الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن هذه الغزوات إنما كانت دفاعًا أمام اعتداءٍ واقع، أو في سبيله لأن يقع بأماراتٍ دالة على الحرب؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يشتبك في قتالٍ مع النصارى، أو اليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء، وأولئك إلى منزلة في السلوك عَريت عن الشرف، والأمانة، والعدالة، واتسمت بالعداوة؛ فلم يكن بين المسلمين -من جانب- واليهود، والنصارى -من جانب آخر- غير حالة الحرب.
والسبب في ذلك أنهم صادروا حقوق المسلمين، وحرياتهم، وصدوهم عن الدعوة إلى الله بمختلف الوسائل، وكانوا يبطشون بمن شرح الله صدورهم للإسلام، ويوقعون بهم ألوان العذاب الذي كان يصل في بعض الأحيان إلى الموت.
بهذا نرى أن حالة الحرب تعتبر قائمة بين المسلمين، وبين هؤلاء، وبناءً على ذلك؛ فالمعارك التي نشبت بين الفريقين إنما خاضها المسلمون دفاعًا عن النفس، والعقيدة.
ونستخلص مما سبق: أن الحرب في الإسلام إنما هي استثناء من أصلٍ عام، وهو: السلم في الإسلام.
أحكام الدارين
نتحدث الآن عن دار الإسلام، ودار الحرب، وأثر ذلك التقسيم.
فبالنسبة لتقسيم الدار نقول: أراد أعداء الإسلام في الجزيرة العربية، والبلاد المجاورة استئصال شأفة الإسلام والمسلمين، والقضاء على دعوة الإسلام في مهدها قبل أن تنتشر، ويكتب لها النجاح، والفوز، والغلبة، وأدى ذلك إلى أن أصبحت مكة بزعامة قريش، وغيرها من بلاد الأعداء دار حربٍ، وصارت المدينة وما جاورها دارَ الإسلام، وتصالح جماعة من المسلمين وسالموهم؛ فكانت بلادهم دارَ عهدٍ.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: الكفار إما أهل حربٍ، وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمانٍ، وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا فقالوا: باب الهدنة، وباب الأمان، وباب عقد الذمة.
ولفظ الذمة، والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ: الصلح؛ فإن الذمة من جنس لفظ العهد، والعقد، ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء أن أهل الذمة عبارة عن من يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة؛ فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال، أو غير مال؛ لا تجري عليهم أحكام الإسلام -كما تجري على أهل الذمة- لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الود.
ونستخلص من كلام ابن القيم على وجه العموم أنه يمكن تقسيم الدار إلى ثلاث:
1 -
دار الإسلام.
2 -
دار الحرب.
3 -
دار العهد.
وسنلقي الضوء على كل واحدةٍ فيما يلي:
دار الإسلام:
عرف البعض دار الإسلام بأنها هي الدولة التي تحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة، والقوة فيها للمسلمين، وهذه الدار يجب على المسلمين القيام بالذود عنها، والجهاد دونها فرض كفاية، إذا لم يدخل العدو الديار، أو يستنفر الإمام الناس للحرب، فإن دخل العدو الديار، أو استنفر الإمام الناس؛ كان الجهاد فرض عين، وشعب دار الإسلام هم المسلمون،
وأهل الذمة، وهم الذين رضوا بالإقامة في دار الإسلام، والتزموا أحكام الإسلام مع البقاء على ديانتهم مقابل دفع الجزية، وكل دار الإسلام هي بمثابة دار واحدة؛ رغم تعدد الدول، واختلاف الحكام؛ لأن حكم الإسلام فيها هي الحكم الساري.
دار الحرب:
اختلف الفقهاء في تعريف دار الحرب إلى مذهبين:
الأول -ويرى-: أن دار الحرب هي الدار التي لا يكون فيها السلطان، والمنعة للحاكم المسلم، ولا يكون عهد بينهم، وبين المسلمين، يرتبط به المسلمون، ويقيدهم، وهذا ما عبر عنه ابن القيم في تعريفه لدار الإسلام بقوله: هي الدار التي نزلها المسلمون، وجرت عليهم فيها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليها أحكام الإسلام؛ لا تعد دار إسلام.
