الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
اعتبار الحرب والسلام أمرًًا من أمور سيادة الدولة، فلا يصح لفردٍ، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حربٍ، أو عقد صلحٍ من دون الدولة.
3 -
حرمة الوطن، وأرضه، وهي تمثل إذ ذاك منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة أرض الوطن من أي ضررٍ، سواء من الداخل، أو من الخارج.
4 -
وأخيرًا دعمت الصحيفة النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه بأن جعلته المرجع في كل خلافٍ يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظمٍ، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسيرٍ، أو إيضاحٍ، أو إصدار أحكام، ونذكر بعضًًا من نصوص هذه الوثيقة:
قد جاء: وأن لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأنه من فتك؛ فبنفسه، ولا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثِم، وأن الله جارٌ لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء فيها: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ، أو اشتجارٍ يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3 -
النظام المالي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كنا نتحدث -في المحاضرة السابقة- عن نشأة النظم الإسلامية في الدولة الإسلامية، وتبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له تنظيمات إسلامية في مكة، وتنظيمات إسلامية في المدينة المنورة، فأما التنظيمات الإسلامية التي وضعها في مكة؛ فإنها تتمثل في إرساء القواعد الآتية: أولا الدعوة إلى وحدانية الله تعالى، واتخاذ هذه العقيدة أساسًا لمجتمع جديد له نظمه ومثله العليا.
ثانيًا: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، والتي تقرر المسئولية الفردية، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، هذه الفكرة هي التي هزمت دعوى الجاهلية القائمة على العصبية القبلية.
ثالثًا: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيم أخلاقية سامية.
رابعًا: التأكيد على وحدة الرسالات، وأن مصدرها واحد -وهو الله سبحانه وتعالى وذلك للقضاء على تعدد المعتقدات في الحياة القبلية.
وأما التنظيمات التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فإنها تتمثل في ما يلي:
أولًا: نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ثانيًا: استخدام المصطلح الإسلامي المهاجرين والأنصار للدلالة على طلائع التنظيم الجديد للدولة الإسلامية في يثرب.
ثالثًا: إقرار نظام الدولة، والقانون بدلا من القبلية، والعرف.
رابعًا: اعتبار نظام المواطنة أساسه الهجرة لمقاومة الباطل.
خامسًا: إقرار نظام الشورى لتقوية روح الجماعة الجديدة، وحث أفرادها على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية.
سادسًا: إقرار نظام المسجد ليكون مركز إشعاع للدين والدنيا معًا؛ حيث مارس النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده مارسوا السياسة من داخل المسجد، وتبين لنا أنه قد تبلورت النظم الأساسية، والتزاماتها في الدستور الدائم الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لإقرار العلاقات، ليس بين جماعة المؤمنين بعضهم البعض، ولكن بينهم وبين جيرانهم من أهل المدينة أيضًا، وصار هذا الدستور الذي اشتهر باسم الصحيفة صار أساس الدولة الإسلامية الوليدة، وأهم ينبوع من ينابيع النظم الإسلامية التي صاحبت تطور هذه الدولة، واتساعها على مر العصور، وهذا الدستور -أو هذه الصحيفة- قد أقر النظم والمبادئ الهامة التالية:
المبدأ الأول: وهو مفهوم الأمة، وحقوق المواطنة، وهذا المبدأ يندرج تحته بنود:
البند الأول: عرف الدستور الأمة تعريفًا لا يستند إلى الأسس والنظم القبيلة، وما اقترن بها من العصبية والنسب، وإنما قرر أن الأمة تضم كل من اعتنق الدين الجديد دون نظر إلى أصله أو قبيلته، وجاء هذا المبدأ عنصرًا هامًّا جعل الأمة الجديدة أمة مرنة، قابلة للاتساع، وضم شعوب كثيرة إلى رحابها، وتجلى هذا المفهوم الجديد للأمة في مقدمة الدستور، حيث قررت أن المؤمنين، والمسلمين من قريش، ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.
البند الثاني: أكد الدستور أن هذه الأمة لا تعترف بتمايز طبقي، أو استغلال فردي على نحو ما ساد النظم القبلية، وإنما مهد السبيل لإذابة الفوارق بأن جعل القبائل تشكيلًا اجتماعيًّا لخدمة الأمة الجديدة.
وأما البند الثالث: فقد حدد الدستور فيه حقوق وواجبات الأمة الفتية بتشكيلها الجديد على الأسس التالية:
التراحم، والتعاون بين أبنائها في شتى النواحي -وبخاصة أولئك الذين أثقلتهم الديون، وضرورة مساعدتهم على التخلص من أعباء تلك الديون.
