الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يرد الموضوع إلى حاكم بلده، أو لأقرب حاكم في بلده، ولكن يجوز له مساعدة الحاكم في استيفاء الحقوق؛ لأنه هو صاحب المعونة دون الحاجة.
ومن اختصاصاته أيضًا: إمامة الصلاة، وتسيير الحج؛ لأن هذا يعتبر من جملة الصلاحيات المندوب إليها الأمير.
ومن اختصاصاته أيضًا -أي: الأمير في الإمارة الخاصة- الجهاد، لكن ينبغي التفريق في هذا الصدد بين ابتداء القتال للأعداء المداخلين للحدود، فهو لا يجوز إلا بإذن الخليفة، وبين الاعتداء الواقع عليهم بالفعل فهو يجوز بغير إذن الخليفة؛ لأن الحق في الدفاع يدخل ضمن حقوق الحماية، ومقتضيات الذب عن الحريم، التي تدخل في اختصاصات الأمير.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن الإمارة بنوعيها: الإمارة الخاصة، والإمارة العامة، وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن النظام الإداري في الإسلام.
الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم
وننتقل الآن للحديث عن السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، وهو إحدى الموضوعات المقررة في السياسة الشرعية، ونتحدث في موضوع السياسة الخارجية للدولة الإسلامية عن علاقة المسلمين بغيرهم، ثم نتحدث عن موضوع آخر وهو: تقسيم الدول إلى: دار حرب، ودار إسلام، وما يترتب على ذلك من نتائج، ثم نتحدث بعد ذلك عن المعاهدات في الفقه الإسلامي.
ونبدأ الآن الحديث عن علاقة المسلمين بغيرهم، ويمكن تقسيم الحديث في هذا الأمر -وهو علاقة المسلمين بغيرهم- إلى قسمين:
الأول: الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية في الإسلام.
الثاني: الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم دون الحرب.
فبالنسبة للقسم الأول وهو: الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية في الإسلام، نقول:
يتبين لنا من توجيهات الإسلام واستقراء أحكامه أن العلاقات الإسلامية تقوم عند الفقهاء على أسس؛ هي ضرورية لا بد منها في الحياة الاجتماعية، بل والدولية، وسوف نبحث هذه الأسس فيما يلي:
أولًا: الوحدة الإنسانية؛ والوحدة الإنسانية تتفرع إلى عدة فروع منها: التساوي في الأصل، وفي ذلك نقول: الناس في الأصل سواء، لا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى، وأنه لا تفاضل بين البشر بسبب اللون، أو الجنس، أو اللغة، فالكل ينتمون إلى آدم، وآدم من تراب، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: من الآية: 1) فقد دلت الآية الكريمة على أن الخالق واحد، والنفس الإنسانية واحدة، كما وجهت أيضًا الخطاب للناس جميعًا؛ لأنه في شأن عالمي إنساني، وليس خاصًّا بمجتمع إقليمي أو زمني.
ويقول الله تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: من الآية: 213) فهذه الآية تبين أن الإنسانية أمة واحدة، وقد قرر الله تعالى أن الناس جميعًا أمة واحدة، وأن الاختلاف عارض ومنشأه الأهواء، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بالهداية؛ ليحكموا بأمر الله تعالى في هذا الاختلاف؛ وليبينوا لهم طريق الهداية، فيسلكه من تغلب على هواه، ويضل الآخر ويشقى.
ويقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} (الروم: من الآية: 22) فهذه الآية تبين أنه لم يكن اختلاف اللغات والألوان بمانع من الوحدة الإنسانية الجامعة؛ بل إن هذا الاختلاف من سنن الله تعالى في خلق الإنسان، إذ جعل فيه قوة يتكيف بمقتضاها مع بيئته، ويتجاوب، ويقول الحق تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) أي: أنكم جميعًا منحدرين من أب واحد، ومن أم واحدة، فلا فضل لأحدكم على الآخر بحسب عنصره، وطبيعته، وإذا كان الله قد جعلكم شعوبًا وقبائل فإنه لم يجعلكم كذلك لتفضيل شعب على شعب؛ أو قبيلة على قبيلة، وإنما ليكون ذلك وسيلة للتعارف.