فالعبرة عند أصحاب هذا الرأي: المنعة والسلطان؛ فما دامت الدار خارجة عن منعة المسلمين من غير حرب؛ فهي دار حرب، يتوقع الاعتداء منها غالبًا، ويقال لسكان دار الحرب: الحربيون، والحربي: هو من كان بيننا، وبين بلده حرب، وعداء، ولم تكن بيننا، وبين قومه معاهدات سلمية، أو ودية.
الرأي الثاني -ويرى أصحابه: أن كون السلطان، والمنعة لغير المسلمين ليس كافيًا لأن يطلق على الدار دار حرب، بل لا بد من توافر شروط ثلاثة لتصير الدار دار حرب وهي:
أن لا تكون المنعة والسلطان للحاكم المسلم، بحيث لا يستطيع تنفيذ الأحكام الشرعية -بمعنى: أن تظهر أحكام الكفر، وتنفذ فيه.
أن يكون الإقليم متاخمًا للديار الإسلامية، بحيث يتوقع منه الاعتداء على دار الإسلام.
أن لا يبقى فيها مسلم، أو ذمي مقيمًا في هذه الديار بالأمان الإسلامي الإسلامي الأول، الذي مكن رعية المسلمين من الإقامة فيها، وهو أمان الشرع؛ بسبب الإسلام للمسلمين، وبسبب عقد الذمة بالنسبة للذميين.
ونستخلص مما سبق: أن الفقهاء في معرفة المقصود بدار الإسلام، ودار الحرب لهم رأيان:
الأول: ينظر إلى الأحكام، وإلى النظم، فإن كانت إسلامية؛ فالدار إسلامية، وإن كانت الأحكام، أو النظم غير إسلامية؛ فالدار ليست إسلامية، ولو وصفت بأنها إسلامية.
الثاني: ينظر إلى أمن المسلم، فإن كان المسلم آمنًا في الديار التي يقيم فيها بأمن الإسلام؛ فالدار دار إسلام.
النوع الثالث: دار العهد:
تكلمنا عن دار الإسلام، ودار الكفر، ونتكلم الآن عن دار العهد.
دار العهد: أي التي لم يفتحها المسلمون عنوة، وعقد أهلها الصلح بينهم، وبين المسلمين على شيء يؤدونه من أرضهم، وهو الخراج، دون أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنهم في غير دار الإسلام؛ فهذه الدار لم يستولي عليها المسلمون حربًا، ولم يصالحوهم صلحًا دائمًا -على أساس عقد الذمة؛ حتى تطبق فيها شريعتهم- ولكن أهلها دخلوا في عقد المسلمين، وعهدهم على شرائط اشترطت، وقواعد عينت.
بمعنى آخر: فأهل العهد قوم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال، أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام -كما تجري على أهل الذمة- لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، ويصلح اصطلاح دار العهد أساسًا للعلاقات الدولية الحاضرة -بين المسلمين وغيرهم- للتوصل إلى تأمين جميع المصالح الاقتصادية، وحل القضايا السياسية ونحوها؛ ما دامت الدول الإسلامية قد قبلت الالتزام بميثاق الأمم المتحدة؛ فهو بمثابة عهدٍ جماعيٍ من غير المسلمين مع المسلمين.
فارتباط الدول الحديثة بميثاق الأمم المتحدة؛ يجعل بلاد غير المسلمين الآن دار عهد.
وبعدما تكلمنا عن الديار منها دار الإسلام، ودار الكفر، ثم دار العهد؛ نتكلم الآن عن أثر تقسيم الدار إلى دار إسلام، ودار حرب.