وأيضًا تحديد مسئولية الفرد، وتنظيم روابطه مع أهله وجيرانه من حيث الولاء، وذلك بما يتفق وأوضاعَ الدولة، ونظامها الجديد.
أما المبدأ الثاني الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: سيادة القانون، والإجراءات التنفيذية؛ فقد نظمت الصحيفة حياة الناس داخل الدولة الجديدة على أساس سيادة القانون، وما يرتبط بذلك من إجراءات تنفيذية، فإذا أخل أحد بالأمن، أو ارتكب عملًا فاحشًا؛ فإن الأمة بأجمعها تتولى توقيع العقوبة المطلوبة، وأن الجميع مطالبون بالتضامن في تنفيذ تلك العقوبة، ولو كان ولد أحدهم، وارتبط بسيادة القانون تحويل الثأر إلى عقوبة، بمعنى: أنه عمل يقع على عاتق الأمة، بعد أن كانت الأفخاذ، والعشائر تقوم به طبقًا للنظام القبلي الباطل.
أما المبدأ الثالث الذي اشتمل عليه هذا الدستور، أو تلك الصحيفة فهو: حرية الأديان، وتحديد علاقة أتباعها بالدولة؛ فقد أصبحت الصحيفة مبدأً هامًّا من مبادئ الدولة الجديدة، وهو إقرار حرية الأديان السماوية، وأن أتباعها يعتبرون مواطنين لهم حق التمتع بحماية الدولة، وفق الشروط التي تضمنها الدستور الجديد، ولما كانت القبائل اليهودية وبطونها أهم عنصر من عناصر السكان في الدولة الإٍسلامية الجديدة بيثرب؛ فإن الصحيفة نصت في جلاء على ما لهم من حقوق وواجبات، سواء بالنسبة لجيرانهم من المواطنين المسلمين، أو بالنسبة للدولة وسلطاتها.
وأما المبدأ الرابع: فقد تكلم عن إتاحة الصحيفة تطبيق نفس الشروط، ليس على اليهود المخالفين للأوس والخزرج فحسب، بل على القبائل اليهودية الكبرى -إذا رغبت في ذلك- وأكدت الصحيفة عدالتها في معاملة اليهود بأنها لن تأخذهم جميعًا بجريرة فردية، وإنما ستعامل كل جماعة منهم حسب ما يبدر منهم.
وأما المبدأ الخامس: فقد تحدث عن سيادة الدولة، وإقرار مظاهر تلك السيادة فقد توّجت الصحيفة شروطها بإقرار النظم الخاصة بسيادة الدولة، وبيان حقوق رأس تلك الدولة، وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتمثلت قواعد سيادة الدولة فيما يلي:
البند الأول: اتحاد السكان جميعًا لدفع أي عدوان يمَس سيادة الدولة، سواء أصاب هذا العدوان فردًا، أو مجموعة تتصل أعمالها أو مهامها بشئون الدولة وأمنها.
والبند الثاني: اعتبار الحرب والسلام أمرا من أمور سيادة الدولة؛ فلا يصح لفرد، أو مجموعة أن تنفرد بإعلان حرب، أو عقد صلح من دون الدولة.
وأما البند الثالث: فهو حرمة الوطن وأرضه، وهي تمثل -إذا ذاك- منطقة يثرب، وتعني تلك الحرمة مراعاة سلامة أرض الوطن من أي ضرر، سواء من الداخل أو الخارج.
وأما البند الرابع: فإن الصحيفة دعمت النظم الخاصة بمباشرة رئيس الدولة لمهامه؛ بأن جعلته المرجع في كل خلاف يحدث، سواء بين المؤمنين، أو بينهم وبين جيرانهم؛ فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على الميادين التطبيقية لجميع ما قررته الصحيفة من نظم، وهو الفيصل في جميع ما يتعلق بتلك النظم من تفسير، أو إيضاح، أو إصدار أحكام.
