المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فمن التزم بهذا المبدأ، فالإسلام يوصي بحسن معاملته، ومن خرج - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: فمن التزم بهذا المبدأ، فالإسلام يوصي بحسن معاملته، ومن خرج

فمن التزم بهذا المبدأ، فالإسلام يوصي بحسن معاملته، ومن خرج على هذا المنهج فالإسلام يأمرنا بالتصدي له، وقتاله وهذه فلسفة الحرب في الإسلام، حروب فاضلة لا عدوان فيها، ولا انتهاك للحرمات، ولا الاعتداء على الكرامة الإنسانية مجرد تأديب لمن يقف في طريق الدعوة حتى يعود إلى رشده، ويتنحى عن موقفه، وهذا ما شهد به الأجانب قبل الأقارب، والأعداء قبل الأصدقاء.

‌التخطيط للهجرة

وبعدما انتهينا من النموذج الأول للتخطيط الإداري في الإسلام، وهو التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية.

ننتقل الآن إلى النموذج الثاني، وهو التخطيط للهجرة، فنقول: الباحث العلمي المدقق، والمحايد لا يحتاج إلى كثير من الوقت للاقتناع بحقيقة أن كل مبادئ لتخطيط العلمي، قد تجلت بوضوح قاطع في مراحل الهجرة، وكأن الإسلام قد أراد أن يقدم من خلالها نموذج يحتذى من قبل المسلمين للتخطيط العلمي السليم.

لقد تمت الهجرة في ظروف قاسية، وحصار من قبل المشركين، وتحدٍ مجنونٍ من أجل منع وقوع هذا الحدث التي كانت تدرك قريش ماله من آثار خطيرة على مستقبلها وكيانها كله، فبذلت قصارى جهدها للحيلولة دونه، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم تؤيده العناية الربانية، وضع خطته لمواجهة كل الظروف، والاحتمالات بشكل يجعل العقل يقف عاجزًا أمام عظمة هذه العبقرية النبوية.

لقد كان الهدف الأساسي من الهجرة هو البحث عن أرض صالحة لقيام مجتمع إسلامي بعد أن تيقن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكة ليست هي الأرض المهيأة لاحتضان الرسالة الإسلامية، ولتحقيق هذا الهدف بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في تجميع الحقائق، وتوصيف المجال الذي يتم العمل فيه، ووفقا للمفاهيم الإدارية الحديثة كانت الخطوة التالية هي المقارنة بين البدائل المتاحة لاختيار أفضلها، وكان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك بدائل ثلاثة:

ص: 649

البديل الأول: الهجرة للطائف.

البديل الثاني: الهجرة للحبشة.

البديل الثالث: الهجرة للمدينة.

ونتحدث الآن عن البديل الأول، وهو الهجرة للطائف:

ربما جاءت مدينة الطائف إلى فكر الرسول عليه الصلاة والسلام كأول البدائل المتاحة لعدة عوامل إيجابية، نذكر منها:

1 -

موقع الطائف الفريد حيث تقوم على مكان مرتفع بين مدن الحجاز، مما يوفر لسكانها المناخ الملائم إلى جانب الوفرة في الإنتاج الزراعي.

2 -

كانت الطائف مصيفًا لأهل مكة، ومكان تستثمر فيه أرباحها من التجارة.

3 -

كانت قبيلة ثقيف الطائفية عدو لدود لقبيلة قريش، تنافسها في المجالات الدينية والتجارية، وكان من المتوقع أن تسعى ثقيف للإسلام؛ لتتفوق به على عدوتها القديمة، وكان من المنطقي أن ترحب بهؤلاء المهاجرين الذين طردتهم قريش من ديارهم؛ ليكون شوكة في ظهر قريش في المستقبل، كانت هذه العوامل الإيجابية تمثل قوى دفع للرسول، وصحبه للهجرة إلى الطائف.

