الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث عشر
(توجيهات الفكر الإداري الإسلامي)
1 -
توجيهات الفكر الإداري الإسلامي (1)
العمل فريضة إسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
نبدأ الآن في الحديث عن النظام الإداري في الإسلام فنقول:
التنظيم الإداري هو الترجمة العملية والفورية للنظام السياسي، وأول الهيئات التنفيذية لجميع ما ينبثق عن السلطة السياسية من تخطيط ومشاريع، فإذا كانت المؤسسات السياسية هي التي تمثل السلطان وتعلن عن أهدافه من أجل بناء الدولة وإعلاء شأنها -فإن المؤسسات الإدارية هي التي تحقق هذه الأهداف، وتعمل على إقرار أركان الدولة على أسس راسخة الأوتاد، وصار رجال الإدارة هم واجهة أصحاب السلطان أمام الناس وشبكة المواصلات الدقيقة التي تهيأ لهذين الطرفين الهامّين من أطراف الدولة أداء أعمالها الخاصة والعامة عن رضًا واقتناع، وجاء التصاق التنظيم الإداري بالنظام السياسي دائمًا وأبدًا التصاقًا أشبه بالارتباط بين وجهي العملة، بحيث لا يقدر أحدهما دون الآخر، فالإدارة المستقرة هي عنوان السياسية السليمة، والإدارة المهتزة هي رمز التفكك والانحلال السياسي.
وفي مجال حديثنا عن النظام الإداري في الإسلام، سوف نتحدث عن أربعة موضوعات رئيسية هي:
أولًا: توجيهات الفكر الإداري الإسلامي.
ثانيًا: المنهج الإسلامي الإداري.
ثالثًا: التنظيم الإداري في مجال التطبيق العملي.
رابعًا: الأجهزة الإدارية.
ونبدأ الآن في الحديث عن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي:
فنقول: إن أهم مصدرين للفكر الإداري الإسلامي هما: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أن ما جاء في هذا المصدرين لمما يؤكد ذاتية الفكر الإداري الإسلامي، الذي لا ينحاز للفرد على حساب الجماعة، كما في الفكر الرأسمالي، ولا ينحاز للجماعة على حساب الفرد كما في الفكر الاشتراكي، بل نجده بين ذلك قوامًا، إذ يحققان في توافق تام صالح الفرد وصالح الجماعة، ولا يسمح الإسلام بطغيان أحدهما على الآخر فلا فردية مطلقة، ولا جماعية مطلقة، وهو الاتجاه الرشيد الذي تنشده الإنسانية في عالم اليوم.
وحسبنا أن نورد فيما يلي نماذج للهدي القرآني والنبوي في هذا الصدد وذلك في مجالين: مجال التنظيم الإداري، ومجال إدارة الأفراد العاملين.
فبالنسبة للتنظيم الإداري نقول: عُني الإسلام بوضع ضوابط التنظيم السوي للعمل، باعتباره محور التنظيم الإداري للجماعة ونشاطاتها، وذلك على النحو الذي يكفل نمو المجتمع وتقدمه في شتى مجالات الحياة؛ وبما يعكس ذاتية الفكر الإداري الإسلامي في هذا الصدد، وهو ما نكشف عنه في الموضوعات التالية:
أولًا: العمل فريضة إسلامية:
ولذا أمرنا الله جميعًا بالعمل، إذ يقول سبحانه:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) ويخاطب رسوله الكريم في هذا الخصوص بقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب} (الشرح: 7) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)) ويشيد -صلوات الله وسلامه عليه- بالعاملين فيقول: ((من أمسى كالًّا من عمل يده -أي: مجهدًا- أمسى مغفورًا له)).
كما أُثر عنه أنه صلى الله عليه وسلم شاهد رجلًا تورمت يده من العمل فابتهج قائلًا: ((هذه يد يحبها الله ورسوله)).
ولقد سما الإسلام بفريضة العمل إلى مستوى الفريضة الدينية؛ إذ أنه ربط الإيمان دائمًا بالعمل الصالح أي: العمل النافع للفرد وللجماعة معًا، فما من آية وردت بالقرآن الكريم وذكر بها الإيمان إلا واقترن ذكره بالعمل الصالح؛ إذ وردت آيات الذكر الحكيم في مواطن عدة يقول تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: من الآية: 25) مؤكدًا بذلك أن الإسلام عقيدة عمل وعمل عقيدة، وكما أن العمل فريضة فإنه أيضًا مصدر القيمة، فالإسلام حين جعل العمل فريضة عامة على الجميع رفع من شأنه، فلم يعد أمرًا محقرًا كما كان من قبل، بل أصبح مصدر قيمة الإنسان في هذه الحياة، ومناط مسئوليته، إذ يقول سبحانه وتعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39).
كما أن التفاوت في قيم البشر أساسه أعمالهم، سواء في الدنيا أو الآخرة، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) فالعمل مصدر القيمة الإنسانية أي: أنه يجعل لصاحبه قيمة في المجتمع الذي يعيش فيه، إن الإنسان بعمله هو الذي يضفي على المادة قيمتها بما يجريه بشأنها من عمليات إنتاج، وتصنيع، وتداول، وتوزيع، واستعمال، واستهلاك، فالمادة ليست لها في ذاتها قيمة أي: أنه لن تكون لها قيمة إلا بالإنسان وبعمل الإنسان.
