الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابتداء إذا كانت تحت يد ذمي هي الأرض المفتوحة عنوة وقهرًا إذا أمن الإمام على أصحابها وتركها في أيديهم كما فعل عمر بن الخطاب بأرض مصر وأرض السواد وغيرها، الأرض التي صولح أهلها على وظيفة معلومة يؤدونها لما روي عن عمر أنه كان إذا صالح قومًا اشترطت عليهم أن يؤدوا من الخراج كذا وكذا، الأرض العشرية إذا تملكها ذمي فعند أبي حنيفة تصير أرضا خراجية؛ إذ لا يجب عليه العشر؛ لأنه ليس من أهل وجوبه، ولا بد من العشر أو الخراج فوجب الخراج.
يرى بعض العلماء أن الأرض التي تسقى بماء الخراج حتى ولو كانت أرضًا عشرية فيها الخراج؛ لأن السقي بماء الخراج دليل على التزامه، وقد شملت ضريبة الخراج الأرض الزراعية والأرض القابلة للزراعة، وكل أرض بلغها الماء فهي صالحة للزراعة، ويجب عليها الخراج، وكل أرض أمكن زراعتها عليها الخراج وإن لم يتمكن صاحبها بتقصير منه من زراعتها، ومما سبق يتضح أن الخراج يوضع على كل أرض خراجية المزروعة بالفعل أو التي تصلح للزراعة، وإن لم تزرع بالفعل وفي هذا تحقيق للعمومية المادية في الخراج إلى أبعد الحدود الأمر الذي يترتب عليه تحقيق المساواة بين المكلفين بالخراج في تحمل عبئه.
العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج
ونتحدث الآن عن العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج فنقول: رأينا كيف اهتم التشريع الإسلامي بتحقيق العمومية في الخراج، سواء كانت عمومية شخصية أو كانت عمومية مادية، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، بل عمل جاهدًا على ضمان تحققها؛ لأن العمومية قد تكون متوافرة، ولكن العمل قد يأتي ليخل بها، لذا نجد التشريع الإسلامي أنه في نفس الوقت الذي يهتم فيه بإظهار الجوانب المختلفة لهذه العمومية، يعمل أيضًا على إبعاد كل ما من شأنه الإخلال بها،
وهناك عدة عوامل من شأنها أن تساعد على ضمان تحقق العمومية في الخراج ومن أهم تلك العوامل:
منع الازدواج في الخراج، في سبيل العمل على منع الازدواج في الخراج ذهب الأحناف إلى أن المسلم الذي بيده أرض خراجية لم يلزمه إلا الخراج، ويسقط عنه العشر؛ لأنه لا يجتمع العشر والخراج معًا، وعللوا ذلك بأن سببهما أي: العشر والخراج، بأن سببهما واحد وهو مئونة الأرض الخراجية، وبذلك لا يجتمع في الأرض حقان وهما العشر والخراج، واستدلوا على ما ذهبوا إليه أيضًا بما جرى عليه الولاة والأئمة من عدم الجمع بين العشر والخراج، ولم ينقل عن أحد منهم الجمع بينهما مع كثرة امتلاك المسلمين للأرض الخراجية، فصار هذا بمثابة الإجماع الذي لا تصح مخالفته. وعلى رأي الحنفية يكون أخذ العشر مع الخراج ازدواجا في الحق الواجب.
أما جمهور الفقهاء فيرون وجوب الجمع بين العشر والخراج في هذه الحالة؛ وذلك لأن السبب الموجب لأحدهما مختلف، فالزكاة أو العشر تجب في الأرض الخراجية؛ لأن السبب هو المال النامي وقد تحقق النماء، وإذا تحقق السبب وجد المسبب، والخراج يجب في الأرض الخراجية؛ لأنه أجرة الأرض، وإذا اختلف سببهما انتفى الازدواج، هذا وقد نظمت الشريعة الإسلامية طريقة إثبات الضريبة التي منها الخراج، فأمر ولاة الأمور جباة الضريبة أن يعطوا الممولين ما يثبت أنهم دفعوا الضريبة؛ ليكون ذلك حجة لهم تمنع عنهم المطالبة بها مرة أخرى في نفس السنة عن المال نفسه، ويمكن الاستزادة في هذا الأمر في كتاب (الأموال) لأبي عبيد صـ641 وما بعدها، ونقول إن منع الازدواج في الخراج يحقق المساواة بين المكلفين بأدائه، فالأصل أن توزع أعباء ضريبة الخراج على المكلفين بها توزيعًا عادلًا يتفق وقدرة المكلفين
المالية وبحيث لا يؤدي المكلف القدر الواجب عليه مرتين في نفس السنة، فإذا حدث ازدواج في أداء الخراج فإن الشخص الذي لحقه هذا الازدواج يكون قد تحمل عبئًا ماليًا أكبر من العبء الذي يتحمله مكلف آخر له نفس المقدرة المالية التي للمكلف الأول وبهذا تنتفي المساواة بين المتماثلين، وفي هذا إهدار لمبدأ المساواة الذي يجب أن يسود بين المكلفين بأداء الخراج.
