الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرقابة ومتابعة الإنجاز
ومن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي أيضًا: توجيهاته في مجال الرقابة ومتابعة الإنجاز.
فقد حرص الإسلام على وضع توجيهات تكفل الرقابة الذاتية والمتابعة الواعية للسلوك البشري؛ والتي تنبثق عن حاجات الجماعة إلى الحفاظ على سلامة كيانها؛ لضمان استمرارها في نموٍ وتقدم، محققة لأهدافها في إشباع الحاجات الجماعية والفردية على السواء؛ وذلك على نحو ما سنبينه في عرضنا الموجز لبعض هذه التوجيهات -أي: توجيهات الفكر الإداري الإسلامي- فيما يتصل بالرقابة ومتابعة الإنجاز:
أولًا: الرقابة الذاتية:
سبقت الإشارة إلى أن النهج السوي للإسلام اقتضى أن يكون دِينًا ودنيًا؛ وهو ما استتبع أن يكون للعبادة فيه مفهوم شامل متكامل، إذ تعني: اتباع أوامر الله، وتجنب نواهيه في سائر شئون الدنيا والدين، كما نص على ذلك القرآن الحكيم، وبينته سنة نبينا صلى الله عليه وسلم باعتبارهما مصادرا مشرعة، تضع لنا ضوابط السلوك، والفكر الإسلامي القويم، وإذ تستهدف هذه الضوابط خير البشرية في شئون الدنيا والدين؛ لذا حرص الإسلام على التزام المسلمين بهذه الضوابط، عن طريق نوع من الرقابة الذاتية قوامها: التناصح فيما بينهم، بالائتمار بالمعروف، والتناهي عن المنكر، وبذلك يحققون مجتمعًا فاضلًا، ويكونون بالتالي خيرَ أمة أخرجت للناس.
وتؤكد آيات القرآن المجيد هذه المعاني السامية فيقول سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} (التوبة: من الآية: 71) كما يقول سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية: 110).
ويبين لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهمية النصيحة كأساس تقوم عليه هذه الرقابة الذاتية؛ فيقول: ((الدين النصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) ويحذر المولى سبحانه وتعالى من سوء عاقبة ترك المنكر يستشري دون نهي عنه؛ فيقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: الآيتان: 78، 79) كما يوضح -صلوات الله وسلامه عليه- أساليب النهي عن المنكر، وتغييره، ويجعلها حسب الاستطاعة، فيقول صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) إن هذه الرقابة الذاتية هي أداة التغيير السلوكي الذي يؤمن به الإسلام؛ لتطوير المجتمع، إذ يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: من الآية: 11).
وقد كانت هذه الرقابة قوام نظام الحسبة الذي عرفته الإدارة العامة في الدولة الإسلامية، ويحقق الأخذ بهذه الرقابة على مستوى المنظمة والمشروع: الإصلاح الإداري المنشود تلقائيًّا، كما يحقق الأخذ بها على مستوى الدولة ما تستهدفه من تطوير اجتماعي.
ومما يتصل بالرقابة ومتابعة الإنجاز: متابعة الإنجاز أيضًا، إذ يقر الإسلام مبدأ: مسئولية الشخص عن أعماله في الحياة الدنيا، وهي مسئولية تجد أساسها العقائدي في الإيمان بيوم الحساب؛ يوم يحاسب الله البشر على أعمالهم، ويجازيهم عنها: إما بثواب الجنة، أو بعقاب النار، فهو سبحانه المحيط، والبصير، والخبير بأعمالهم، والرقيب عليهم، وهو ما يؤكده العديد من آي الذكر الحكيم، نذكر منها قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (النساء: من الآية: 108) ويقول تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (آل عمران: من الآية: 156) ويقول تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (البقرة: من الآية: 234) ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا} (النساء: من الآية: 1).
وفي ضوء هذه المتابعة الإلهية لسائر أعمال البشر، يوجهنا الله سبحانه إلى إجراء متابعة إنجاز من هذا القبيل بمعرفتنا دُنيويًّا؛ وهو ما يشير إليه صراحة قوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: من الآية: 105) كما يشير إليه ضمنًا قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: من الآيتان: 39، 40).