وبمعنى آخر: فإن هذه الآية تبين أن اختلاف الناس شعوبًا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا، أو يختلفوا، ولكن ليتعارفوا، ويتعاونوا، وهذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان، وهذا لا يتحقق إلا بالتعاون والتعارف الإنساني.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم مقررًا هذا الأصل: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم حمية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب)).
ثم كان هناك أيضًا وحدة التكاليف: الوحدة الإنسانية تقتضي وحدة التكاليف؛ لأنه لما كان الإسلام دعوة عالمية، فإنه بشأن التكاليف تتجه أوامر القرآن ونواهيه إلى الناس كافة، فلا تختص بها أمة دون أمة، أو جنس دون جنس، بل يطالب بهذه الأوامر جميع الأجناس والطوائف، دون نظر إلى ما بينهم من فوارق شخصية: كذكورة وأنوثة، وبياض وسواد؛ أو فروق اجتماعية: كرئاسة ومرءوسية، وحاكمية ومحكومية، وغنى وفقر، وفي هذا المعنى يقول الله تبارك وتعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (النساء: 123).
فالجميع على مستوى من المسئولية أمام الله، وأمام المجتمع.
ومما تجب ملاحظته أن الوحدة الإنسانية تقتضي وحدة التكاليف لجميع البشر؛ فالله سبحانه وتعالى أمر الناس جميعًا بالتقوى، والإذعان لدينه، فالتكاليف الشرعية واحدة لجميع البشر، وذلك واضح في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: من الآية: 1) والرسالة المحمدية رسالة عالمية، دعوة إلى جميع الإنسانية لهداية الناس جميعًا.
ثم نتحدث الآن عن وحدة الدين، فنقول:
والوحدة الإنسانية تقتضي وحدة الدين؛ فالشريعة الإسلامية امتداد للشرائع السابقة، فكل شريعة كانت مناسبة للزمان والمكان الذي أرسلت فيه، حتى إذا بلغت البشرية حدًّا من الاستعداد والحاجة إلى شريعة خاتمة كانت الشريعة الإسلامية؛ والرسالات السماوية تلتقي جميعًا في الأسس العامة، أما التفصيلات فإنها تختلف باختلاف ظروف كل شريعة، وفقًا للزمان والمكان الذي ظهرت فيه، والإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، منذ وجد الإنسان على وجه الأرض، يقول تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} (آل عمران: من الآية: 19) فالأصول الكلية واحدة يقول تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13).
والدين هو الإسلام لدى الأنبياء جميعًا، يقول تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67) وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132، 133) والإسلام يأمر بالإيمان بجميع الرسل والأنبياء السابقين، يقول تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136).
فالشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع السماوية، جاءت لسعادة البشرية التي كانت متعطشة إليها؛ لإنقاذها مما تعانيه، وإخراجها من ظلمات الجهالة إلى نور الهداية
واليقين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((مثلي ومثل الأنبياء قبل كمثل رجل ابتنى دارًا، فأحسنها، فأكملها، إلا في موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: فأنا موضع تلك اللبنة، جئت فختمت الأنبياء)).
ثم نتحدث بعد ذلك عن الأمور التي يشترك فيها الناس جميعًا وهي: وحدة المصير، فنقول:
وإلى جانب وحدة التكاليف، ووحدة الدين للإنسانية جميعًا، فإن المصير واحد؛ فالناس كلهم واحد في أطوار حياتهم، وفي نهايتهم، يقول تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (الحج: من الآية: 5).
وهكذا وجدنا أن الوحدة الإنسانية من الأسس التي تقوم عليها العلاقات في الإسلام؛ سواء كانت العلاقات فردية، أو جماعية، أو دولية، ولا شك أن شعور الفرد أو الجماعة أو الدول بأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا من حيث المنشأ والمصير؛ يدعوها إلى أن تكون العلاقات بينهم علاقات وطيدة الدعائم، مما يقوي الأواصر، ويدعم الروابط في شتى مجالات الحياة.