إذن: العمل الإنساني مطلوب لنفع الفرد ونفع المجتمع.
وبذلك تكشف توجيهات الفكر الإسلامي وفق مفهوم إنساني رحبَ العمل، واتساعَ العمل، وأنه مصدر للقيمة، وقد سبقت هذه التوجيهات في الاهتمام بالعمل، واعتباره مصدر القيمة في ذلك بأكثر من قرون عديدة، سبقت الاقتصاد الغربي ورائده "آدم سميث" في مصر، الذي يرى أن العمل -وفق مفهومه المادي- مصدر القيمة والثروة، فما توصل إليه "آدم سميث" في مصر- العالم الاقتصادي الغربي المعروف- إنما توصل إليه إسلامنا منذ وجود الإسلام على هذه الأرض.
كما أن العمل كمصدر موضوعي محايد لتقييم الإنسان على أساس الجدارة في الإسلام، يقتضي وضع معايير عمل منضبطة، ومعدلات أداء محددة، وهو ما يسعى الفكر الإداري المعاصر في اتجاهه العلمي إلى تحقيقها، كما يقتضي وضع تقارير نشاط؛ تبين مستوى أداء العامل كأداة لتقييمه.
إذن: هذه المصطلحات الإدارية الحديثة عرفها الفقه الإسلامي، وعرفتها الشريعة الإسلامية.
وهكذا يهدُر الإسلام اعتبارات المحاباة الشخصية في تقييم الإنسان، سواء كانت اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، إذ أنه جعل العمل هو الأساس في تقييم الإنسان، وإذا كان العمل مصدر القيمة فإنه أيضًا وسيلة الكسب، إذ يفرض الإنسان العمل باعتباره وسيلة الكسب، ومصدر رزق الفرد، ودخله الخاص الذي يعول عليه في معيشته، وقد هيأ الله لنا سبل العيش، وكسب الرزق، فيقول سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} (الأعراف: من الآية: 10) ولكن تحقيق ذلك منوط بالسعي والعمل؛ ولذا يقول الحق تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (الملك: من الآية: 15).
وهو ما يؤكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أطيب الكسب عمل الرجل بيده)) وينبهنا سبحانه وتعالى إلى أن الفرائض الدينية لا تحول دون السعي لكسب الرزق؛ فيقول سبحانه وتعالى بمناسبة أداء فريضة الجمعة وهي صلاة جماعية: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وحين يأمرنا الإسلام بالعمل لكسب الرزق فإنه ينشد الكسب المشروع والحلال، فيقول- سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} (البقرة: من الآية: 168) كما يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية: 29).
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((طلب الحلال واجب على كل مسلم)) والإسلام يفرض العمل؛ وسيلة للكسب؛ صيانة لكرامة الإنسان، وحتى يقي نفسه مذلة السؤال والحاجة، وهو ما تفصح عنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ روي عنه قوله:((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فَيَكفَّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)) وقد رُوي: ((أن صحابيين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يحملان أخًا لهما، فسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالا: إنه لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة، ولا ينتهي من صيام إلا إلى صيام، حتى أدركه من الجهد -أي: من التعب- ما ترى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: من يرعى إبله؟ ويسعى على وِلده؟ فقالا: نحن، فقال: أنتما أعبد منه)).
وروي أنه مَرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل نشط قوي، يقصد وِجهة معينة -يعني: يتجه إلى مكان معين- فقال له أصحابه: يا رسول الله لو كان -أي: تمنى الصحابة- هذا في سبيل الله -أي: قوته ونشاطه، يعني: الصحابة كانوا يتمنون أن يكون
هذا الرجل القوي الذي يسير أمامهم في اتجاه وجهة معينة أن يكون مسلمًا- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن كان يخرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعطيها فهو في سبيل الله)) وهكذا يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الذي يكف به الإنسان نفسه عن سؤال الناس مساوٍ للجهاد في سبيل الله، وإذا كان العمل وسيلة الكسب -كما أوضحنا- فإنه أيضًا أساس التقدم، فإن فرض العمل كوسيلة للكسب، ومصدرًا لدخل الفرد من شأنه تحقيق تقدمه اقتصاديًّا، واجتماعيًّا.
وكان الإسلام حريصًا على تحقيق هذا التقدم أيضًا على صعيد المجتمع، بتشجيع أفراده على ممارسة النشاطات الاقتصادية، سواء كانت زراعية، أو صناعية، أو تجارية، وهو ما توضحه وتؤكده الأحاديث النبوية التالية:
ففي مجال الزراعة:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، إلا كان له صدقة)) كما يقول- صلى الله عليه وسلم: ((من نَصب شجرة، فصبر على حفظها، والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل)) فالرسول صلى الله عليه وسلم يحفزنا على الاهتمام بالتنمية الزراعية، ليس فقط لمجرد تحقيق كسب دنيوي، ولكن طمعًا في الثواب الأخروي.
وفي الصناعة:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خير الكسب كسب الصانع إذا نصح)) فالصناعة أفضل مصدر للكسب في الإسلام، إذ يكمن فيها التقدم الحقيقي للشعوب والدول، وهو ما نلمسه فعلًا في عالمنا المعاصر.