الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما في الواقع فكان يشتمل على كل هذه العناصر، ويدخل في كافة أوجه النشاط، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد الأهداف الرئيسية ويبلغها لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ليقوم بتنفيذها، فكان عليه الصلاة والسلام يضع البرامج والسياسات، ويعهد إلى أصحابه بدراستها، ثم يشاورهم فيها، ويستمع إليهم في كل ما يبدون من ملاحظات.
وتجلى هذا عبر مراحل التاريخ الإسلامي، بدءًا من نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى التخطيط الواعي الدقيق لتنظيم الدولة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي أعطى للبشرية أمثلة عملية على عظمة التخطيط الإسلامي في كافة صور التخطيط إداريًا أم حربيًا أم اقتصاديًا أم اجتماعيًا.
وسنكتفي في هذا البحث بالحديث عن التخطيط الإداري، أما المجالات الأخرى فلا يتسع المجال للحديث عنها.
التخطيط الإداري يستهدف التخطيط تحقيق نتائج محددة، وكل الخطط إنما ترمي أساسًا إلى الوصول إلى الأهداف المرجوة، وبمعنى آخر فإن التخطيط هو الوسيلة التي يلجأ أو تلجأ إليها الإدارة للانتقال من الموقف السائد إلى الموقف المستهدف، ويتوقف نجاح الخطة على حسن اختيار الأهداف والقدرة على توصيفها التوصيف الدقيق، ويعد التخطيط للأهداف من أهم أنواع الخطط الإدارية، وسنرى تطبيقًا إسلاميًّا للتخطيط الإداري من خلال نماذج ثلاثة:
الأول:
التخطيط لنشر الدعوة
الإسلامية.
النموذج الثاني: التخطيط للهجرة.
النموذج الثالث: تخطيط الحياة المدنية بعد الهجرة.
نكتفي بهذا القدر من هذه المحاضرة، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 -
المنهج الإسلامي في التخطيط
التخطيط لنشر الدعوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فقد انتهينا في المحاضرة السابقة عن الحديث عن توجيهات الفكر الإداري الإسلامي، وبدأنا الحديث عن المنهج الإسلامي الإداري، وبينا أن هذا المنهج قد يكون في التخطيط، وقد يكون في التنظيم، وقد يكون في الرقابة.
ونتكلم الآن عن التخطيط لنشر الدعوة الإسلامية، فنقول:
إن القرآن الكريم قد حدد أهداف الدعوة في التوحيد، ونقل الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، وكان تحديد الهدف هو أول عناصر الخطة الإسلامية
التي آزرت العناية الإلهية الرسول صلى الله عليه وسلم في استكمال مقوماتها، ووضع خطوطها، فاستخدم كل الإمكانيات المتاحة، وراعى كل الاحتمالات المستقبلية، فجاءت خطته محكمة الأغراض، واضحة المعالم على النحو التالي:
من أولى هذه المعالم للتخطيط لنشر الدعوة: أن يبدأ الدعوة صلى الله عليه وسلم سرًّا بين أهله وعشيرته، فقد ظلت هذه المرحلة قرابة ثلاث سنوات كانت الإمكانيات المتاحة لا تسمح بغير سرية الدعوة، حيث كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحده لا تؤازره غير العناية الإلهية، وسط مجتمع يموج بالظلم والظلمات، ويرزح تحت وطأة العبودية للأصنام شعاره البقاء للأقوى، وحركته تقوم على المصلحة الشخصية، ولو على حساب صالح المجتمع، وكانت محاولة الرسول عليه الصلاة والسلام مواجهة هذا المجتمع وحده جهرًا منذ أيام الدعوة الأولى، كان ذلك شيئًا يخرج عن حدود المنطق والعقل، ومن ثم شاءت الحكمة الإلهية أن تظل الدعوة خلال هذه الفترة سرًّا حتى يجد الرسول عليه الصلاة والسلام من أهله وعشيرته من يقف بجانبه، ويمد له يد العون، وكانت المعرفة بطبيعة هذا المجتمع، واختيار الوقت المناسب لمواجهته من أهم عوامل نجاح الدعوة الإسلامية، كما أن هذه السنوات الثلاث كانت كفيلة بأن يمتلئ الرسول صلى الله عليه وسلم بحب الدعوة، ويتشبع بعظمة الرسالة التي كلّف بها حتى إنه قال لعمه أبي طالب قولته المشهورة:((والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه)).
ونتحدث الآن عن ثاني هذه المعالم للتخطيط لنشر الدعوة، وهو الجهر بالدعوة، فنقول:
بعد ثلاث سنوات من التمهيد، والإعداد للدعوة الإسلامية جاء الإذن من الله سبحانه وتعالى لرسوله بالجهر بالدعوة في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ
الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: الآية 94) وتوالت الآيات تقوي العزم، وتهدي الخطى، يقول تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 214: 216).
وقد نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستفادة من كل الإمكانيات المتاحة خلال هذه المرحلة، أموال زوجته خديجة، وحماية عمه أبو طالب، وجهود أصحابه الذين آمنوا به أمثال أبي بكر وعلي وبلال، وغيرهم، كما أنه حاول الاستفادة من وفود القبائل العربية؛ لزيارة بيت الله الحرام، فبدأ يجهر بدعوته بينهم، وكان العرب بطبيعتهم أقرب لهذه الدعوة من أهل مكة الذين سيطرت عليهم مباهج الحياة وزخارفها، فاستجاب منهم الكثير، وصاروا أنصارًا للإسلام، كما أنه عليه الصلاة والسلام، واجه الصعوبات التي كان يدرك تمامًا أنها ستعترض دعوته وخطته، مواجهة القائد الشجاع أي: أنه واجه هذه المشكلات مواجهة القائد الشجاع، وصاحب الرسالة المؤمن برسالته، وكانت آيات القرآن، تتنزل بين الحين والحين؛ لتشد أزره، وتقوي عزمه، يقول تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: الآيتان: 128،127).
