الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البطون القرشية بعد موت قصي بن كلاب الذي كان يهيئ الطعام للحجاج مما تقدمه له قريش، وكان موضوع الحلف هو توزيع الخدمات للحجاج على كل قبيلة من سقاية، ورفادة، ولواء، وندوة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة)) -يعني: يريد المعاقدة على الخير، وتأمين موارد الحجيج، ونصرة الحق، وكانت هناك معاهدات تجارية متعددة بين العرب، والأوربيين منها معاهدة سنة 913 هـ بين أمير بادس في المغرب، وبين أهالي البندقية التي تسمح للبنادقة بالنزول في بادس، والاتجار مع أهلها، وتؤمنهم على أنفسهم، وأموالهم، وتسامحت السلطات الإسلامية كثيرًا مع التجار.
وكانت التجارة من أسباب نشر الإسلام في شرق أسيا وأفريقيًا، لكن مع وضع بعض القيود على المبادلات التجارية لمنع إخراج الأسلحة، ووسائل الحرب من بلاد المسلمين، وحذر شراء واستيراد الخمور والخنازير، وسائر المنكرات، سواء من مسلم، أو غير مسلم، وما عدا ذلك يجوز تبادلهم؛ حتى في أثناء الحرب؛ كالأطعمة، وسائر الأقوات، والثياب، والأقمشة، والمواد الخام غير المعدنية، والمواد الكيماوية، والمنتجات الزراعية، والصناعية -غير الحربية- إلى أخره.
أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية
ثم نتحدث الآن عن تنظيم المعاهدة، وآثار المعاهدة، فنقول: يحتاج تنظيم المعاهدة إلى إجراءات كثيرة، ومشاورات جادة وعميقة، وتقدير أوضاع الطرفين المتعاهدين لما لها من أهمية كبرى، ولأنها تصبح بمثابة قانون، أو نظام يلزم الطرفين، ويرتب أثارًا مهمة في علاقاتهما، ومعاملاتهما، كما تؤثر المعاهدة على الأشخاص، أو الرعايا العاديين في كل بلدٍ من بلدان الجانبين.
وقد مرت المعاهدات بمراحل في العهد النبوي تشبه المراحل التي تعقد بها المعاهدات في العصر الحديث، والبحث يتناول ما يأتي من شئون المعاهدة:
أولًا: كيفية إبرام المعاهدة، أو شكل المعاهدة: لم تكن المعاهدة في الإسلام تخضع لتنظيم إجرائيٍ معين -كما هو مطلوب اليوم قانونا بين الدول- لأن جوهر المعاهدة يحدد بإرادة الأطراف الحرة، ولكن لا مانع شرعًا في تقديري من اتباع المراسم الشكلية الحديثة؛ لأن المعول عليه هو المضمون الموضوعي، وقد اشترط الفقهاء المسلمون ضرورة إقرار الخليفة، أو الإمام لعقود الصلح المعقودة بواسطة قائد حربي غير مفوض لإبرام الصلح، وكان المفوض بالصلح يبلغ الخليفة بما تم فيقره على فعله إذا كانت شروط المعاهدة شرعية، كما حدث في عقود الصلح التي أبرمها أبو عبيدة بن الجراح في الشام، وغيره من القادة، وكانوا يبلغون به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فإن تولى الخليفة نفسه عقد المعاهدة -كما فعل عمر مع مصالحة أهل بيت المقدس- نفذ الصلح على المسلمين؛ لأن الخليفة ممثل الأمة، ونائبها في إبرام المعاهدة، وحرصًا على المعاهدة وتقديمها؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة جميع المحالفات، والمعاهدات بإثبات الاتفاق، وتنفيذ شروط المعاهدة، كما حدث في كتابة أول معاهدة سياسية في المدينة مع اليهود، وكما حصل فعلًا في كتابة صلح الحديبية التي سبقت بمفاوضاته عن طريق الرسل، والسفراء من الجانبين.
