الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة عن المعاهدات في الإسلام
ننتقل الآن إلى موضوع آخر من الموضوعات التي هي في المقرر: في العلاقة، أو السياسة الخارجية للمسلمين بغيرهم، وهي: المعاهدات فنقول: العلاقات الدولية في الإسلام تستمد قواعدها من المبادئ الإنسانية العامة في حالتي السلم، والحرب.
والعدل، والحرية، والكرامة الإنسانية، والوفاء بالعهد، والمعاهدة بالمثل عند الضرورة، والحاجة، ودون التلوث بمفاسد الدناءة، والخسة، ومن تلك المبادئ أيضًا الفضيلة، والرحمة، والتقوى، والتعاون الإنساني -كما بينا ذلك بالتفصيل- لأن الإنسان أخٌ للإنسان؛ أحب، أم كره، ونحو ذلك مما تضمنه وأعلنه القرآن الكريم، والسنة النبوية.
كما تستمد قواعدها من العرف الصحيح المشروع، غير المصادم لأصول الدين الإلهي الحق، ومن المعاهدات التي تعقد بين المسلمين، وغيرهم كالعهود التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، والملوك العادلين، والأمراء المتقين في تقرير الأمان، وعقد الذمة، والصلح، وسوف نتناول في هذا الأمر المفاهيم الأساسية للمعاهدات، وأهميتها، ومشروعيتها، ثم قاعدة الوفاء بالعهد، ثم نبين الإطار العام الذي تبرم فيه المعاهدات.
أولاً: تحديد مفاهيم المعاهدة، والميثاق، والعهد، والعقد.
فنقول: المعاهدة، والميثاق، والعهد، والعقد في أصل اللغة العربية -بمعنى واحدٍ مترادف، وهو كل ارتباطٍ بين طرفين على أمرٍ معين، وأما عند فقهاءنا؛ فإن المعاهدة هي: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتمسونها، والعهد في الشريعة الإسلامية له معنى أوسع من كلمة عهد في القانون الدولي الوضعي؛ إذ هو أساسًا اتفاق الإرادتين -بصرف النظر عن الشكل، أو الإجراء- والعهد في فقهنا
هو: ما يتفق رجلان، أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة؛ فإن أكداه، ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه، والوفاء به سمي: ميثاقًا، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينًا.
والعرف السائد اليوم يوحي إلينا بأن نميز العهد عن العقد بإضفاء سمة الإجلال، والسمو، والتعظيم للعهد، وتخصيصه بالعقد الموثق، بقصد الوفاء به بنحو المؤكد، سواء تم توثيقه بالكتابة، أو باليمين، أو بغيرها من وسائل التوثيق؛ فكل اتفاق هو عقد، وليس كل عقد عهد، وسمي عقد الزواج في القرآن الكريم:{مِيثَاقاً غَلِيظا} (الأحزاب: من الآية: 7).
وكذلك يملي علينا العرف الدولي القائم تمييز العهد عن المعاهدة؛ فإن العهد أوسع معنًى من المعاهدة؛ فكل معاهدة هي عهد، وليس كل عهدٍ معاهدة، والعهد -كما بينا- هو كل اتفاق بين طرفين التزماه لمصلحة مشتركة، أو هو العقد الموثق بالكتابة، أو اليمين، أو بأي ضمان آخر يمنح طرفيه الثقة بتنفيذه، والوفاء بشروطه، وهو يشمل ما قد يكون بين شخصين مثل عهد الأمان الصادر من المسلم للحربي الذي يطلب الآمان، كما يشمل ما قد يحدث بين جماعة، وفرد مثل حماية القبيلة، أو شيخها الذي يمثلها لمن يستجير بها ويستغيث بنجدتها وتأييدها، وقد يكون بين جماعتين، أو دولتين كعهود الصلح المؤقت -أي: الهدنة- والصلح الدائم، أو المؤبد -أي: عقد الذمة.
أما المعاهدة؛ فهي محصورة الآن بين دولتين، لا بين الأفراد، والجماعات، وموضوعها محصور في حكم علاقة دولية معينة ذات طابع قانوني -أي: أنها ذات معنى معين خاص ضيق من حيث الطرفان، والموضوع.
حينئذٍ يمكن تعريف المعاهدة -في الاصطلاح الفقهي الإسلامي الحالي- بأنها: اتفاق صادر بين دار الإسلام، أو دولة إسلامية مع دولة أخرى، أو جماعة معينة غير مسلمة بتنظيم علاقة قانونية ذات طابع دولي -فيما بينهما.
أما المسائل الجزئية الجانبية ذات الأهمية المحدودة؛ فلا تنظمها المعاهدة؛ حتى يكون لها طابع العنصر الدولي المهم، ومن أمثلة ذلك: أمر الإمام الحاكم بإنهاء الحرب مع مدينة معينة، أو شعبٍ مجاور، ومثل اتفاقية تبادل الأسرى، ونحو ذلك.
أما الاتفاقيات الدولية في معاملة الأسرى، وقواعد الحرب، وأحوال مشروعية القتال، أو استخدام القوة فلها صفة المعاهدة بالمعنى الشائع الآن بين الدول.