وثالث المعالم للتخطيط لنشر الدعوة الإسلامية: الدعوة بالإقناع والموعظة الحسنة، فلو أن رجلًا غير محمد صلى الله عليه وسلم ينتمي إلى قبيلة من أعرق قبائل مكة، ويدرك أنه مبعوث من قبل القوي القاهر لتبليغ رسالته إلى خلقه، كلف بهذه الدعوة ما رضي أن يتحمل كل ما تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيلها، ما رضي أن تلقى الأشواك في طريقه، ويلقى القذى على رأسه أثناء الصلاة، ويرى أصحابه يعذبون، فلا يملك إلا أن يقول لهم:((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة))
ومن بين ثنايا التاريخ نسمع صوت نبي الله نوح وهو ينادي ربه: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَاّ فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: الآيتان: 27،26).
ونقارن هذا الصوت الغاضب بصوت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن عاد من الطائف، وجلس في ظل بستان، وقد سالت الدموع من عينيه، والدماء من قدميه، نتيجة لما لقيه من أهل الطائف الذين خرج يدعوهم للإسلام، فلم يستجيبوا له، وسلطوا عليه أبناءهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة، وفي وسط هذا الإحساس بالقسوة والمرارة، يأتيه جبريل فيقول له: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فيرد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)) نسمع صوت الرسول في هذا الموقف في هذا الموقف، وبذلك يتأكد لنا أن اختياره عليه الصلاة والسلام لرسالة عامة للناس جميعا، وللبشر كافة لم يكن اختيارًا عشوائيًّا، وأن ذلك المدد الإلهي الذي كان يأتيه من السماء، قد علمه كيف يعايش المجتمع الذي أرسل إليه، وكيف يؤدي كل دورًا من أدواره في الوقت المناسب، كانت طبيعة الرسالة الإسلامية في مراحلها الأولى، تتطلب اللين والحكمة وسعة الصدر حتى لا ينفض الناس عنها؛ ولذلك يقول تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: من الآية 159).
ومن ثم كانت هذه المرحلة، تحتم الدعوة بالإقناع والموعظة الحسنة والوقوف عند هذا الحد:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: من الآية: 125)
واستجاب الرسول الكريم لهذه الدعوى، وظل ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتحمل في سبيل ذلك ما لم يكن يستطيعه بشر آخر، ولا نقول ذلك مبالغة، فهاهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن اشتد بهم الأذى يطلبون منه أن يدعو الله على كفار قريش، كما دعا نوح على قومه لكنه بطبيعته المهيَّأة للرسالة، يرفض ذلك رفضًا شديدًا.
روى البخاري عن قيس قال: سمعت خبابًا يقول: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة، وهو في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله فقعد وهو محمر الوجه، وقال: قد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحما أو عصبا، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
وبهذا الإيمان بعظمة الرسالة، وأن الله ناصرها في النهاية ظل الرسول هذه السنوات الطوال يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وينهى عن العنف والقتال، حتى جاء الإذن من الله برد العدوان، بعد أن دخل الإسلام مرحلة جديدة.
وهذا ما يدعونا إلى أن نتحدث عن رابع المعالم لتخطيط نشر الدعوة، وهو رد الاعتداء دون البدء به، قلنا: إن الخطة الناجحة هي التي تضع في اعتبارها عامل الزمن، وتلائم بين متطلباتها، وطبيعة المرحلة التي تعايشها، ولقد طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ بحكمة ودراية خلال مراحل الدعوة، فقد أمضى عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ إذعانا لأمر ربه وتنفيذًا لقول الله تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: من الآية: 35)
وكان أصحابه كلما شكوا إليه ما يصيبهم من الأذى، ويطلبون منه الإذن لهم بالقتال، يقول: لهم صبرا فإني لا أمر بقتال، وأخيرا حانت اللحظة المناسبة، فقد استقر الإسلام في المدينة، وأصبح قوة قادرة على رد العدوان، كما أن يهود المدينة تعاونوا مع قريش، وأخذوا في الكيد للرسول، ودعوته فكان لا بد من ردعهم، وجاء الإذن من السماء واضح محددًا في قول الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: الآيتان 40،39).
إلا أن هذا الإذن لم يكن أمرًا بالعدوان، وإنما كان إذنا برد العدوان، ولقد جاءت الآيات بعد ذلك توضح المعنى، وتحدد الهدف {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190).
وبالنسبة للفتوح الإسلامية، نجد أن الإسلام وهو دين عام شامل جاء لهداية الناس جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، مصداقا لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية 28) وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: من الآية 158) ومن ثم كان على صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أن يبلغها إلى كافة شعوب الأرض، فمن دخل فيها راضيا مرضيا فقد هدي إلى سبيل الرشاد، ومن لم يرد الله له بالهداية، فلا إكراه في الدين على ألا يعطل سيرها، ولا يعتدي على أهلها