إلا أن هناك عوامل أخرى سلبية، كان يدركها عليه الصلاة والسلام وكان يرى أنها تقف عائقا في سبيل قبول أهل الطائف لدعوة الإسلام، ومن هذه العوائق:

كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدرك أن لقبيلة ثقيف زعامة دينية في الطائف تعادل تلك التي كانت لقريش في مكة، وأن لها وثنا يسمى اللات، وأنهم أقاموا حوله حرما يشبه الكعبة، ودعوا الناس إلى الحج إليه، بل إنهم شجعوا أبرهة على هدم الكعبة، حتى يكون لهم وحدهم حج الناس من كل فجاج الأرض،

ص: 650

كان الرسول يدرك أن الإسلام سيضع حدًّا لهذه الوثنية العمياء، التي كانت مصدر دخل ثابت لثقيف، وأن هذه القبيلة لن تقبل ذلك بسهولة.

وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن لثقيف زعامة سياسية في الطائف لا تقل عن زعامة قريش في مكة، وأن قيام دولة إسلامية في الطائف سيقضي على هذه الزعامة، وهذا سيجعلها تقاوم دعوة الإسلام بعنف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخوف أن تنظر إليه ثقيف على أنه واحد من قبيلة قريش عدوها اللدود، ولا تنظر إليه على أنه صاحب رسالة سماوية.

كل هذه العوامل بإيجابياتها وسلبياتها كانت في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يفكر في الطائف كأحد البدائل المتاحة لتحقيق هدف الإسلام في بيئة صالحة لقيام مجتمعه، لكن الرحلة الاستطلاعية التي قام بها مع مولاه زيد بن حارثة، والتي لا يتسع المجال للحديث عنها هنا أكدت له أن الموقف غير مناسب للهجرة إلى الطائف، كما أنها ليست الأرض التي تصلح لقيام المجتمع الإسلامي إذ ذاك.

ثم ننتقل الآن للحديث عن البديل الثاني، وهو الهجرة إلى الحبشة:

بناء على المعلومات التي توفرت للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قدرته الفذة على دراسة الموقف المحيط به، تأكد له أن الحبشة هي أنسب الأماكن المتاحة للهجرة المؤقتة للمسلمين، وذلك لعدة أسباب نذكر منها:

1 -

كانت الحبشة بحكم موقعها بعيدة عن أيدي المشركين، كما أن قريش كانت لها مع الحبشة تجارة تعود عليها بالربح الوفير، مما يجعل هناك مصالح مشتركة بينهما تمنعها من الدخول في حروب أو صراعات كما أن هذه المصالح مشتركة بينهما قد تفيد الإسلام فيما بعد.

ص: 651

2 -

كان على رأس الحبشة النجاشي، وهو ملك اشتهر بعدالته، كما اشتهر بقوة شخصيته وحصافة عقله، مما يجعل له وزنا عالميًّا، ومن ثم فإن استقطابه إلى قضية الإسلام مكسب ذو قيمة؛ لأنه صاحب نحلة سماوية، وكتاب مقدس، هذا إلى جانب أن المسيحي على عهده لم تكن صافية الجوهر، وإنما دخلها التحريف والتغيير كما دخلتها الوثنية، مما يجعل رجلًا كالنجاشي بما اشتهر به من عقل يقتنع بالإسلام حين يعرض عليه كدين سماوي نظيف لم يدخله التحريف.

3 -

من ناحية أخرى، فإن استقراء الأحداث ينبئ عن أنه لا خوف على المسلمين من المسيحية التي كانت سائدة في الحبشة آنذاك؛ لأنها كانت مليئة بالأطماع والوثنيات، ومن أين يجيء الخوف على رجال رباهم الرسول على التوحيد، وغرس حقائق الإيمان في نفوسهم، فتركوا من أجله ديارهم وأموالهم، إن أمثال هؤلاء ما كانوا ليستبدلوا الإسلام بمسيحية أو غيرها، مهما كان حجم الإغراءات.