وتبتدئ حالة السلام بمجرد الانتهاء من العقد والاتفاق على شروط المعاهدة، وليس بعد إعلان المعاهدة رسميًا، وتبادل التصديقات كما يقضي القانون الدولي المعاصر.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على المعاهدة، كما فعل في صلح الحديبية؛ حيث أشهد على الصلح رجالًا من المسلمين، ورجالًا من المشركين لتوثيق المعاهدة، ولا مانع
شرعًا من كتابة المعاهدة بلغتين، أو أكثر، كما هو الحاصل في الوقت الحاضر، وكانت المعاهدات الإسلامية تشمل العناصر الثلاثة التالية:
1 -
الديباجة أو المقدمة، وتبدأ عادة -كما لاحظنا في نماذجها- بالبسملة وهي:"بسم الله الرحمن الرحيم" ويعين فيها أسماء الطرفين المتعاهدين ومندوبيهم أو ممثليهم في التفاوض، ويذكر أيضًا تاريخ المعاهدة.
2 -
النص، ويتضمن أحكام المعاهدة، وموضوعها بعبارات موجزة، وبدون تقسيم، أو ترقيم لبنودها، كما هو شأن المعاهدات الحديثة.
3 -
الخاتمة، ويذكر فيها أسماء الشهود، وتوقيعاتهم، أو أختامهم، كما تذكر أسماء أطراف المعاهدة أو ممثليهم، وأختامهم، وتختم بعبارة تفيد الحث على الوفاء، والتشدد في احترام المعاهدة، وتسبق المعاهدة عادة بمرحلة التفاوض، ثم تبدأ مرحلة الكتابة والتحرير، ثم التوقيع والتصديق.
والتفاوض قد يكون بالخليفة نفسه، أو نائبه إذا كانت المعاهدات ذات أهمية؛ كأن يتصل موضوعها بمهادنة جيوش الأعداء، وقد يكون الأمير، أو الوالي، أو قائد الجيش ذاته، أو من يفوض لذلك إذا كانت المعاهدة أقل أهمية.
وقد يعرض الجانب غير المسلم بنود المعاهدة وشروطها، ويرسلها الوالي المسلم -يعني: يرسلها إلى الخليفة لإقرارها أو تعديلها، ثم تتم المعاهدة، كما حدث من زعيم مدينة السوس، التي كان يحاصرها أبو موسى الأشعري؛ فإنه قدم رسالة إلى أبي موسى الأشعري يطلب فيها الأمان، ثم أرسلها أبو موسى إلى عمر؛ فقبل عمر على ذلك، وعاهدهم على ذلك.
شروط المعاهدة:
تعقد المعاهدات بين المسلمين، وغيرهم بإرادة حرة من الجانبين؛ لتحقيق غرض مشروع، وممكن يتفق مع الأصل المنشود في علاقة المسلمين بغيرهم -وهو السلم- وهذا يعني: أنه لا بد للمعاهدة من توافر شروط معينة، وهي ما يأتي:
1 -
أهلية التعاقد: وهي أن يكون العاقد بالغًا عاقلًا رشيدًا مختارًا مسلمًا؛ فلا يصح العهد من صبي غير مميزٍ، أو مجنون، أو سكران، أو سفيه، أو مكره، أو غير مكره، ويجوز أمان الأنثى شرعًا لقوله صلى الله عليه وسلم:((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) ويصح أمان الصبي المميز عند الأئمة مالك، وأحمد، ومحمد بن الحسن، دون غيرهم من الأئمة؛ للحديث السابق:((ويسعى بذمتهم أدناهم)).
ويشترط أيضًا صحة التفويض إذا كان عاقد العهد هو غير الخليفة، أو الإمام؛ فيجب أن يفوض الخليفة تفويضًا خطيًا، أو شفهيًا بالنيابة عنه بإبرام العقد عن دار الإسلام مع دولة أخرى، أو شعبٍ آخر، والأصل أن يكون العهد العام لجماعة كثيرة، أو شعبٍ، أو ولاية، ينبغي أن يكون ذلك، أو الأصل في ذلك أن يكون هذا العهد من الخليفة، أو نائبه، لكن له تفويض قائد الجيش، أو الوالي في إبرام الصلح مع العدو.
وللإمام الرقابة على التأمينات الصادرة من الأفراد بما له من الولاية العامة، ودفعا للضرر عن رعايا دار الإسلام من مسلمين، وذميين؛ إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام؛ فلا يصح أي تصرف فردي يتنافى مع المصلحة العامة، أو يتعارض مع الأصل العام في صحة الأمان؛ فإن الأمان لا يلزم الوفاء به، إلا إذا كان موافقًا مقتضى النظر الشرعي؛ لجميع الرعية من جلب المصالح، ودفع المضار.