ومن ناحية أخرى فإن الشخص الذي لحقه الازدواج سيفقد الثقة في عمال جباية الخراج نتيجة شعوره بظلم وقع عليه وهذا ما قد يؤدي به إلى التهرب من أداء ما يجب عليه من خراج، والتهرب كما نعلم يهدر مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف المالية المقررة في الدولة.
أما في حالة العمل على منع هذا الازدواج فإن كل مكلف سيتحمل قدرًا من التكاليف المالية يتناسب مع مقدرته المالية فحسب، وبالتالي سيتحقق مبدأ المساواة بين الممولين في تحمل التكليف بالخراج. وبالنسبة لتجنب الراجعية في الخراج نقول: إن مقدار الخراج معلوم إما على أساس مساحة الأرض إذا كان الخراج خراج وظيفة، وإما بنسبة معينة من إنتاج الأرض إذا كان الخراج خراج مقاسمة، وفي كلا النوعين يكون مقدار الخراج واضحًا، ودفع الخراج يكون مرة في السنة إذا كان خراج وظيفة ويكون كلما جني المحصول في حالة خراج المقاسمة، ويطمئن عمر بن الخطاب في خطبة له الناس على أنه لن يأخذ منهم الخراج إلا ما يستحق عليهم، ولن يفاجئهم بمقادير من المال وهي ليست مفروضة عليهم فهو يقول: ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم عليّ ألا أجتبي شيئًا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، يراجع في ذلك (الخراج) لأبي يوسف صـ127 وما بعدها،
وعلى أية حال فثبات الضريبة النسبي نراه واضحًا في ضريبة الخراج، فبعض الشافعية يرون أنه متى استقر وضع الخراج على أرض فإن ذلك يصير مؤبدًا، ولا يجوز أن يزاد فيه ولا ينقص طالمًا كانت الأرض على أحوالها في سقيها وإصلاحها، ويتبين لنا من خلال ما تقدم أن التشريع الإسلامي قد راعى في تنظيمه للقوانين المنظمة للخراج عدم كثرة تلك القوانين وجعلها واضحة محددة لا تثير أي تحايل، ومن ثم سد الباب أمام التفسيرات والاجتهادات المختلفة بالنسبة لتلك القوانين، وبالتالي قضى على الثغرات التي بواسطتها قد يتمكن المكلف بالخراج من نقل عبء الخراج الذي يفرض عليه إلى غيره من المكلفين، وهذا معناه تجتب الراجعية في الخراج وبتجنب تلك الراجعية تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين بضريبة الخراج في تحمل عبء تلك الضريبة كل حسب مقدرته المالية.
التهرب من أداء الخراج:
والتشريع الإسلامي أيضًا عمل على محاربة التهرب من أداء الخراج، فقد عمل المسلمون على محاربة التهرب من أداء الخراج وذلك لتتحقق المساواة بين المكلفين بأداء الخراج، فقد رأينا فيما سبق أن التهرب من أداء المقدار الواجب من الأعباء المالية يؤدي إلى انعدام المساواة بين المكلفين في هذا الشأن، وهناك عدة وسائل من شأنها العمل على مكافحة التهرب من أداء الخراج نذكر من أهمها:
أولًا: عدل عمال الجباية، من أهم الأسباب التي من شأنها أن تدعوا الممولين إلى التهرب من الالتزام الواجب عليهم هو ظلم عمال الجباية، فالظلم إذا وقع من هؤلاء العمال على الممولين نقصت حصيلة الضريبة بل قد يؤدي ذلك إلى خراب البلاد.
وأيضًا فإن عدم المساواة بين المكلفين في المعاملة من جانب عمال الجباية كأن يحابى بعض المكلفين دون البعض من شأن ذلك أن يدعوا غير المحابين إلى التهرب من المقدار الواجب عليهم من الخراج، ومن أجل تفادي ما سبق نجد أن تعاليم الإسلام دعت إلى أن يكون عمال الجباية عادلين مع الممولين رفقاء بهم، وقد طبق عمر بن الخطاب تلك التعاليم بكل دقة، حيث كان لا يكتفي باختيار أفاضل الصحابة لتولي الخراج بل كان يرجع إلى الممولين أنفسهم؛ ليطمئنوه بأنهم لم يظلموا في أداء الخراج، فيروى أنه كان يجبى من العراق كل سنة مائة ألف ألف أوقية، ثم يخرج إليه عشرة من أهل الكوفة، وعشرة من أهل البصرة، يشهدون أربع شهادات بالله أنه من طيب ليس فيه ظلم مسلم ولا معاهد، فعشرون رجلًا يمثلون الممولين يشهدون بالله أربع شهادات أن هذا المال قد أخذ بالحق ولم يظلم فيه مسلم ولا معاهد من الممولين وهم لن يحلفوا إلا إذا كانوا متأكدين مما يحلفون عليه، ومن مصلحتهم ومصلحة من يمثلونهم أن يقولوا الحق، فتلك لا شك طريقة ناجحة لمراقبة ولاة الخراج بواسطة الممولين أنفسهم.