وبناء على هذا التقدير الدقيق للموقف، أذن الرسول لأصحابه بهجرة مؤقتة إلى الحبشة، وصدر القرار النبوي بقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه:((لو خرجتم إلى الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدقا، حتى يجعل الله لكم مخرجا)) وكان هذا الإذن يحمل في كلماته كل مواصفات القرار الجيد، فهو أولا: أوضح لهم أن هذه هجرة مؤقتة بقوله: ((حتى يجعل الله لكم مخرجا)) ومن ثم فهي ليست هجرة دائمة.

وثانيًا: تضمن القرار المعلومات التي تجعل من ينفذوه على اقتناع به، جاء في كلامه، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق،

ص: 652

وقد اشتملت خطة الهجرة ضمان لنجاحها على ركنين وضعهما الرسول بحكمة القائد المحنك:

الركن الأول: أن يتم الرحيل تسللًا في الخفاء، حتى لا تنتبه قريش للخطة، فتحبطها، وهو ما يطلق عليه عامل المفاجأة.

الركن الثاني: أن تكون الهجرة في شكل أفواج قليلة، وليست على نطاق واسع، حتى لا تلفت نظر المشركين، وضمانًا لتحقيق جانبي الخطة، وضمانًا لتحقيق جانبي الخطة، وضمانا لتحقيق جانبي الخطة خرج المسلمون في شكل أسر صوب البحر، حتى استقلوا سفينتين تجاريتين، أبحرت بهم إلى الحبشة، وقد نجحت الخطة بتأييد الله نجاحا باهرا، ولقي أصحاب الرسول في الحبشة معاملة طيبة، وحماية وأمنا وأصبح للإسلام أنصار في هذا البلد الطيب، وانضم النجاشي بكل نفوذه إلى الإسلام ناصرا، وهذا النجاح المذهل الذي تحقق جعل بعض الباحثين، والكتاب يتساءل لماذا لم يستغل الرسول هذا النجاح، وينتقل بأهله وأصحابه إلى الحبشة؛ لتكون هي الأرض التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؟ ولماذا أصر عليه الصلاة والسلام على جعل هجرة المسلمين إليها هجرة مؤقتة؟

وللإجابة على هذا التساؤل نقول: إن تحليل الرسول صلى الله عليه وسلم للمعلومات المتاحة لديه، ودراسته المتأنية للموقف أكدت لديه صعوبة أن تكون الحبشة هي الهدف لدولة الإسلام، وذلك لعدة عوامل:

أول هذه العوامل: أن الحبشة منطقة معزولة لا تصلح متنفسًا للدعوة الجديدة، إذ أن الإسلام كدعوة عالمية يحتاج إلى منطقة مفتوحة على العالم، والحبشة على مر تاريخها لم تكن منطقة انطلاق.

ص: 653

ثاني العوامل: أن الحبشة لم تكن لتسمح لهذا الدين الجديد أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم يكن الرومان وهم المهيمنون على المسيحية في العالم آنذاك، يسمحون للحبشة بذلك حتى لو أسلم ملكها.

وثالث العوامل: أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ولسانه، ومن ثم فإن فهمه وتعلمه وحفظه في هذه البيئة الحبشية يعد أمرًا صعبًا، وعقبة في طريق الدعوى لكل هذه الأسباب، وهذه العوامل صرف الرسول عليه الصلاة والسلام النظر عن الحبشة كأرض للهجرة الدائمة، وفكر في بديل آخر، ويمكن القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حقق بهذه الهجرة أقصى استفادة ممكنة، واتخذ قراره بالهجرة المؤقتة في ضوء أحسن معرفة ممكنة عن مستقبلية هذا القرار، وهذا ما يقوم عليه التخطيط العلمي السليم.

ثم نتحدث عن البديل الثالث، وهو الهجرة إلى المدينة، فنقول:

من المبادئ الإدارية المعروفة أنه كلما زادت المعرفة، كلما زادت الفرصة للتصرف السليم، وكلما ساعد ذلك على نجاح القرار.

فالفرد العارف لأبعاد، ونتائج المهمة المكلف بها يكون أكثر قدرة على التصرف السليم، والقرار السليم يتوقف على مدى المعلومات التي تتوفر أمام متخذ القرار، وعلى قدرة صاحبه على تحليل هذه المعلومات للخروج منها باستنتاجات سليمة.

وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف عن مجتمع المدينة الشيء الكثير، وكان يضع في اعتباره كثيرًا من العوامل الإيجابية التي تساعد على تحقيق هدف الدعوة الإسلامية، ونذكر من هذه العوامل:

ص: 654

1 -

كانت ظروف المدينة السياسية، وإلا اجتماعية تسمح تماما بقيام دولة إسلامية على أرضها، ولو عدنا قليلا إلى الوراء نتعرف على تاريخ المدينة، سنجد أن سكانها الأصليين من العرب هم العمالقة نسبة إلى عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، ثم قدمت إلى يثرب قبائل يهودية مهاجرة من فلسطين، وكدأب اليهود يسعون دائما إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية، وعلى شئون المال في البلاد التي يسكنونها.

وبعد انهيار سد مأرب قدمت إلى يثرب قبيلتان يمنيتان هم قبيلتي الأوس والخزرج، وسمح اليهود لهاتين القبيلتين بالإقامة في يثرب؛ ليتخذوا منهم الأيدي العاملة في زراعاتهم، وكأنهم رقيق يعملون في ظل نظام إقطاعي، إلا أن هاتين القبيلتين نجحتا في التخلص من هذه السيطرة، وبدأتا في ممارسة نشاط اقتصادي مستقل، فحدث صراع بين عرب اليمن واليهود انتهى بانتصار قبيلتي الأوس والخزرج، ولما رأى اليهود ذلك مارسوا لعبتهم المحببة وهي إشعال نار العصبية بين القبائل العربية، فحدثت سلسلة من الحروب بين الأوس والخزرج، كادت تفني القبيلتين معا.

وهنا صار مجتمع المدينة مجتمع عداوات وصراعات تأخذ أشكال متعددة، اليهود يكرهون العرب، ويحاولون أن تكون السلطة في يثرب ويعيبون عليهم عبادة الأوثان، والقبائل العربية إلى جانب كراهيتها لليهود تكره بعضها البعض، وتتصارع من أجل أن تكون لكل منها السيادة على المدينة، ومع الحروب الطاحنة أصبح مجتمع يثرب في حاجة إلى نعمة الهدوء، والاستقرار، وتطلع الناس إلى أية دعوة تحقق لهم هذا الهدف.

ص: 655

وكان من آثار هذه الصراعات ما يلي:

راح اليهود يروجون في المدينة أن نبيًّا سيبعث في هذا الزمان، وأنهم أي: اليهود سيتبعونه، ويقتلون به العرب قتل عاد وإرم، فلما علم العرب بأنباء البعثة المحمدية، عرفوا أن هذا هو النبي الذي توعدهم به اليهود، وضمان لنصرة قريش كانت كل من الأوس والخزرج ترسل وفودا إلى مكة تتحالف مع قريش ضد بعضها، وكان من تدابير القدر وحسن تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم أن التقى بهذه الوفود فعاد كثير من أصحابها إلى المدينة بالإيمان ونور الحق، وليس بأحلاف الجاهلية.

2 -

كما كانت الظروف السياسية والاجتماعية عاملا هاما في تهيئة مجتمع المدينة لقبول الدعوة الإسلامية، فإن المدينة بحكم موقعها كانت منطقة انطلاق يسكنها عرب، ويتكلم أهلها العربية فتستطيع الدعوة الإسلامية أن تجد فيها منطلقا واسعا ولسانا عربيًّا يقرأ القرآن ويحفظه.

3 -

كان من حسن تخطيط الرسول أن أرسل مع وفود المدينة العائدة من مكة مصعب بن عمير؛ ليعلم الناس مبادئ الإسلام، وقد نجح مصعب بتوفيق الله، وساعدته ظروف المدينة السياسية، والاجتماعية وقدراته الشخصية على تهيئة مناخ هذه المدينة لإقامة المجتمع الإسلامي.

