي إعادة التقسيم الإداري للدولة بما يحقق للأمويين السيطرة الفعلية على أزمة الأمور، وتوجيهها في نفس الوقت إلى ما يكفل لسلطانهم الهيبة والاحترام في كل مكان، وجاء هذا التقسيم استجابة لمظاهر التطور الذي ساد بلاد الدولة الإسلامية منذ الفتنة على عهد الخليفة عثمان وما صاحب هذا التطور من تباين المشارب والأهواء،
ثم إن الفتوحات التي قام بها الأمويون في المشرق والمغرب أضافت إلى الدولة الإسلامية أرجاءً شاسعة كان لا بد من تنظيمها بما يحقق لها الانسجام الإداري مع الدولة الشاسعة، وقسم الأمويون دولتهم إلى عدة ولايات هي: ولاية الشام، ثم ولاية بلاد العرب، ثم ولاية العراق، ثم ولاية الجزيرة، ثم ولاية مصر.
وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي، والذي نوهنا فيه إلى الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والإدارة في عهد أبي بكر، والإدارة في عهد عمر بن الخطاب، والإدارة في عهد الأمويين.