ونخلص في ضوء ما تقدم من توجيهات إلى أنه ما دام عمل الإنسان وسعيه في هذه الحياة هو مصدر قيمته ومناط مسئوليته؛ فإنه يتعين رؤية هذا العمل بواسطة الآخرين، باتباع وسائل متابعته المختلفة، سواء عن طريق الإشراف وما يتطلبه من مهارات قيادية، أو تقييم الإنجاز بموجب تقارير نشاط دورية، وممارسة التفتيش والرقابة على اختلاف أنواعها وأجهزتها، فلا بد من أساليب متابعة نشطة؛ تحصي على العامل نشاطه، وتتابع سعيه لتقييمه أولًا بأول، في ضوء معدلات دقيقة ومعروفة، ووفق ضوابط ومعايير محددة للتكاليف والأداء.
ومما يتصل أيضًا بالرقابة ومتابعة الإنجاز: وضع الضوابط والمعايير، إذ يدعوا الإسلام -كما سبقت الإشارة- إلى التزام الفكر، والسلوك السوي القويم، الذي لا يعرف إفراطًا، أو تفريطًا، ولا انحرافًا، أو تطرفًا، مما يقتضي تنظيم وتقنين النشاطات البشرية، وفق ضوابط معينة، ومعايير محددة معلومة، يلتزمها الأفراد، وتجري مساءلتهم على مقتضاها؛ ولذلك يتعين وضع ضوابط ومعايير إنجاز توزن الأعمال، ويقوم العاملون على أساسها بموجب تقارير نشاط، وهو ما تستند إليه الرقابة والمتابعة وفق أحدث أصولها العلمية، وأساليبها الفنية.
ولنا في توجيهات القرآن الحكيم خير مرشد في هذا الصدد؛ فالله خلق الكون، وأبدع صنعه، وأحكم تسييره، وفق ضوابط دقيقة قدرها، إذ يقول سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ويقول تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: من الآية: 2) ويقول تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا} (الطلاق: من الآية: 3) ويقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21) ويقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ويقول تبارك وتعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 39، 40).
فالله سبحانه يرشدنًا في الآيات السابقة إلى أنه جرى في خلقه للكون وتسييره له وفق معايير محددة؛ وضوابط معينة، قدرها، وقررها، ومن ثَمَّ كان خليق بنا في ضوء هذا التوجيه الإلهي أن نسير في فكرنا وسلوكنا على نحو رشيد، وفق أصول وضوابط، يهدي إليها العقل السليم.
كما يضع تبارك وتعالى -وهو العليم بطبائع البشر، الخبير بأعمالهم- المقاييس الحق، والموازين القسط لأعمال الناس، يحاسبهم على مقتضاها يوم القيامة إن ثوابًا أو عقابًا؛ وفي هذا يقول جلت قدرته، وسمت حكمته:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: الآية: 47){وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} (الأعراف: 8، 9).
وعلى ضوء هذا الهدي القرآني في وضع موازين العمل، يتعين علينا أن نضع معدلات للأداء، ومقاييس للأعمال في حياتنا الدنيا؛ لكي تكون مساءلتنا عنها ومحاسبتنا عليها موضوعية ودقيقة، وإحكامًا للرقابة والمسئولية ينبغي أن تحصى الأعمال وتسجل الإنجازات بدقة أولًا بأول؛ فتدون في تقارير وصحائف منشورة؛ ولذا يقول الحق تبارك وتعالى:{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء:13، 14) كما يقول سبحانه وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49).
هذه هي المقومات الإسلامية الأساسية التي ينبغي مراعاتها في وضع وتطبيق أفضل نظم الرقابة والمتابعة؛ والذي يسعى الفكر الإداري المعاصر إلى بلوغها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب ولاته وعماله، فقد اشتكى وفد عبد القيس لعلَّاء بن الحضرمي والي النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وبعد أن استمع إليهم، وتحقق من صحة