وكما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدرك العوامل الإيجابية التي ساعدته على اتخاذ قراره في اختيار المدينة كموطن للهجرة الدائمة للمسلمين، فإنه لم يغفل عن العوامل السلبية التي قد تعرقل هذا الهدف، أو تقف عثرة في سبيله، ومنها:

أن اليهود في المدينة يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وعلى الرغم من أنهم يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام من خلال كتبهم كما يعرفون أبناءهم إلا أن الحسد

ص: 656

أعمى قلوبهم، فنقموا على العرب أن يكون الرسول من بينهم؛ لأنهم كانوا يريدونه من بني إسرائيل، وكان الرسول يوقن من واقع معرفته بهم أنهم سيرفضون الدعوة، ويقاومونها ويحتالون عليها بكل الطرق.

2 -

في فترة الهدنة بين قبيلتي الأوس والخزرج، والتي واكبت الهجرة النبوية، اتفقت القبيلتان على إقامة حكومة مشتركة، تحكم يثرب ويرأسها زعيم الخزرج عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان معنى قيام مجتمع إسلامي في المدينة القضاء على مثل هذه الحكومة، وهو مما يثير الحقد على الإسلام في قلب عبد الله بن أبي، وحاشيته، وبمنطق القائد المحنك، ورجل التخطيط الخبير، وازن الرسول بين العوامل الإيجابية، والعوامل السلبية، وتأكد أن الإيجابيات أكثر، وأن الفرصة مهيأة أكثر من أي وقت آخر للهجرة إلى المدينة، فبدأ في تهيئة المناخ، وإعداد الظروف الملائمة لتحقيق الهدف، فجاءت خطة الهجرة محكمة كل الإحكام، وواضحة كل الوضوح.

ويرى علماء التخطيط الإداري أن من عوامل نجاح أي خطة تقسيم المهام والإعمال، وتحديدها بدقة، حتى يعرف كلٌّ دوره فلا تتنازع الاختصاصات، ولا تتداخل، وفي نفس الوقت يتحقق تكامل بين هذه الاختصاصات حتى تؤدي في النهاية إلى تحقيق الهدف المرغوب، ولقد كانت المهام المطلوبة لنجاح خطة الهجرة هي:

1 -

مهام الإعداد والتجهيز.

2 -

مهام الإعداد والتموين.

3 -

مهام الاستطلاع والتخابر.

ص: 657

4 -

مهام الإرشاد واقتفاء الأثر.

5 -

مهام الخداع، والتمويه على الإعداء.

ولو كان المخطط رجلًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى قوات ضخمة؛ لتغطية هذه المهام، ولو كان القائمون بالعمل رجالًا غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج الأمر إلى جيش جرار، ولكن مع الرسول وأصحابه، فالأمر يختلف تكفل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحده بمهام الإعداد، والتجهيز للهجرة، فأعد ناقتين له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ معه في هجرته كل ماله تاركًا أهله في ستر الله ورسوله كما قال، وتكفلت ابنته أسماء رضي الله عنها بمهام الإمداد والتمويل، فكانت تحمل الطعام للرسول وأبيها في الغار، وقد تحملت في سبيل ذلك الكثير من التضحيات، قطعت مرة ثوبها وجعلت منه نطاقا؛ لتحمل به الطعام إليهما، فأسماها الرسول ذات النطاقين، وتعرضت للضرب الفاحش من أبي جهل حين سألها عن مكان المهاجرين الشريفين، فلما أجابته بأنها لا تعلم لطمها على وجهها لطمة قوية وقعت على أثرها على الأرض، وساهم معها عامر بن فهيرة في عملية الإمداد، فكان يذهب إلى الغار ليلًا، ويمد الرسول وصحبه بحاجتهما من اللبن، وتكفل عبد الله بن أبي بكر بدور رجل الاستطلاع، فكان يبيت مع الرسول وصحبه في الغار، ويصبح مع قريش وكأنه بائت معهم، ثم يعود بأخبار قريش إلى الغار،

ص: 658