ونصت الصحيفة على ذلك فيما يلي: "وإنكم مهما اختلفتهم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تلك هي الصحيفة أو الدستور الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى المدينة، وهاجر إليها، وقد نظمت الحقوق والواجبات في هذا الدستور،
وحكمت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من غير المسلمين، وفق هذا الدستور، إلا أنه يلاحظ أن النظام السياسي لهذا الدستور، أو الصحيفة قد اجتاز ثلاثة أدوار كبرى، وصل في نهايتها إلى مرتبة النظام الإسلامي الكامل ما سنوضحه في ما يلي:
نقول: شهدت الفترة التي تقع بين عقد الصحيفة مع أهل يثرب ووفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تطويرًا للنظم الجديدة، بما يتفق ونمو الدولة الإسلامية، وتنسيقًا بين مؤسساتها أيضًا، حتى صارت تشكل جميعها النظام الإسلامي الكامل، وغدا هذا الجانب التطبيقي الينبوع الذي نهل منه المسلمون خلفًا عن سلفٍ، وهم يرفعون قواعد الدولة التي خلفها لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويضعون لها في نفس الوقت النظم التي تتلاءم مع كل مرحلة من مراحل امتداد الدولة الإسلامية في شتى أرجاء العالم، ذلك أن الصحيفة أو الدستور الذي تحدثنا عنه كانت فكرة خلاقة، جسدت التعاليم التي جاءت بها الدولة الإسلامية في نظام سياسي استطاع أن يواجه النظم السياسية المعادية له، وأن يتغلب عليها الواحدة بعد الأخرى في يثرب أولًا، ثم في سائر أرجاء شبه الجزيرة العربية، وما جاورها من بلاد ثانية، واجتاز النظام السياسي للصحيفة ثلاثة أدوار كبرى -كما قلنا- وصل في نهايتها إلى مرتبة النظام الإسلامي الكامل عن جدارة مثالية، وتجربة فريدة.
واشتمل الدور الأول على السنوات الخمس الأولى للهجرة النبوية الشريفة، واستطاع فيها نظام الصحيفة أن يكفل للدعوة الإسلامية الوليدة في يثرب الحماية من كل أعدائها في الخارج -وعلى رأسهم قريش- ومن أعدائها في الداخل -وعلى رأسهم اليهود في المدينة- وانتهى هذا الدور في السنة الخامسة باندحار الخطر الخارجي في غزوة الخندق، ثم طرد قبيلة بني قريظة آخر قبائل
اليهود من يثرب؛ جزاء خيانتها لما سبق أن التزمت به من شروط الصحيفة، أو الدستور الذي سبق وأن تحدثنا عنه.
فقد أثبت النظام الجديد في يثرب قوته في الميدان الخارجي والداخلي على التوالي، وذلك في ما يلي:
- الانتصار قريش في غزوة بدر، وحماية يثرب من أول خطر خارجي على حرمتها.
- طرد بني قينقاع اليهود من يثرب عقب غزوة بدر؛ لخروجهم على النظام الإسلامي الجديد.
- التصدي لقريش مرةً أخرى في غزوة أحد.
- طرد بني النضير اليهود من يثرب؛ لإخلالهم بشروط التعاقد مع النظام الإسلامي الجديد في يثرب.
- صد الزحف الكبير الذي قامت به قريش، وحلفاؤها من البدو، واليهود، على يثرب، وذلك في وقعة الخندق سنة 5 هجرية.
هذه هي الفترة الأولى، أو الدور الأول من أدوار الصحيفة أو الدستور.
ثم انتقل النظام السياسي للصحيفة من مرحلة الصمود بعد وقعة الخندق إلى مرحلة الدعم والانطلاق، وهي المرحلة التي شغلت سنوات الدور الثاني، وانتهت بصلح الحديبية في السنة السابعة للهجرة؛ إذ استطاع هذا النظام أن ينتزع من قريش في صلح الحديبية الاعتراف بوجوده وسلطانه، واستطاع أيضًا أن يحمل النظم القبلية على أن تتحول من مرحلة الاعتداء والهجوم إلى مرحلة الانطواء والاستعداد للاستسلام، وتجلى هذا التطور الهام في قبول قريش -
باعتبارها رأس النظم القبلية- السماح للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يعقد ما شاء من الأحلاف مع القبائل الأخرى، وأن يضمها إلى نظامه السياسي، ووفق شروطه، والتزاماته.
لقد كانت شروط صلح الحديبية نصرًا عظيمًا للنظام الإسلامي في يثرب، برغم عدم إدراك الكثيرين -إذ ذاك- لهذه الحقيقة، وكانت تلك الشروط التي وردت في صلح الحديبية ما يلي:
أولًا: أن يرجع محمد في عامه هذا عن مكة، على أن يدخلها في العام التالي، وتخليها له قريش ثلاثة أيام يطوف فيها بالبيت العتيق.
ثانيًا: عقد هدنة بين قريش والمسلمين مدتها عشر سنوات، يأمن فيها كل من الطرفين من صاحبه.
ثالثًا: السماح للقبائل بالدخول في حلف محمد إذا أرادت، وأن يدخل في حلف قريش من يريد أيضًا، ويعتبر هذا الشرط أهم مكاسب النظام الإسلامي، وقدرته على منازعة سيادة مكة وحدها على بلاد العرب.