أهمية المعاهدات، والمواثيق، ومشروعيتها: المعاهدات، والمواثيق تضفي على أعمال الأمم، والشعوب، والدول، والأفراد عنصر الثقة، والاطمئنان، وتعمل على تخفيف حدة التوتر في العالم، وتكفل إلى حدٍ بعيد تنفيذ الشروط، والبنود، وتحقيق المصلحة في وقت محدد يعود على الطرفين بالخير، والهدوء، والراحة، وبالمعاهدة يحل السلم محل الحرب، والأمن محل القلق، والخوف، والحب والصفاء بدل الكراهية، وينعم الناس بنعمة الحرية التي لا قيود عليها؛ فيتفرغون لشئون المعيشة، وإنعاش الزراعية، وتنمية التجارة، وفتح الأسواق، أمام الصادرات، والواردات، وتبادل المنتجات، وتقدم الصناعة وتطورها، وتوجيهها وجهة خير الإنسان، وصالحه ونفعه؛ فتكون أداة تفاهم وود، وتقدمٍ وحضارة، ورفاهية وسعادة.
لذا عظم الإنسان العهود ورغب فيها، وشرعها، وآثر فض المنازعات الجماعية عن طريقها، وتحقيق الأغراض والغايات الإنسانية النبيلة بواسطتها، بل إن نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة لا يتم إلا في ظلها، وفي ربوع الأمن والسلام المتحقق به.
وما أكثر النصوص الشرعية الدالة على مبدأ مشروعية معاهدات مع الأعداء في السلم، والحرب في إطار من الشروط المتفق عليها بالتراضي، والاختيار، من تلك النصوص قوله تعالى:{بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} (التوبة: آية: 1) وقوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 7) وقوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (النساء: من الآية: 90) وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: من الآية: 61) وقوله تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (الأنفال: من الآية: 72) وقوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: من الآية: 4).
كل ذلك يدل على قدسية المعاهدات، وضرورة الوفاء بها، وجاءت السنة النبوية القولية، والفعلية مؤكدة هذه المعاني، ففي الصلح المؤقت -الهدنة أو الموادعة- روى أبو داود في سننه، عن رجل من جهينة:((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعلكم تقاتلون قومًا ستظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم فيصالحونكم على صلحٍ فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح لكم)) وقال صلى الله عليه وسلم قبيل صلح الحديبية: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)).
وفي الصلح المؤبد، أو المطلق -ونقصد به عقد الذمة- يقول صلى الله عليه وسلم:((ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)).
وفي عقد الأمان الفردي من المسلم، أو الجماعي من فئة، أو من قائد، أو إمام حاكم قال صلى الله عليه وسلم:((أيما رجلٍ من أقصاكم أو أدناكم، من أحراركم أو عبيدكم أعطى رجلاً منهم أمانًا، أو أشار إليه بيده فأقبل بإشارته؛ فله الأمان؛ حتى يسمع كلام الله، فإن قبل؛ فإخوانكم في الدين، وإن أبى؛ فردوه إلى مأمنه، واستعينوا بالله)).
أرشدت هذه النصوص في العهد النبوي إلى أن المعاهدات مشروعة في الإسلام، بل إنها في منهجه وسيلة فعالة متعينة لضمان السلم، ودعم الأمن، وتوفير حقوق الإنسان، وكفالة الحريات التي جاء الإسلام بضمانها واحترامها.
الوفاء بالعهد: لم تكن المعاهدات في الإسلام مجرد قصاصة ورق -كما هو الشأن عند الدول غير الإسلامية المعاصرة- ولا وسيلة لخداع العدو، ولا وسيلة لتنفيذ أهداف خاصة معينة، ولا شعارًا لفرض القوي سلطانه على الضعيف، أو المغلوب، ولا من أجل تقرير سلمٍ ظالم غير قائمٍ على الحق والعدل؛ حتى إذا قوي الضعيف نبذها، وقاتل للتحلل من قيودها، والتخلص من نير القوي. وهي أيضًا كانت صورة لقوة الأقوياء، وليست إجراءً لتنظيم السلم، والعدل.
وإنما كانت المعاهدات في الإسلام مصونة عن أي غدر، أو خداعٍ، أو قهرٍ، أو تأمين مصلحة مادية رخيصة، أو فتح منافذ، أو أسواقٍ لتصريف السلع، والمنتجات، وفائض الزراعة، أو المواد الممتلكة.
فالقرآن الكريم لا ينظر إلى المعاهدات -التي يسوغ إبرامها- تلك النظرة المصلحية، وإنما أمر بالوفاء بالعهد وفاءً مطلقًا -من غير قيدٍ- بضعفٍ، أو قوة؛ وذلك لإقامة سلمٍ ثابت على أقوى الدعائم والأصول، والتزم المسلمون بالوفاء بالعهود شرعًا إليها عادلاً؛ لحماية الأغراض السامية، التي تهدف لها الدعوة الإٍسلامية، أو للتوصل إلى سلمٍ وطيدٍ لا ينطوي على أي عدوانٍ مبيتٍ، ولا يجوز نقضها ما دامت قائمة، كما لا يجوز نقضها ما دامت قائمة، كما لا يجوز الإخلال بشروطها، أو بنودها -ما لم ينقضها العدو؛ تنفيذًا لأمر الله المطلق للآيات القرآنية العديدة، مثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة من الآية: 1)، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل: 91) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء من الآية: 34) وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (التوبة: من الآية: 4){فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: من الآية: 7).
الوفاء بالعهد ملازم لصفة الإيمان، ودستور أساسي معظم لا ينقض، ونقض العهد شأن المنافقين، لا المؤمنين، قال تعالى -واصفًا للمؤمنين-:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: آية: 20) ويقول تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (البقرة: من الآية: 177).
ولا يجوز للمسلمين أن ينصروا إخوانهم المسلمين في بلد غير إسلامي عدا المعاهدين لنا من الكفار، وتضافرت الوصايا النبوية باحترام العهود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) وقال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا لا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) وجعل الغدر، والخيانة، والإخلال بالعهد من صفات النفاق، وخصائص المنافقين قال صلى الله عليه وسلم:((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).