وقد ذكر أبو يوسف شروط من يقوم بجباية الخراج في قوله لأمير المؤمنين هارون الرشيد: ورأيت -أبقى الله أمير المؤمنين- أن تتخذ قومًا من أهل الصلاح والدين والأمانة فتولهم الخراج، ثم يقول: وتقدم إلى من وليت ألا يكون عسوفًا لأهل عمله ولا محتقرًا لهم ولا مستخفًا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابًا من اللين يشوبه بطرف من الشدة، والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة للفاجر والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم والعفو عن الناس، فإن ذلك يدعوهم إلى الطاعة، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له، وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه ووجهه، حتى يكون القريب والبعيد والشريف والوضيع عنده في الحق سواء.
ذكر ذلك في كتاب (الخراج) لأبي يوسف: صـ115 وما بعدها.
ولم يكتف الفقهاء باشتراط شروط معينة في عمال الخراج حتى تتحقق العدالة في التطبيق بل أضافوا إلى ذلك ضرورة رقابة هؤلاء العمال، ضمانًا لعدم خروجهم عن الحدود المرسومة لهم، وفي هذا المعنى يوصي أبو يوسف هارون الرشيد بضرورة مراقبة عمال الخراج، وذلك بأن يرسل خلف عماله قومًا من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته، يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد، وكيف جبوا الخراج على ما أمروا به وعلى ما وظف على أهل الخراج واستقر؟ فإذا ثبت ذلك عندك وصح أخذوا بما استفضلوا من ذلك أشد الأخذ حتى يؤدوه بعد العقوبة الموجعة والنكال، حتى لا يتعدوا ما أمروا به وما عهد إليهم فيه، فإن كان ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف فإنما يحمل أنه قد أمر به، وقد أمر بغيره وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج واجترءوا على ظلمهم وتعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم. (الخراج) لأبي يوسف: صـ120 وما بعدها.
ويوضح أبو يوسف النتائج العظيمة المترتبة على تحقيق العدالة في التطبيق فيقول: إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج، وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وهي تفقد مع الجور، والخراج المأخوذ مع الجور تنقص البلاد به وتخرب، وهكذا نجد أن التشريع الإسلامي يأمر عمال الخراج بالعمل على تحقيق العدالة الكاملة في معاملتهم للمكلفين بالخراج، ولا شك أن المعاملة الطيبة لهؤلاء المكلفين من شأنها أن تترك في نفوسهم أثرًا طيبًا، من شأنه أن يجعلهم لا يفكرون على الإطلاق في التهرب من أداء المقدار الواجب عليهم من هذه الضريبة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تحقيق المساواة الكاملة بين هؤلاء المكلفين في تحمل التكليف بالخراج.
ثانيا: ومن وسائل مكافحة التهرب من أداء الخراج، أن رب الأرض إذا ماطل في أداء الخراج الواجب عليه مع قدرته المالية حبس فيه وفاء له، إلا أن يوجد له مال فيباع عليه في خراجه كالمديون وإن كان لا يملك غير أرض الخراج فللسلطان الخيار في جواز بيعها فيبيع منها بقدر خراجها، أو يقوم بتأجيرها ويستوفي الخراج من مستأجرها، فإن زادت الأجرة فله زيادتها وإن نقصت كان عليه نقصانها. يراجع في ذلك (الأحكام السلطانية) للماوردي صـ132 وما بعدها، وهذه العقوبة المالية والبدينة من شأنها أن تردع من تسول له نفسه التهرب من أداء المقدار الواجب عليه من الخراج، فلا يتهرب من ذلك وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين في تحمل التكليف بالخراج كل حسب مقدرته المالية.
ثالثا: ومن الوسائل أيضًا التي تمنع التهرب من أداء الخراج، حصر الممولين وأموالهم لمعرفة مقدار الضريبة وجبايتها كاملة، فقد أمر عمر بن الخطاب بمسح السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع عليها الخراج، يراجع في ذلك (الخراج) لأبي يوسف صـ38 وما بعدها.
رابعا: ومن الوسائل أيضًا التي تمنع التهرب من الخراج، أن صاحب الأرض إذا ادعى أنه دفع الخراج لم يقبل منه قوله إلا ببينة، فالخراج حق بمثابة الديون، وهذا تطبيق للأصل العام في الإثبات وهو البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد ادعى دفع الخراج فلزمته البينة للتأكد من أدائه لضريبة الخراج وفي هذه الحالة يجوز الرجوع إلى سجلات الدولة التي يثبت فيها أداء الخراج حتى لا يطالب به مرة أخرى.