فنقول: اختلف الفقهاء في سريان الأحكام الشرعية على رعايا الدولة الإسلامية إذا كانوا في غير دار الإسلام، ومن أهم تلك الأحكام: الأحكام الجنائية، والقصاص في دار الحرب، والربا، والعقود الفاسدة في دار الحرب، والتزام المستأمن بأحكام الإسلام، وسنلقي الضوء على كل مسألة فيما يلي:
فبالنسبة للأحكام الجنائية نقول: إذا ارتكب المسلم، أو الذمي في دار الحرب، أو العهد ما يوجب حدًّا، فهل تسري عليه الأحكام الإسلامية؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على ذلك على رأيين:
الأول: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الأحكام الجنائية الإسلامية لا تسري على الجرائم التي يرتكبها رعايا الدولة الإسلامية في دار الحرب، ووجه ذلك أن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب؛ لعدم الولاية؛ فوجوب الحد مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام عليه حال كونه في دار الحرب؛ فلا وجوب، وإلا خلت عن الفائدة؛ لأن المقصود من إقامة الحد الاستيفاء؛ ليحصل الزجر، والفرض أن لا قدرة عليه، ولو ارتكب المسلم شيئًا من ذلك، ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الإسلام؛ لأن الفعل لم يقع موجبًا للحد أصلاً.
ومعنى ما سبق: أن القضاء بالعقوبة يقتضي الولاية على محل الجريمة وقت ارتكاب الجريمة، ولا ولاية للدولة الإسلامية على محل ارتكاب الجريمة، ويترتب على ما سبق أنه لو دخل مكان الجريمة في ولاية الدولة الإسلامية بعد ارتكاب الجريمة؛ فلا تطبق أحكام الشريعة على الجريمة؛ لأن الولاية كانت منعدمة وقت وقوع الجريمة.
الرأي الثاني: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن الشريعة تطبق على كل جريمة ارتكبها مسلم، أو ذمي في دار الحرب، ووجه ذلك أن المسلم ملتزم بأحكام الإسلام حيثما كان، ومن أحكام الإسلام: وجوب الحد على من أتى سببه.
ونرى أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن المسلم قدوة في الفضيلة حيثما حل؛ فلا يصح أن يتحول إلى مفسدٍ في الأرض، ومن أجل ذلك تطبق العقوبة على أية جريمة يرتكبها، دون نظرٍ إلى مكان وقوع الجريمة، ويقام عليه الحد بعد رجوعه إلى دار الإسلام إذا خيف التحاق من أقيم عليه الحد بأهل الحرب، وبالنسبة للقصاص في دار الحرب.
نقول: إذا ارتكب المسلم، أو الذمي جريمة قتل في دار الحرب، فهل يقتص منه؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا السؤال إلى رأيين:
الأول: إلى أنه لا يؤخذ بالقصاص، وإن كان عمدًا؛ لتعذر الاستيفاء إلا بالمنعة، والمنعة منعدمة في دار الحرب، وأيضًا كونه في دار الحرب أوْرَث شبهة في وجوب القصاص، والقصاص لا يجب مع الشكر، ويضمن القاتل الدية -خطئًا كان القتل أو عمدًا- وتكون في ماله، لا على العاقلة، وإنما قالوا: عليه الدية؛ حتى لا يذهب دم مصون هدرًا، وإنما قالوا: عليه الدية؛ حتى لا يذهب دم مصون هدرًا، وحيث تعذرت العقوبة البدنية؛ فإنه يحل محلها العقوبة المالية، ولا يمنع ذلك من التعزير في كل الأحوال.
وأما الرأي الثاني: وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ فيرى أن أحكام القصاص في دار الحرب تسري على المسلم، والذمي كما في دار الإسلام تمامًا بتمام.
وبالنسبة لموضوع الربا، والعقود الفاسدة في دار الحرب؛ فنقول: هل تسرى أحكام الربا في دار الحرب كما تسرى في دار الإسلام؟ اختلف الفقهاء في الإجابة على هذا السؤال إلى رأيين:
الأول: ذهب جمهور الفقهاء، والإمام أبو يوسف من الحنيفة إلى أن أحكام الإسلام المتعلقة بالربا تسرى في دار الحرب -كما تسرى في دار الإسلام- ووجه ذلك: أن حرمة الربا ثابتة في حق العاقدين، أما في حق المسلمين؛ فظاهر، وأما في حق الحربي؛ فلأن الكفار مخاطبون بالحرمات قال تعالى:{وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه} (النساء: من الآية: 161) ولهذا حرم هذا التعامل مع الذمي، والحربي الذي دخل دارنا بأمان.