ورقابة الإمام لدفع الضرر نوعان: رقابة خاصة، ورقابة عامة.
أما الرقابة الخاصة:
فتظهر فيما إذا تجاوز الشخص الصلاحيات الممنوحة له؛ كتأمين أهل حصنٍ، أو إقليم، أو بعد نهي الإمام عن التأمين؛ فيخير الإمام حينئذٍ بين إمضاء الأمان، أو رده ونقضه.
وأما الرقابة العامة:
فهي تبدو في كل أمانٍ يصدر من الأفراد، وعلى التخصيص، أمان المرأة، والعبد، والصبي، ونحوه.
ومن شروط المعاهدة أيضًا: التراضي، أو الإرادة الحرة السالمة من العيوب:
تتطلب المعاهدة -كأي عقد مدني لانعقادها وصحتها- الرضا، والاختيار من الجانبين المتعاقدين، والخلو من أي عيب من عيوب الرضا كالإكراه، والتدليس، والغرر؛ لأن التعبير عن الإرادة يجب أن يكون حرًا، واستقرار السلم لا يتحقق بدون الرضا، والاختيار، وعدم التدليس، والغلط؛ فلا تعتبر المعاهدة -الصادرة على أساس الإكراه، أو القهر، والغلبة، أو الخداع- لا تعتبر، ولا يعتد بها لمنافاة ذلك لمقتضى التعاقد.
ومن شروط المعاهدة أيضًا: وضوح المعاهدة:
يشترط أن تكون المعاهدة، واضحة النصوص، بينة الأهداف، تحدد الحقوق، والالتزامات، أو الواجبات تحديدًا لا يحتاج إلى التأويل والتلاعب بالألفاظ؛ فلا تستخدم العبارات التي فيها تورية، أو خداع، أو غش، أو غموض، والتواء،
كما يفعل ساسة اليوم؛ مما يوقع في الارتباك، ويحتاج إلى تفسير المعاهدة بالتحكيم، أو القضاء الدولي، وذلك يؤدي غالبًا إلى إحباط أهداف المعاهدة، وإضاعة الحقوق المشروعة، ونقض ما تم إبرامه؛ بسبب بطء القضاء، وسوء نية الدول المتحضرة.
ولقد حذرنا القرآن الكريم من مكر الأعداء فقال عز وجل: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: من الآية: 102) وقال أيضًا: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: من الآية: 94) وكانت معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم كصحيفة وثيقة المدينة يعني: كالصحيفة، أو الوثيقة التي عقدها مع اليهود عندما ذهب إلى المدينة بعد الهجرة، وكصلح الحديبية، ونحوهما- في غايةِ الإبانة.
أقول: كانت هذه المراجعات في غايةِ الإبانة، والوضوح، وتجنب كل ما يؤدي إلى وعورة الطريق في المستقبل، عند التنفيذ.
ونتكلم عن مدة المعاهدة فنقول: يبدأ تنفيذ المعاهدة عادة في الإسلام بمجرد الاتفاق عليها، دون حاجة إلى كتابتها، أو التوقيع، أو إعلانها، والتصديق عليها إذا صدرت ممن يفوض له عقد المعاهدة نيابة عن الدولة بدليل تنفيذ معاهدة الحديبية، ورد من جاء إلى المسلمين -كما بينا قبل إتمام المعاهدة.
وإذا نص -في المعاهدة- على تاريخ معين لبدء سريان مفعولها أصبحت نافذة المفعول من ذلك التاريخ، وأما انتهاء العمل بالمعاهدة شرعًا؛ فينص عليه عادة، وتنتهي المعاهدة بانتهاء المدة المتفق عليها لقوله تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (التوبة: من الآية: 4).
ومقدار مدة المعاهدة يختلف بحسب نوعها بدءًا، وانتهاءً؛ فبالنسبة لمدة الأمان مثلًا؛ يبدأ الأمان بعلم المستأمن بإيجاب المؤمن وتأمينه -عند جمهور الفقهاء- وبحصول القبول -عند الشافعية- وينتهي بحسب المدة المتفق عليها.