رابعًا: جاء في ضمن شروط هذا الصلح من جاء إلى محمد من أهل مكة دون إذن وليه رده إليهم، ومن جاء من أصحاب محمد لا يردوه، وقد أغضب هذا الشرط المسلمين، وجادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أصر على إبرام الصلح لما فيه من مكاسب مقبلة هائلة على ما اتضح لنا بعد ذلك.
واتسم الدور الثالث والأخير من أدوار النظام السياسي بالمرونة، وقدرة مؤسساته على العمل خارج يثرب، بنفس الكفاءة التي قامت بها داخل يثرب نفسها، فبسط هذا النظام شروطه، ومعاهداته، والتزاماته بعد صلح الحديبية، بسط هذا النظام إلى القبائل
التي اهتزت ثقتها بقريش، واهتزت ثقتها بزعامة قريش للنظم القبلية، كما طور النظام هذه الشروط في نفس الوقت بما يهيء لتلك القبائل المناخ السليم لفهم الدين الإسلامي، واعتناقه عن عقيدة وإيمان؛ فقد كان من أهم مظاهر التطور الجديد دخول خزاعة -قبيلة خزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت هذه القبيلة حليفة لعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، ورغبت في تجديد ميثاقها مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء في محالفتها مع عبد المطلب ما يلي:
"وأن عبد المطلب وولده ورجال خزاعة متضافرون متعاونون، وعلى عبد المطلب النصرة لهم، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحالفة، بعد أن زاد عليها شرطين يتفقان والنظام الإسلامي الجديد، وهما:
أولًا: ألا يعين خزاعة إذا كانوا ظالمين.
ثانيًا: أن ينصر خزاعة إذ وقع عليهم ظلم، ذلك أن خزاعة لم تكن قد أسلمت بعد، وأبى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون أساس التحالف هو أساس النظام الإسلامي الذي لا يقر التحالف القبلي، وقاعدته البالية التي تقول: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. وانتهى هذا الدور الثالث بفتح مكة سنة 8 هجريًا، وإدخال هذا المعقل العتيد -وهو مكة- للحياة القبلية، كان معقلًا عتيدًا للحياة القبلية، ونظمها بفضل فتح مكة.
دخل هذا المعقل في دائرة النظام السياسي لجماعة المسلمين في يثرب، وأعقب هذا النصر المبين للنظام السياسي للصحيفة تغيير جذري في الحياة القبلية في شتى أرجاء شبه الجزيرة العربية؛ إذ رأت القبائل العربية -في فتح مكة- في ذلك دليلًا على انهيار عهد النظم القبلية بما استندت إليه من جهالة حمقاء، وعصبية عمياء.
وبدأت تلك القبائل تدخل في دين الله أفواجًا، وترسل وفودها في العام الثامن من الهجرة، وطوال العام التاسع الهجري أيضًا، تعلن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في يثرب ارتباطها بنظامه السياسي، وتحصل على ما تريد أيضًا من العهود والمواثيق.
ووجد الرسول الكريم أن هذا التطور الهائل يقتضي تعديلًا واسعًا في النظام السياسي الذي سبق أن أقامه بمقتضى الصحيفة -أو الدستور الذي تحدثنا عنه- مع حتمية العمل على إعطاء هذا النظام الشكل النهائي، الذي يتفق والسيادة العليا التي آلت إليه على سائر أرجاء شبه الجزيرة العربية.
وتركزت معالم التعديل الأخير في تنظيم حقوق المواطنة للدولة الإسلامية بما يزيل أي مظهر من مظاهر التباين بين أبنائها، وما يؤدي إلى جمعهم في وحدة واحدة؛ من أجل حمل رسالة تلك الدولة، وهي نشر الإسلام في جميع أرجاء العالم؛ لأن الإسلام إنما هو دعوة عالمية للناس جميعًا:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية: 28){وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} (الأنبياء: من الآية: 107).
وكان أول شطر من هذا التعديل الأخير هو السماح لليهود، وغيرهم من أهل الكتاب بالحصول على حقوق المواطنة لا عن طريق العهود -كما تقرر في الصحيفة من قبل- ولكن عن طريق دفع الجزية، يقول: تبارك وتعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29).