ومن الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام: الصلة الإنسانية، وفي ذلك نقول:
ينظر الإسلام إلى البشر على أنهم أمة واحدة، ينتمون جميعًا إلى آدم عليه السلام فلا يمنع من وجود صلة قائمة على الإنسانية؛ فالله- عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، يقول تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} (النحل: من الآية: 90).
والقرآن الكريم أجاز مودة من لم يقاتلنا في الدين من غير المسلمين، ولم يخرجنا من ديارنا، ولم يظاهر على إخراجنا، فيقول تبارك وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8، 9) والآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، فيُروى عنها رضي الله عنها أنها قالت:((قدمتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة -أي: راغبة في زيارتي- أفأصلها؟ قال: نعم، صِلِي أُمُّك)) على الرغم من أن هذه الأم لم تكن مسلمة، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلتها.
وقال الجصاص في (أحكام القرآن) في تفسير قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} : هذا عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة، إذ ليس هم من أهل قتالنا، والإسلام يدعو إلى هذه الصلة الإنسانية، والنبي صلى الله عليه وسلم قام بزيارة غلام لجاره اليهودي؛ فقد روي عن أنس:((أنَّ غلامًا -من اليهود- كان قد مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَعُوُدُه في هذا المرض، فقعد عن رأسه، فعرض عليه الإسلام، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم الولد، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)).
وكان صلى الله عليه وسلم يجيز وفود المشركين، ويتأَلَّف كبارهم، ويلين لهم القول، وكان يقول:((إذا جاءكم كريمُ قوم فأكرموه)).
وأيضًا من ضمن المبادئ التي قامت عليها العلاقات الدولية في الإسلام: المساواة بين الناس، وفي ذلك نقول:
اهتم الناس بالمساواة، وقدروا من يدعوا إليها، ويعمل بها، وكان ذلك راجعًا إلى ما رأَوه من ظلم القوي للضعيف، بما جُبلت عليه النفوس من الكبرياء، والتعالي، والأثرة، واغتصاب الحقوق، ومن ثمَّ كان من أهم ما اهتمت به الأديان هو الحد من ذلك الظلم، والحيلولة بين الناس وبين
اغتصابهم للحقوق، وتلك أيضًا كانت وظيفة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- لقد تصادمت الطبيعة البشرية الميالة للتكبر واغتصاب الحقوق مع الأديان والرسل من قديم الزمان؛ مما جعل حياة الرسل والداعين بدعوتهم سلسلة من المتاعب الكثيرة.
وقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان نظام الطبقات يسود العالم بصورة شائعة وقاسية، فقد نشأ هذا النظام في الحياة الاجتماعية والسياسية على السواء، فالرومان كانوا يقسِّمون الناس إلى أحرار وغير أحرار؛ فالأحرار يتمتعون بكل الحقوق، وغير الأحرار يحرمون من التمتع بأي حق من الحقوق، ولم تكن الجزيرة العربية أسعد حالًا، بل كان الرق أحد العوامل السائدة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ نتيجة للغارات، والحروب المتوالية، وكان الرق بابًا من أبواب التجارة الرابحة، فلما جاء الإسلام لم يقر هذه الأوضاع، فكما حرر الإنسان في فكره وعقيدته، حرره من عبوديته لسادته ولغيرهم، وهذه النزعة العادلة هي القيمة التي دافع عنها الحكام، وطبقها القضاة بين الناس.
لقد جاء الإسلام بنظرية المساواة التامة، حيث قرر المساواة بين الناس جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، فهم متساوون في الحقوق والواجبات، وذلك في النظام الذي رسمه التشريع الإسلامي، وقد حرص الإسلام على تقرير هذه المساواة في أكمل صورها، وجعلها من العقائد الأساسية، التي يجب أن يدين بها كل مسلم، واستنكر الإسلام معاملة الناس معاملة متفاوتة، وندد بالتفرقة العنصرية، قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4) وهذه المساواة التي نادى بها الإسلام تشمل الناس جميعًا، دون نظر حتى إلى الدين الذي يعتنقونه.
فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُهدر أيَّ تفرقة بين مسلم وغير مسلم، ويتضح هذا عندما أمر أن يقتص أحد أقباط مصر من ابن عمر بن العاص -والي مصر- عندما ضربه.
وقد رُوي أن محمد بن عمرو بن العاص ضرب مِصريًّا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصريَّ؛ مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت المصري من محبسه ذهب إلى المدينة، وشكا لعمر بن الخطاب ما أصابه، فاستبقاه عمر بن الخطاب -المصري- في المدينة.
واستقدمَ عمرو وابنه من مصر، أي: طلب من عمرو بن العاص وابنه أن يأتيا إليه في دار الخلافة، ودعاهما إلى مجلس القصاص، فلما مثُلا فيه، نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة -وهي: عصا يَضرب بها، أي: خذ الدرة فاضرِبْ بها ابنَ الأكرمين- فضرب المصري محمدًا حتى أثخنه، وعمر يقول: اضْرِبْ ابنَ الأكرمين فلما فرغ الرجل، وأراد أن يرد الدرة إلى أمير المؤمنين قال له: ضعها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه، قال عمرو: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت، واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربتُ من ضربني، وقال عمر: إنك والله لو ضربتَه ما حُلنا -أي: ما منعناك- بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمرو غاضبًا، وقال: أي يا عمرو، متى تعبَّدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا؟!
وقد طبق قضاة المسلمين مبدأ المساواة في قضائهم إلى أقصى حد ممكن؛ فقد روي أن علي بن أبي طالب افتقد درعًا -وكان في ذلك الوقت خليفة للمسلمين- فوجدها عند نصراني في السوق، فذهب علي بن أبي طالب إلى قاضي المسلمين شريح، يخاصم النصراني في الدرع، ويقول:"إنها درعي، ولم أبِع، ولم أهَب" يعني: ما بعتها، ولا وهبتها، ويسأل القاضي شريح النصراني، ويقول له: ما
تقول فيما ذكر أمير المؤمنين؟ فيقول النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فيلتفت شريح إلى علي يسأله، يا أمير المؤمنين: هل عندك بينة؟ هل عندك شهود على أن هذا الدرع إنما هو لك؟ فيقول علي: "أصاب شريح، ما عندي بينة" فيقضي شريح بالدرع للنصراني، فيأخذها، وينصرف، وأمير المؤمنين ينظر إليه، ولا يستطيع أن يقول شيئًا.
ومن المبادئ العامة أيضًا التي كان أساس العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم هو: التعاون الإنساني، وفي ذلك نقول:
لا يستطيع إنسان أن يقوم بكل ما يحتاجه لنفسه بنفسه، فلا بد أن يستعين بغيره، كما يستعين به غيره؛ فالإنسان جزء من البيئة والمجتمع، يؤثر ويتأثر، ويتفاعل مع غيره، كما يتفاعل غيره به؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، ومادام الناس ينتمون إلى أصل واحد، فذلك أدعى إلى التعاون؛ واختلاف الناس شعوبًا وقبائل لم يكن من أجل أن يتصارعوا، ولكن ليتعارفوا، والتعارف لا يكون إلا بالتفاعل الإيجابي، يقول ربنا سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) والتعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية، يدل على ذلك قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: من الآية: 2).
والتعاون قوام الأسرة، وقوام الأمة، فلقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل والقول إلى التعاون في علاقة الدول بعضها بالبعض؛ ومما يدلل على ذلك: أنه عندما جاء إلى المدينة عقد مع اليهود حِلفًا أساسه التعاون على البر، وحماية الفضيلة، ومنع الأذى، وكان يطلق على هذا الحلف:"الصحيفة" وقد تضمنت هذه الصحيفة الكثير من الأحكام التي تبين كيفية تحقيق التعاون بين المسلمين واليهود؛ كما عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل العرب معاهدات، مبعثها التسامح، وروحها الرحمة، منها صلح الحديبية، وقد عقد تعاونًا دوليًّا في مجال الزراعة مع يهود خيبر، حيث أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرضهم، ولهم نصف ما يَخرُج منها من ثمر أو زرع.