وللفقهاء أراء في الحد الأقصى للأمان؛ فيقول الشافعية والمالكية: مدة الأمان -الهدنة- لا تزيد على أربعة أشهر إذا لم يكن المستأمن سفيرًا، أو رسولًا سياسيًا؛ فتنتهي مدته بانتهاء مهمته، وذلك في حالةِ توافر القوة للمسلمين.
أما إن كانوا في ضعفٍ؛ فينظر الإمام في تقدير المدة، ويجوز له حينئذٍ مد أجل الأمان إلى عشر سنوات كالهدنة، وإن أطلق الأمان عن التوقيت حمل عن أربعة أشهر، وهذا كله في أمان الرجال، أما النساء؛ فلا يحتاج في أمانهن إلى تقييد مدة، وإذا انتهت مدة الأمان؛ يبلغ المستأمن مأمنه، وقال الحنفية: والشيعة الإمامية، والزيدية: إن مدة الأمان لا تبلغ سنة؛ حتى لا يصير المستأمن عينًا -أي: جاسوسًا- على المسلمين، وعونًا عليهم، ودليلهم مراعاة الضرورة أو الحاجة.
ووسع الحنابلة أكثر من غيرهم؛ فأجازوا عقد الأمان بدون دفع جزية لكل من المستأمن، والرسول السياسي مطلقًا، أو مقيدًا بمدة، سواء كانت المدة طويلة أم قصيرة، بخلاف الهدنة؛ فإنها لا تجوز إلا مقيدة.
وننتقل إلى مدة الهدنة، تكلمنا عن مدة الأمان، نتكلم الآن عن مدة الهدنة فنقول:
اتفق الفقهاء على أن تكون الهدنة مقدرة بأجل معين، فلا تصح المهادنة مطلقًا إلى الأبد، إنما هي عقد مؤقت، كي لا يؤدي إلى تعطيل الجهاد، ولا يجوز في رأي جماعة من الفقهاء أن تزيد عن عشر سنوات كالمدة التي في صلح الحديبية، إلا
أن الشافعية نصوا على أن تأقيت الهدنة هو بالنسبة لنفوس الرجال، أما الأموال؛ فيجوز العقد عليها مؤبدًا، ويصح المهادنة مع النساء من غير تقيد بمدة.
وأجاز أبو حنيفة، وأحمد أن تزيد المدة عن عشر سنوات؛ حسبما تقتضي الحاجة ذلك؛ لأنهم يقولون: أن المدة المذكورة في صلح الحديبية هي عشر سنوات ليست هي الحد الأدنى، وإنما هي حالة من الحالات لعموم قوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويمكن التوفيق بين الرأيين بناءً على فكرة المعاهدات المؤقتة القابلة للتجديد بتحديد عشر سنوات، نقول: تتجدد تلقائيًا عند الحاجة، إلا إذا أبلغ أحد الطرفين الآخر بعدم رغبته في التجديد.
وبالنسبة للمدة لعهد الذمة، أو عقد الذمة نقول: إن عقد الذمة، أو الجزية هي معاهدة سلمية دائمة -يعني: هي قائمة على التأبيد هذا العقد قائم على التأبيد- فهو معاهدة سلمية دائمة مع غير المسلمين للاستيطان في أرض الإسلام؛ لأن الله تعالى غاية القتال الوصول إلى قبول المعاهدة مع المسلمين؛ فقال -سبحانه-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: من آية: 29) والمراد من الصغار التزام أحكام الإسلام، والمقصود من إعطاء الجزية -بالإجماع- هو القبول والالتزام؛ فعقد الذمة لا مدة له، وإنما هو بطبيعته عهد دائم، أو صلح دائم لا ينتقض إلا بما يخل بمقصوده، أو يتنافى مع أغراضه، أو بمحاربة الذميين للمسلمين، أو عدم الالتزام بالأحكام الإسلامية.
ونتكلم الآن عن انضمام الغير للمعاهدات فنقول:
هناك في عصرنا في عالم القانون الدولي نوعان من المعاهدات: معاهدات مقفلة، ومعاهدات مفتوحة.
أما الأولى: فهي التي لا تحتوي على نصٍ يبيح انضمام الدول الأخرى إليها فيما بعد؛ فيلزم لانضمام الغير حصول مفاوضات مع أطراف المعاهدة الأصليين، مثل معاهدة السوق الأوربية المشتركة.