الرأي الثاني: وذهب أبو حنيفة، ومحمد إلى أنه إذا دخل مسلم، أو ذمي دار الحرب -بأمان- فعاقد حربيًا عقد الربا، أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام؛ فإن ذلك جائز، ووجه قول الإمام أبي حنيفة أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال، وإتلاف مال الحربي مباح؛ إذ لا عصمة لمال الحربي، هذا وجه جوازه مع الحربي.
أما مع المسلم -من أهل دار الحرب الذي لم يهاجر إلينا- أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال، ومال الذي أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا غير مضمون بالإتلاف، يدل عليه أن نفسه غير مضمونة بالقصاص، ولا بالدية، وحرمة المال تابعة لحرمة النفس، ولا شك في هذا أن رأي الجمهور إنما هو الراجح في هذا الأمر، وأن المسلم مطالب بأحكام الإسلام في أي مكان وجد فيه.
وأما ما يتعلق بالتزام المستأمن بأحكام الإسلام، فنقول: يرى الإمام أبو حنيفة أن من يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام؛ فلا تطبق عليه أحكام الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا لله -أي: تمس حقًا للجماعة- وإنما يعاقب بمقتضى الشريعة إذا ارتكب جريمة تمس حقًا للأفراد.
وإنما لا تقام عليه -بالنسبة لحقوق الله- لأنه لم يدخل دار الإسلام للإقامة، بل لحاجة يقضيها، وليس في الاستئمان ما يلزمه بجميع أحكام الشريعة في الجرائم، والمعاملات، بل هو ملزم فقط بما يتفق مع غرضه من دخول دار الإسلام، وبما يرجع إلى تحصيل مقصده، وهو حقوق العباد؛ فعليه أن يلتزم الإنصاف، وكف الأذى ما دمنا قد التزمنا بتأمينه بإنصافه، وكف الأذى عنه.
والقصاص، وحد القذف من حقوق العباد، ولذا فإنه يؤخذ بهما كما يؤخذ بغيرهما من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالغصب، والتبديد، أما ما عدا ذلك من الجرائم التي تمس حقوق الأفراد؛ فلا تلزمه عقوبتها، مثل: الزنا، فأبو حنيفة إذن يرى أن العقوبات على الحدود أساسها الولاية، وليس للحاكم المسلم ولاية كاملة على المستأمن؛ إقامته لمدة معلومة.
ويرى أبو يوسف من الحنيفة، وجمهور الفقهاء: أن الشريعة تسرى على كل المقيمين في دار الإسلام، سواء كانت إقامتهم دائمة كالمسلم، والذمي، أو كانت إقامتهم مؤقتة كالمستأمن، ووجه ذلك: أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات، والسياسات، ولهذا تقام عليه جميع الحدود ما عدا حد الشرب إذا ارتكب موجبه.
ونستخلص مما سبق أن المستأمن تطبق عليه القوانين الإسلامية التي تتعلق بالمعاملات المالية بالاتفاق؛ فإنه يمنع من التعامل بالربا مثلاً؛ لأنه يتعامل مع المسلمين؛ فلا يطبق عليه إلا قانون المسلمين، وبالنسبة للعقوبات؛ فقد اتضح أنه إذا ارتكب أمرًا فيه اعتداء على حق مسلم، أو ذمي، أو مستأمن آخر؛ فإنه ينزل به العقاب المقرر في الشريعة؛ لأنه يجب إقامة العدل، وإنصاف المظلوم من الظالم ما دام مقيمًا في دار الإسلام.
أما إذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله تعالى كارتكاب الزنا؛ فإن جمهور الفقهاء قرروا أنه ينزل به العقاب الذي ينزل بالمسلم؛ لأن هذه الجريمة، وأشباهها تفسد المجتمع الإسلامي، وما جاء إلى ديارنا ليسعى فيها بالفساد.
وخالف جمهور الفقهاء في ذلك أبو حنيفة؛ حيث قال: لا تقام العقوبات على المستأمن بالنسبة لهذه الجرائم.
وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد، وما يترتب على ذلك التقسيم للدار من أثار بيناها -فيما سبق.