جاء إقرار هذا النظام -الذي هو نظام الجزية- على القادرين فقط من الذكور من دون المسنين، والنساء، والأطفال، وهو شرط إسلامي يبيح لأهل الكتاب التمتع بحقوق المواطنة في الدولة الجديدة مقابل حمايتهم، وإعفائهم من الخدمة العسكرية؛ إذ لما كان الهدف الأول للدولة هو نشر الدين الإسلامي، ولما كان الدين الجديد يعترف بالأديان السماوية من اليهودية، والمسيحية، فلم يكن من العدل إلزامهم بالانخراط في سلك الجيش الخاص بالدولة الجديدة، وصارت الجزية الشرط الجديد الذي حل محل العهود والمواثيق من أجل الحصول رسميًا على حقوق المواطنة لأهل الكتاب من سكان الدولة الإسلامية الفتية.
وجاء الشطر الثاني من التعديل الأخير في النظام السياسي خاصًّا بغير أهل الكتاب من القبائل العربية؛ إذ تقرر اعتبار الدخول في الدين الإسلامي هو الشرط الأول، والأساسي للحصول على حقوق المواطنة في الدولة الجديدة، وعلى هذا لم يعد للوثنية مجال للبقاء، بعد أن ثبت ضررها وفسادها، وبعد أن تم تطهير الكعبة من الأصنام -رمز الشرك، وعنون الاستغلال للنظم القبلية، ومفاهيمها العمياء.
وتقرر في نفس الوقت عدم السماح للمشركين بالحج إلى مكة؛ لأن هذه الفريضة صارت عنوانًا على علو كلمة الدين الجديد، وأنه صار الأساس المتين للدولة الناهضة وسيادتها، يقول تبارك وتعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 27، 28، 29).
وجاء الشطر الثالث والأخير -من هذا التعديل- خاصًّا بالإجراءات التي تطلبتها مظاهر التوسع في حقوق المواطنة، ذلك أن نفرًا من الناس دخل في الإسلام، وما زال قلبه معلق بتراث العصبية، أو مشبع بالمفاهيم القبلية، وما ارتبط بها من التفاخر، والجري وراء زخرف الحياة الدنيا، وكان هذا اللون من النفاق، أو الكفر الباطن من أخطر الأمور على حقوق المواطنة في الدولة الجديدة، لماذا لصعوبة معرفة أصحابه؛ ولذلك قررت التعديلات الأخيرة على الصحيفة: إلقاء مهمة الكشف عن هذا الفريق المنافق، أو ما يسمى في العصر الحديث بالطابور الخامس، الذي يريد أن يفسد على الدولة نظامها، أقول: قررت التعديلات الأخيرة إلقاء مهمة الكشف عن هذا الفريق المنافق، أي: المتلاعب بحقوق المواطنة على أفراد الأمة أنفسهم.
فأفراد الأمة هم الذين يبحثون عن هذا الصنف من الناس -المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطون- لأن أفراد الأمة أجدر بتعاملهم اليومي على تبين شتى مظاهر الانحراف وأهله، وهذا الشرط الخلقي لا يمكن أن تتولاه أجهزة الدولة، وإنما يمكن أن يقوم به أبناء الأمة، ولهم وحدهم حق عزل أي فريق يتلاعب بحقوق المواطنة، أو الإساءة إليها، يقول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَاّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (التوبة: 73، 74).
وصدرت هذه التعديلات الجديدة في العام التاسع للهجرة، وأذاعها علي بن أبي طالب باعتباره نائبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب الناس إليه، وذلك في يوم الحج الأكبر بمكة، واشتهر هذا الإعلان باسم "بيان براءة" لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلن للقبائل العربية براءته من العود التي لم تعد تمت للإسلام بصلة، وأن النظام الإسلامي الكامل يستند إلى تشريع سماوي نزلت به "سورة التوبة" فجاء في نص الإعلان تلاوة لقوله تعالى:{بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَاّ ًالَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَاّ ًالَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمًَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 1: 7).
هذه هي الأحكام التي تضمنتها سورة براءة من الآيات رقم واحد، إلى الآية السادية.
وهكذا نكون قد انتهينا من إلقاء الضوء على مفهوم النظم الإسلامية، ونشأتها، والمراحل التي مرت بها تلك النشأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتنظيمات التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكذلك التنظيمات التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، ثم هذه الصحيفة، أو هذا الدستور الذي كان -بحق- دستورًا متقدمًا في كل المجالات، سواء من ناحية الحكم، أو من ناحية الإدارة، أو من ناحية بيان الحقوق، والواجبات سواء بالنسبة للدولة، أو بالنسبة للأفراد بعضهم مع بعض، أو مع علاقتهم مع الدولة الإسلامية، أو علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول الأخرى.
وهكذا تبين لنا أنه في هذه الفترة -وقبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم ويلحق بالرفيق الأعلى- كان هناك نظام إسلامي متكامل، وبذلك نكتفي بهذا القدر في هذا الأمر.