وأما الثانية: وهي المفتوحة؛ فهي التي تحوي نصًا يبيح انضمام الغير إليها مثل: ميثاق الأمم المتحدة، والنوعان معروفان في الإسلام.
فالمعاهدات المقفلة مثل الأمان العام لأهل بلدٍ أو إقليم، وعقد الذمة لجماعة من غير المسلمين الذين يقبلون جنسية الدولة المسلمة، وعقد صلح مؤقت أو الهدنة قد يكون من هذا النوع، وربما يكون من النوع المفتوح، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي مكة كان من نوع المعاهدات المفتوحة؛ إذ أنه ورد نص في هذا الصلح يبيح الانضمام إليه هو: "من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده؛ دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم؛ دخل فيه، وهذا نص واضح يبيح لباقي قبائل العرب الانضمام إلى جانب أحد المتعاقدين.
ثم نتكلم عن موضوع المعاهدة، وآثرها، فنقول:
يشترط فقهاء القانون الدولي أن يكون موضوع المعاهدة ممكنًا، ومشروعًا، ومشروعيته إذا كان ما يبيحه القانون، وتقره مبادئ الأخلاق، واشترط فقهاء الإسلام في موضوع المعاهدة ما يأتي:
أولًا: أن تكون المعاهدة متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية لا تصادم مبدءًا من مبادئها لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل)) وقوله: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)) وقوله: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد)).
ومن الشروط أيضًا: تحقيق المصلحة الإسلامية: يشترط أن يكون في عقد المعاهدة مصلحة للمسلمين والإسلام؛ فلا بد من توافر المصلحة المشروعة في عقد الصلح، وإلا لم يجز العقد -كما قال فقهاءنا- والمصلحة المشروعة في الهدنة -أي: الصلح المؤقت- إما احتمال اعتناق الإسلام، أو إقرار السلام، وتبادل العلاقات الاقتصادية، أو الانضمام إلى دار الإٍسلام، أو دفع الضرر عن المسلمين، وغير ذلك.
ويشترط أيضًا: كون المعاهدة بتراضي الطرفين كما أوضحنا.
ويشترط أيضًا: توافر النية الحسنة لدى الطرفين؛ لأن شرط النية الحسنة مطلوب لصحة المعاهدة في الإسلام، بحيث تبطل المعاهدة إذا تم عقدها بدافع الغش، وسوء النية، لقوله تعالى:{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} (النحل: من الآية: 94) والدَّخَل هنا هو العيب الخفي الذي يدخل الشيء فيفسده.
وأما آثار المعاهدة فتختلف بحسب نوعها، ومدتها؛ فهي تظل سارية المفعول طوال المدة المتفق عليها ما لم ينقضها العدو، وتختلف آثارها بحسب نوعها؛ فإن كانت أمانًا خاصًا؛ اقتصر أثرها على عصمة دم المستأمن وماله وأولاده الصغار وزوجته، وإن كانت أمانًا عامًا لإقليم أو بلد؛ شملت جميع من كان هناك، وإن كانت هدنة فتقتصر على المهادنين، وإن كانت عقد ذمة؛ فتشمل جميع الذميين.
ويترتب على المعاهدة: إنهاء الحرب، وإقرار السلام، وعصمة النفوس، والدماء، والأعراض، والأموال، ويعيش الطرفان بأمان، وودٍ، وسلام، واطمئنان.
ويلتزم كل من الجانبين بتنفيذ أحكام المعاهدة، وشروطها بحسن نية؛ لأن المعاهدة تنشأ وضعًا قانونيًا يتمثل في واجبات، وحقوق للطرفين المتعاقدين.
ثم نتكلم الآن عن انقضاء المعاهدة: فالمعاهدات تنقضي بالحالات الآتية:
منها -على سبيل المثال- انتهاء مدة المعاهدة، ومنها الإخلال بشروط المعاهدة، ومنها الاعتداء من أحد الطرفين على الطرف الآخر، ومنها ارتكاب بعض الجرائم الخطيرة من العدو، ومنها أيضًا نقض المعاهدة من جانب الأعداء؛ فإذا وجدت هذه الأمور؛ ترتب على ذلك انقضاء المعاهدة.
وبهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن المعاهدات، وآثارها في الفقه الإسلامي، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.